المفكر الراحل نصر أبو زيد.. إشكاليات التأسيس وثمن الريادة
علاء اللامي
إن العرض التعريفي والتحليلي النقدي التالي، في إشكاليات التأسيس والريادة لعلم الهرمنيوطيقا في عالم البحث العلمي بلغة الضاد، على يد المفكر الراحل نصر أبو زيد، هو بالحري تلويحة وداع وعرفان بالفضل للراحل الكبير، على غرار تلويحتين أخريين أنجزنا إحداهما لذكرى الراحل محمد أركون، ونعكف على إنجاز الثانية لذكرى الراحل محمد عابد الجابري، وهي تلويحات تستبطن أملا بأن يواصل الجيل الشاب من الباحثين العرب البحث والعطاء في الميادين المعرفية التي نشط فيها أبو زيد وزميلاه الراحلان، وهي أيضا محاولة متواضعة لتسليط الضوء على هذا العلم المهم وجهود الراحل في استنباته معرفيا في ميدان الدراسات النصوصية ‘العربسلامية’ مسجلين اننا لا نزعم التخصص أو الضلاعة في هذا الشأن بقدر ما هو سعي للتلمذة على يد الأسئلة ونصوصها النقدية.
التعريف والبدايات:
يسجل أول ظهور مدون لمصطلح الهرمنيوطيقا ‘التأويلية / تفسير النص بالتأويل’ إلى القرن السابع عشر الميلادي بكونه منظومة القواعد والمعايير والأساليب التي يأخذ بها اللاهوتيون لتفسير الكتب المقدسة لدى المسيحيين ‘التوراة والأناجيل الأربعة’ وقد استمر معمولا به بهذه المعاني في الأوساط اللاهوتية وخصوصا البروتستانتية. ولكنه خرج في ما بعد، من دائرة اللاهوت لشمل أغلب العلوم الإنسانية كالتاريخ والإناسة والاجتماع وفلسفة الجمال والأخلاق واللسانيات وفروعها والنقد الأدبي والفولكلور.. الخ . ويعيد الباحث عبد الوهاب المسيري المصطلح إلى الكلمة اليونانية ‘هيرمينيون’ وتعني ‘يفسر ، يوضح ..الخ’ .
من العلماء الرواد والمؤسسين في هذا العلم بصيغته الحديثة والمعاصرة آنَ أصبح شاملا لكل نص وليس خاصا بالنص اللاهوتي والديني فحسب كما ظهر بدايةً، نسجل أسماء العلماء الألمان شلير ماخر (1843م) وويلهلم ديلش (1833م 1911) ومارتن هيدجر (1889- 1976) وغيرهم.
عربيا لم ينطلق المفكر الراحل حامد نصر أبو زيد من الصفر تماما، فقد سبقته محاولات قليلة ولكنها مهمة في هذا الباب، ولكنْ يسجل له أنه هو مَن فتح باب الهرمنيوطيقا الحديثة واسعا على مصراعيه، بتخصصية عالية وغزارة في إنتاج لا تنكر رغم الظروف العامة والخاصة الصعبة التي عاشها وعايشها. ومن المعاصرين يمكن أن نذكر أسماء بعض الباحثين الذين اشتغلوا في ميادين محايثة للهرمنيوطيقا الحديثة وأخرى تركزت على اكتشاف الدلالات المعرفية للمنجزات المعرفية كدراسات جابر عصفور ولطفي عبد البديع وشكري عياد وآخرين. أما من العلماء العرب القدماء والذين توقف أبو زيد بحثيا عند إنجازاتهم لا يمكن إلا أن نتذكر ونذكر اسمي العالمين الكبيرين عبد القاهر الجرجاني وابن جني واكتشافاتهما المثيرة والمتميزة منظورا لها في سياقها التاريخي إنما بعينين معاصرتين.
لقد أدت المقاربات التجريبية التي نفذها أبو زيد، في ضوء فهمه للهرمنيوطيقا للنصوص التراثية العربسلامية، إلى مشكلات خطيرة نتيجة ما يمكن اعتباره سوء فهم تحولَ فيما بعد إلى خطأ خطير في الفهم والاستقبال من قبل بعض المتلقين في الساحة الفكرية العربية والمصرية منها تحديدا، ومن قبل كتاب ومفكرين إسلاميين وحتى غير إسلاميين ليس لديهم أدنى معرفة بالعلوم الحديثة اللسانية والإناسية كالسيمولوجيا والسيموطيقا ‘علم العلامات’ والهرمنيوطيقا ‘علم تفسير النص’ والفينومنيولوجيا ‘الظاهراتية’ والعلوم الأخرى المتفرعة والأكثر تخصصية في مجالات الفكر الحديث الشتى.
