رياض الصالح الحسين في ذكراه الثامنة والعشرين: بمثابة تحيّة لمن كان سيصبح أسطورة كاملة
منذر مصري
السبت، 20/11/2010، يصير عمر رياض الصالح حسين في طور حياته الثانية /28/ سنة، وبذلك يكون قد بلغ ذات العمر في طور حياته الأولى. وأجد بهذه المناسبة فرصة لمعاودة المحاولة، أنا أحد أشد المقربين له شخصياً ولتجربته الشعرية خاصة، لتبيان ومن ثم لفهم الأسباب التي جعلته يحتل هذه المكانة في المشهد الشعري السوري. وإن كان يحلو للبعض، وأنا منهم، أن يعتبر أن موته الفاجع عن عمر /28/ عاماً فقط، قد لعب لا ريب دوراً كبيراً في ولادة ما يشبه الأسطورة، وإقامة ذلك التمثال العجيب، الذي بحركته الدائبة، يجاري جسم رياض المرن وهو يمشي ويركض ويرقص. فإن ما يهمني هنا هو أن أعود وأؤكد على دور ما أطلقت عليه الخلطة السحرية التي ركبها رياض لأهم مؤثرات القصيدة السورية في السبعينات من القرن الماضي، من، أولاً: الإغواء الذي لا يقاوم لأدوات محمد ماغوط الشعرية، المؤثر الطاغي على قصيدة النثر السورية. وثانياً: العفوية، الشديدة التي اتصفت بها قصيدة بندر عبد الحميد، والتي كنت أعتبرها استسهالاً، إلا أنه تبين لي، منذ زمن ليس ببعيد، خطأي في هذا، لأن بساطة قصيدة بندر ليست أقل ولا أكثر من صورة مطابقة له تعكسها مرآته. وثالثاً: الانفعال والاضطرام اللذان ميّزا شعر التفعيلة ونثر نزيه أبو عفش، من كان برأيي المثال الأعلى الشعري والإنساني لرياض الصالح الحسين، وإن لفترة من الزمن. هذه التركيبة التي أوحت للكثيرين بقدرتها على تحويل أي كلام إلى شعر. كل هذا برأيي كان له الدور الأكبر في اعتبار قصيدة رياض بدورها المثال الأعلى لقصيدة النثر السورية. وذلك لأنها تلاءمت، على نحو مباشر وغير مباشر، مع الجو الثقافي والسياسي السائد في سوريا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم، وبالتحديد من أواسط عقد السبعينات إلى نهاية عقد التسعينات، حيث كان السوق الثقافي السوري مغلقاً في وجه التجارب الشعرية العربية الطليعية، أساليب ومضامين في آن!. رافق هذا تململ سوري ظاهر على هذين المستويين بالذات، وبخاصة بالنسبة للجيل الذي كان يقف عند عتبة تجاربه الإبداعية، وبصعوبة يسمح له بالدخول، الأمر الذي أدى إلى تفشّي هذه الوصفة وتعميمها مذ ذاك لليوم، حتى بات يمكننا القول إن قصيدة رياض ما زالت تكتب، وإن تجربته ما زالت تتابع وتتقدم، راسمة لليوم، إيجاباً وسلباً، أكثر ملامح القصيدة السورية انتشاراً ورسوخاً.
قد يجد البعض أن هناك قدراً كبيراً من المبالغة في إطلاق صفة الأسطورة على رياض صالح الحسين، بالتأكيد أوافق على هذا، وكنت دائماً أعترض عليه، إلا أنني منساق إلى مفهوم رياض بالذات، ومفهومي أنا أيضاً، بأن عمل الشعر، هو في أحد أهم وجوهه، أسطرة الواقع، وتحويل الهامشي إلى متن، رفع المهمل والمتروك إلى رف الصمديات، تجميع فتات زمننا وخلق حياة.. الأمر الذي جعله يطلق “أساطير يومية” عنواناً لمجموعته الثانية.
ثانياً ـ شهادات حية
محمد جمال باروت: قصيدة رياض، قصيدة اليوم، قصيدة الكلام، وقصيدة الشعور ذات البعد الواحد أو الصوت المفرد والمناخ الغنائي، ذات البنية الخيطية وذات الرؤية الجزئية (اهتمام بالأشياء الصغيرة).
كاظم جهاد: شاعر نفاد الصبر واختراق العالم والحياة.
بشير العاني: رياض الصالح الحسين آخر ورثة القصيدة اليومية.. وأول مجدديها.
أحمد يوسف داوود: شعر رياض الصالح الحسين تعبير الطفولة عن ذاتها وهي تواجه العالم بالدهشة وباللغة الخاصة.
نبيل سليمان: يشكل رياض الشعر بالبساطة المستحيلة ونقائض التاريخ والطبيعة، فإذا بكون آخر قوامه الحزن والاستفزاز واللعب الطفلي.