استقبال ‘إسلامي’ معبر:
ويمكن أن يعطينا الاستقبال الذي خص به الكاتب الإسلامي د. محمد عمارة كتابات أبو زيد، في ميدان تعريف ومقاربة مفهوم النص، صورة عن ذلك الصدام الناتج عن سوء الفهم المتحول إلى خطأ خطير في الفهم والتعامل. يكتب د. عمارة (ولكن الأمر الذي أثار القلق في نفسي، وفجَّر لدي العديد من علامات الاستفهام، قد حدث عندما رأيت في معرض القاهرة الدولي للكتاب مؤلَّف أبو زيد: (مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن’!!.. عند ذلك: تذكرت حديث صديقي الأستاذ محمود العالم في ‘ليلة العزاء’ …إذن ‘فالنص’ الذي تخصص ‘الكادر الماركسي الواعد ـ الدكتور نصر ـ في تحليله، هو القرآن الكريم!!../ص7 التفسير الماركسي للإسلام / دار الشروق/ جميع علامات الترقيم من وضع د. عمارة) هكذا فهم الكاتبُ الأمرَ : كادر ماركسي تخصص في التعرض إلى القرآن الكريم من خلال اعتباره له مجرد نص، مع أنه يسجل لاحقا من باب التذكير أو الإنصاف، أن الماركسيين المصريين التزموا تاريخيا بفضيلة الابتعاد عن التعرض للعقائد الدينية. فإذا كان باحثا إسلاميا معتدلا، يحمل شهادة الدكتوراة، ومن خلفيات ماركسية هو الآخر وقد تخلى عنها لاحقا، يستقبل كتابات أبو زيد هذا الاستقبال، فكيف إذن يمكن لنا ان نتوقع استقباله من لدن إسلاميين متشددين. يمكن طبعا الرد على ما قاله د. عمارة آنذاك بسهولة، ومن خلال مقاله هو، على اعتبار أن الرجل ـ أبو زيد ـ لم يتعرض، بوصفه ‘كادر ماركسي’ ضبطه د. عمارة في مجلس عزاء، بسوء للقرآن الكريم، بل قاربَ بالدراسة وبوصفه باحثا علومَ القرآنِ الكريمِ، وبين القرآن وعلوم القرآن بون شاسع، فلا أحد يمكنه أن يُضفي القداسة، أو يطالب اليوم بإضفائها على علم التجويد وفنونه، أو على علم التأويل القرآني، أو إعراب القرآن نحويا، أو علم أسباب النزول مثلما نضفيها على القرآن الكريم ذاته بوصفه كتابا مقدسا لدينا نحن المسلمين! ما كتبه د. عمارة عن تلك المناسبة لافت ومعبر حقا، لنقرأه (فلقد ذهبتُ، ذات مساء لأداء ‘واجب العزاء’، في وفاة أحد المعارف، من القيادات الماركسية للحركة الشيوعية المصرية، في ‘دار المناسبات’ الملحقة بجامع ‘عمر مكرم’ بوسط القاهرة .. وكان يجلس بجواري الصديق العزيز، والقطب الماركسي المعروف محمود أمين العالم. وفي أثناء تبادلنا لأطراف من الحديث تقدم منا شاب لا أعرفه، فحيانا وصافح الأستاذ العالم ثم صافحني وانصرف عائدا إلى مكانه.. وعلق الأستاذ العالم ـ وهو يحدثني ـ ويشير إلى الشاب – معرفا إياي به ـ فقال: ‘الدكتور نصر أبو زيد .. أحسن من يحلل النص’ .. ولما كانت شهرة الأستاذ العالم، ‘كناقد أدبي’ تنافس بل وتتفوق على شهرته ‘كمنظر للماركسية’، ولأني لم أتوقع أن يطلق أحد على القرآن الكريم مصطلح ‘نص’، لشيوع هذا المصطلح في حقل الإبداع الأدبي والدراسات النقدية ـ النص المسرحي .. النص الروائي .. والنص الشعري .. الخ .. ، فلقد حسبت ان الدكتور أبو زيد واحد من النقاد الجدد الذين لم أتابع أعمالهم النقدية في حقل الآداب والفنون / ص7 م س)