خلف علي خلف: وقد يوافقني البعض على القول إن تجربة رياض الصالح الحسين هي أكثر اكتمالاً مما قدمه الماغوط في هذا السياق، بل إنها قادت قصيدة الماغوط – إذا كان لا بد من اعتبارها الأب الروحي لها إلى هدوء داخلي، يقودها نحو الذات أكثر من المحيط.
منال الشيخ: ثمة أيقونتان في أعمال الصالح: الحزن والنبوءة.. أقفُ مشدوهة لهذا الحزن الذي لا ينتهي ولا يتوقف حتى بعد توقف نبضاته.. أكاد أجزم أنني أقرأ تبصيراً أو استشرافاً روحياً لما يحدث الآن وحتى اللحظة الأخيرة من تاريخنا الراهن.
أمجد ناصر: هناك شعراء يرأف بهم الزمن، يعطيهم فرصة بناء قصيدتهم سطراً سطراً، فيما هناك شعراء يتحققون، بمواهبهم الفذة، من أعمالهم الأولى. أنا (وكثيرون مثلي) من الذين يحظون، بزلفى ماكرة، بنفحة من رأفة الزمن القاسي، بينما لم يكن رياض الصالح الحسين ممن يتزلفون إلى الزمن، ممن لم يحتاجوا إلى رأفته، فقصيدته جاهزة وبصمته حاضرة منذ توقيعه الأول، وليركب الزمن أعلى خيوله .
ثالثاً ـ حياة مقتطعة
– 10/3/1954: ولد رياض الصالح الحسين في مدينة درعا، جنوب سوريا، لأب موظف بسيط من قرية مارع في شمال حلب.
– 1967: أصيب بالطرش وليس البكم، كما يظن البعض الآن، مما منعه من متابعة تعليمه، فقام بتثقيف نفسه بنفسه.
1974: ابتدأ بكتابة الشعر، وكتب قصائد تفعيلة، نشر بعضاً منها ثم أهملها جميعها منتقلاً لكتابة قصيدة نثر ترسم قطيعة شبه كاملة مع قصيدة التفعيلة السائدة آنذاك، فجاءت باكورته: “خراب الدورة الدمويّة” نثرية برمتها.
1978- غادر حلب وانتقل للعيش في العاصمة دمشق.
1979- عمل في مكتب الدراسات الفلسطينية حتى وفاته.
– خلال الأربع سنوات الأخيرة من حياته أصدر ثلاث مجموعات شعريّة، والرابعة صدرت في العام الثاني من وفاته، وهناك بالتأكيد عدد من القصائد لا تتضمنها المجموعات الأربع، وأخرى كتبها بعد إعداده لمخطوطة “وعل في غابة”، إلا أن أحداً من أصدقاء رياض لم يستطع الحصول عليها، وخصوصاً أن أباه قد حمل معه عند موت رياض كل الأوراق والكتب التي وجدها في الغرفة:
– 1979: “خراب الدورة الدمويّة” وزارة الثقافة دمشق/ غلاف ورسوم داخلية بشار عيسى/- 1980: (أساطير يوميّة) وزارة الثقافة – دمشق/ غلاف: عاصم باشا.
– 1982: (بسيط كالماء واضح كطلقة مسدَّس) دار الجرمق – دمشق/ غلاف: يوسف عبدلكي/
– 21/11/1982: توفي، يقال عن خطأ طبي، في مستشفى المواساة – دمشق.
– 1983: (وعل في الغابة) وزارة الثقافة- دمشق/ غلاف: هالة فيصل.
[ يلاحظ أن الفنانين الأربعة المذكرين أعلاه، يحيون خارج سوريا، وهم ذوو تجارب متنوعة وهامة في التشكيل السوري والعربي، أما يوسف عبدلكي فقد عاد منذ فترة قريبة.
رابعاً ـ قصيدة من كل مجموعة
رغم أنه لم تصلني بعد أعمال رياض الصالح الحسين الشعرية الكاملة التي صدرت أخيراً، ورغم أنني أحتفظ بالطبعات الأولى لمجموعاته الأربع وعلى الثلاث الأولى إهداءاته بخط يده، لكني أظنها موفقة لحد بعيد، المختارات التي نشرها الشاعر السوري على سفر في مدونته الالكترونية الخاصة، وذلك بأنه اختار قصيدة واحدة من كل مجموعة من مجموعات رياض الأربع. فأنا رغم اعتقادي أن مجموعة “وعل في غابة” تتضمن أفضل ما كتبه رياض، أرى أن أكثر ما يمثل رياض هو القصيدة التي راح يكتبها غير مكترث بشيء، سوى ما يتدفق حاراً في شرايينه مخرباً دورته الدموية، في المجموعات الثلاث الأولى:
[ ـ دُخان
كئيباً ومنفتحاً كالبحر، أقف لأحدِّثكم عن البحر
مستاءً وحزيناً من الدنيا، أقف لأحدِّثكم عن الدنيا
متماسكاً وصلباً ومستمرّاً كالنهر،
أقف لأحدِّثكم عن النهر
وعندما يصبح للنافذة عينان تريان يأسي
وللجدران أصابع تتحسَّس أضلاعي
وللأبواب ألسنة تتكلَّم عنِّي
وعندما يصبح للماء طعم الماء
وللهواء نكهة الهواء
وللحبر الأسود هذا رائحة الحبر
وعندما تهيّئ المطابع الأناشيد للقرَّاء بدلاً من الحبوب المنوِّمة
وتهيّء الحقول القمح بدلاً من الأفيون
وتهيئ المصانع القمصان بدلاً من القنابل…
سأقف، أيضاً، سأقف لأحدِّثكم عنِّي
لأحدِّثكم عن الحبّ الذي يغتال المراثي
عن المراثي التي كانت تفتح دفترها الملكي
لتسجّل أسماءكم في قائمة القتلى
عن القتلى المتشبِّثين بالضمّاد والميكروكروم
الذي لم يأتِ
وسأقف، أيضاً، سأقف
لأحدِّثكم عنّي
مثلما يتحدَّث الديكتاتور عن سجونه
والمليونير عن ملايينه
والعاشق عن نهدي حبيبته
والطفل عن أمِّه
واللصّ عن مفاتيحه
والعالم عن حكَّامه
سأحدِّثكم بحبّ، بحبّ، بحبّ
بعد أن أشعل سيجارة!.