معلومٌ أن باحثين قدماء، وآخرين محدَثين، قاربوا بحثيا القرآن الكريم ذاته كنص يُقرأ ويُتلى ويُفسر. فإن قيل إنه قورب كنص تاريخي، وليس كنص خالد ومتعال ومقدس وغيبي، فهذا قول مردود أيضا، لأن هذه الصفات لم تمنع القدماء من مقاربة ودراسة القرآن بصفته التاريخية، ولا تلك المقاربة التاريخية تنفي عنه تلك الصفات التي يتبناها المؤمنون بها، بل أن علم أسباب النزول بكامله، دليلٌ ساطع على تلك التاريخية، والأمثلة القديمة لا تكاد تحصى، بل إن أكبر صراع فكري، وأعظم معركة سجالية في التاريخ العربسلامي كانت تتعلق بالقرآن ذاته وماهيته ككيان نصي، وهل هو مخلوق محدَث أم غير مخلوق في ما عرف قديما بقضية ‘خلق القرآن’ وصراعات المعتزلة وخصومهم حولها، مع ما استتبع ذلك الصراع من تداعيات سياسية ودينية ومجتمعية في القرن الثالث الهجري ‘التاسع الميلادي’ واستمرت لخمسة عشر عاما. أما حديثا، فيمكن ان نُذَّكر بكتاب المفكر الراحل محمد عابد الجابري ‘مدخل إلى القرآن / مركز دراسات الوحدة العربية 2006’ مخصصا فصله الرابع لمسألة الوحي ومفهومه، وفصلا آخر هو الخامس لحقيقة النبوة والإمامة، ثم للوحي في الديانات التوحيدية الأخرى ، ولكن ذلك تمَّ بعد أكثر من عشرة أعوام من بدء ريادة أبو زيد دون أن يثير الزوابع التي أثيرت آنذاك، وهذا شأن آخر يستأهل التوقف عنده وقفة أسهب. غير أن الكسر المفهومي والمنهجي ليس هنا، أعني ليس في سوء فهم بسيط من زميل باحث ينتهي الأمر بتصحيحه في السياق البحثي، ولا في سوء ظن عابر من شخص ذي مسبقات، خصوصا وأن د. عمارة كان صاحب شهادة متوازنة وإيجابية قدمها للرأي العام وكانت لصالح أبو زيد في محنته المعروفة بمواجهة التكفيريين، حيث كتب (إن قضية الدكتور نصر أبو زيد، هي قضية فكرية، مجالها الحوار الفكري، والمختصون فيها هم المفكرون والباحثون. وهي ليست قضية قانونية، يختص بها المحامون ودوائر القضاء. وهذا ليس تقليلا من شأن المحامين والقضاة .. فالدكتور نصر صاحب مشروع فكري، وأنا ممن يختلفون مع قضاياه المحورية اختلافا جذريا. فكتاباته تدور حول تاريخية النصوص المقدسة، أي نفي الخلود والعموم عن أحكامها. وأنا أرى أن مثل هذه الأفكار يجب أن تكون موضوعا لحوارات فكرية جادة وموضوعية، لا ان تكون مادة لدعاوى وأحكام قضائية …فأنا ضد مصادرة كتب نصر أبو زيد أو سعيد العشماوي ومن لف لفهما، لأن الإسلام كان دائما يطالب بالبرهان. أما المشركون، فهم الذين كانوا يرفضون الجدال والحوار والمناقشة، بل ويصادرون الفكر ..الخ ص9 وما بعدها م س) بل في كون هذا الأخير، كان يرتاد ميدانا معرفيا جديدا وحساسا بأدوات علمية جديدة لم يكد يُسمع بها من قبل عربيا، فكان أبو زيد كمن يتكلم مع محمد عمارة باللغة الصينية في حين لا يفهم الأخير إلا العربية!