(خراب الدورة الدمويَّة)
[ ـ بعد ثلاثة أيَّام
ما الذي سيحدث في هذا الضياء الواسع
إذا لم تشرق الشمس
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا الفضاء الواسع
إذا توقَّفت العصافير عن الزقزقة
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا الجحيم الواسع
إذا تعطَّلت أجهزة اللاسلكي
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا المستنقع الواسع
إذا توقَّفت الضفادع عن النقيق
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا القبر الواسع
إذا فقدتْ السجائر من الأسواق
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا الخنجر الواسع
إذا توقَّفت أمريكا عن أكل لحوم البشر
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا العالم الواسع
إذا أضربنا عن اليأس
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
وما الذي سيحدث في قلبي الواسع
إذا لم أحبك
بعد ثلاثة أيَّام (…)
(..) بعدَ ثلاثة أيَّام
بعد ثلاثة ايَّام
ستقابل عاملة في مصنع للنسيج
رجلاً يصنع التوابيت
بعد ثلاثة أيَّام
السماء ليست سوداء
والأحاديث ستكون أجمل
بعد ثلاثة أيَّام
ستقابل العاملة رجلاً
هي لا تحمل حقيبة
وهو لا يضع ربطة عنق حمراء
بعد ثلاثة ايَّام
ستحدث مهزلة بسيطة
– رغم أنَّ كلا منهما لا يملك أجرة تكسي-
عندما تقول له:
لا استطيع أن أحبك
إلاَّ بعد ثلاثة ايَّام (…)
(أساطير يوميَّة)
[3 ـ قمر
كل ما قاله الراعي للجبل
والنهر للأشجار
وكل ما قاله الناس وما لم يقولوه
في ساحات الرقص والمعارك
قلته لك
عن الفتاة التي تغنِّي في النافذة
والحصى الذي يتكسَّر تحت عجلات القطار
والمقبرة التي تنام سعيدة منذ قرون
حدَّثتك
زهرة جسدي، كل صباح
أقطفها وألقيها في الشارع
ليطأها القادة والحكماء واللصوص…
وزهرة جسدي، كل مساء
أجمع تويجاتها المفتَّتة لأجمعها لك
وأقول كل ما حدث لي
مرَّة بجانبك جلست وبكيت
كان قلبي حقل أرز محترق
وأصابعي تتدلَّى كألسنة الكلاب في الصيف
أردت أن أعَبِّرَ عنِّي بالحركات:
أن أكسرَ كأساً
أن أفتحَ نافذةً
أنا أنام…
وما استطعت
عمَّ أتحدَّث بعد ستة وعشرين عاماً
أو بعد ستِّ وعشرين طلقة في الفراغ؟
لقد تعبت من الكلام والديون والعمل
لكنِّي لم أتعب من الحريَّة
وها أنذا أحلم بشيء واحد أو أكثر قليلاً:
أن تصير الكلمة خبزاً وعنباً
طائراً وسريراً
وأن ألفَّ ذراعي اليسرى حول كتفك
واليمنى حول كتف العالم
وأقول للقمر:
صَوِّرْنا!.
(بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدَّس)
[4 ـ الخنجر
الرجل مات
الخنجر في القلب
والابتسامة في الشفتين
الرجل مات
الرجل يتنزه في قبره
ينظر إلى الأعلى
ينظر إلى الأسفل
ينظر حوله
لا شيء سوى التراب
لا شيء سوى القبضة اللامعة
للخنجر في صدره
يبتسم الرجل الميت
ويربت على قبضة الخنجر
الخنجر صديقه الوحيد
الخنجر
ذكرى عزيزة من الذين في الأعلى.
(وعل في الغابة)
المستقبل