الردة المعرفية والاستلاب:
قضية أخرى قريبة من هذا السياق، مع انها لا يمكن أن تحسب على غرار سوء الفهم العابر أو المتعلق بالريادية، بل بموقف هو أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى الميادين المعرفية ‘الإبستمية’ نود التعرض لها، وهي تلك الخاصة بمفهوم الارتداد الفكري وربما الحضاري الذي يعتقد أحد الباحثين بأن تجربة مفكرنا الراحل انطوت عليه. وكان الباحث اللبناني المرموق علي حرب قد طرح هذه القضية في كتابه ‘الاستلاب والارتداد: الإسلام بين روجيه غارودي ونصر حامد أبو زيد / المركز الثقافي العربي / سنشير إليه لاحقا بالحرفين م س أي مصدر سابق’.
يقدم لنا حرب مقارنة، على سبيل المشابهة والمماثلة، بين غارودي وأبو زيد، ترد خلاصتها بعدة صيغ سنعرض واحدة منها وتقول (غارودي يدخل في الدين الإسلامي، في حين يجري إخراج أبو زيد من دائرته / ص10 م س) ولكن حرب يضيف في الفقرة ذاتها بل في السطر ذاته (وغارودي يدخل ووراءه مسيحيته وماركسيته في حين يخرج أبو زيد بسبب علمانيته وتقدميته) في الصيغة الأولى استعمل حرب الفعل المتعدي ‘إخراج’، أي ان أبو زيد لم يخرج من دائرة الإسلام، بل أُخْرِجَ منها من قبل طرف آخر، أما الصيغة الثانية فترد حين يستعمل الفعل اللازم ‘خرج’ أي بإرادته وخياره، لا بل أنه يستخدم في موضع آخر قريب فعل ‘خرج على’ في صيغة مختلفة ثالثة لا تعني الخروج المكاني بل التمرد والانشقاق المضموني والعملي وذلك في عبارة (الإسلام يجمع بين مثقفَيْن أحدهما يدخل إليه من خارجه ـ غارودي – والآخر يخرج عليه من داخله ـ أبو زيد-).
لا ريب في أن الفرق بين ‘خَرَجَ’ و’أُخرِجَ’ و’خَرَجَ على..’ ليس فرقا متعلقا بالشكل النحوي أو الصرفي فقط، بل الأمر يتعلق بجوهر المضمون الذي أراد الباحث إيصاله. ولكننا، مع ذلك، سنحاول مقاربة هذا المضمون من خلال استقراء النص في مفاصل أخرى، تاركين هذه الإشكالات ذات النمط الشكلي، النحوي، في هذه الفقرة، لأنها لا تقود إلى شيء ذي بال، ربما لكونها نتاج الصدفة السيئة والعشوائية في الاستعمال ليس إلا، فليس من المعقول أن يكون الشخص الذي أخرجه التكفيريون من دينه ومجتمعه ووطنه وطالبوا بتطليقه من زوجته، هو نفسه من خرج من هذا الدين طوعا مع احتمال براءته مما اتهم به، وهو ذاته مَن خرج على هذا الدين من داخله متمردا ومنشقا أو مرتدا كما سيرد في كلام لاحق لحرب.
إذا اقتصرنا كلامنا على أبو زيد، مُنَحّين عن قصد ما تعلق بغارودي لخروجه عن مقتضى المناسبة، وكيف نظر علي حرب لتجربته، سنجد الصوى والخلاصات المركزية التالية:
(أبو زيد مفكر عربي يحاول اختراق أسوار العقل الديني، بتبني قيم العقلانية الحديثة، والإفادة من إنجازات عصر التنوير…ولكنه بالرغم من دعوته التنويرية وموقفه العقلاني يرفع الشعار التالي: أنا أفكر إذن أنا مسلم، مستخدما بصورة خادعة المقولة الديكارتية ‘أنا أفكر، إذن أنا موجود’. وهكذا انساق أبو زيد تحت تأثير الإرهاب الديني، الذي يمُارَسُ ضده إلى تقويض الإنجاز الديكارتي منقلبا على عقله التنويري، إذْ التنوير هو خروج المرء من قوقعته الدينية ونهوضه من سباته العقائدي / ص12 م س).
ولأن عبارات من قبيل ‘الانقلاب على عقله التنويري’ و’قوقعته الدينية’ و’سباته العقائدي’ هي عبارات إنشائية عامة، وليست ذات محمول فكري بَيِّن، أو معطى نقدي محدد ومعين، فينبغي علينا البحث عن غيرها في متن كتاب حرب، عسانا نجد ضالتنا، لكي نفهمها، ونفهم القصد الأسأس للكاتب، مع ملاحظة أن ‘إنشائية’ هذه العبارات ليست خالية تماما من أي مضمون، فهي على الأقل تومئ لفهم صاحبها الخاص لثنائية صراع التنويري والديني التي قد يعتقد ـ حرب- إنها استغرقت تجربة أبو زيد، غير أن هذا الفهم يتناقض، بمعنى التعارض، مع أمرين: الأول، هو استحالة مفترضة لوجود الديني ‘المتدين؟’ التنويري، أو التنويري المتدين، والثاني عدم اتساقها ـ تلك الثنائية – المفهومي مع ما سوف يطرحه حرب لاحقا بخصوص مقولة الاستلاب.
نسختان من لاهوت التحرير:
يوضح لنا حرب اعتقاده بأن أبو زيد، مثله مثل غارودي في العمق، فكلاهما مستلب، وكلاهما محكوم بما يسميه ‘لاهوت التحرير’، ليس تماما بالمعنى المتداول لهذا المصطلح في أمريكا اللاتينية حيث بزغت وتكرست تجربة رجال دين كاثوليك يساريين قاتلوا في صفوف الحركات المسلحة الماركسية كالراهب القتيل كاميليو توريز والأب روميرو ورئيس الأساقفة وكامارا وسواهم ضد الأوليغارشيات الحاكمة وحليفتها الولايات المتحدة، ولكن بمعنى محايث له، فغارودي – بحسب حرب دائما – يريد تحرير البشرية من الانحطاط والبربرية وفقدان المعنى من خلال ‘لاهوت التحرير النبوي’. أما أبو زيد فيريد، تحرير الإسلام وأهله من الاستبداد الكهنوتي وإرهاب العقل الأصولي وظلام العقل الغيبي والخرافي بواسطة ‘لاهوت التحرير العلماني التقدمي’. وفي كلا الوجهين تُعامَل الحقيقة ـ كما يعتقد حرب- بشكل غيبي ما ورائي وبمنطق ثبوتي أحادي، إما بوصفها زمنا أول ينبغي استعادته بالارتداد نحو الماضي الذي لا ينفك يتقدم علينا لدى الأول ‘غارودي’، أو بوصفها زمنا أخيرا ينبغي اللحاق به بالتقدم نحو المستقبل الذي لا ننفك نتراجع عنه لدى الثاني. ولهذا، فالمستلب لا يستعيد هويته، ولا يبلغ حقيقته، لأن الهوية ليست ثابتة بل تختلف عن نفسها بقدر ما نتماهى معها. ولأن الحقيقة ليست جاهزة ولا متعالية بل هي تصنع وتتغير بمقدار وخلال ما نبحث عنها أو نتقدم صوبها، وهكذا ـ يستنج حرب معمما ـ أن الذين يشعرون بالاستلاب إزاء هوياتهم ومعانيهم لا يأملون معنىً، ولا يبلغون مراما، تقدميون كانوا أو أصوليون / ص 20 وما بعدها م س. غير ان هذه الشبكة من الافتراضات والاستنتاجات تنهار متى ما كشفنا عن البعد الماهوي للمقصود بالاستلاب، والذي لا يُنتج أكثر من وهم معبر عنه بكلمات ذات محمول وصفي ‘نفسي وذاتي’ عابر، أكثر مما هو مضمون معرفي إبستمي معين. وحتى إذا افترضنا، أن الاستلاب الذي يتحدث عنه حرب حاصل هنا – في حالتي أبو زيد وغارودي- كنتيجة لطريقتهما في الدخول والخروج، إذا استعملنا مفردات حرب نفسها، من وإلى الموضوع المستهدف بالدراسة، وأن عدم الوصول إلى الحقيقة، لأنها حالة متحركة متغيرة وليست استاتيك وثبات، فإنها بشكلها ومعناها هذين، ستكون خارج نطاق التفكير الذاتي للناقد ـ حرب ـ ولموضوعه ـ تجربة أبو زيد وغارودي- ، بمعنى إنها ستكون تحركا صوب الحقيقة، لا بوصفها حقيقة تامة ومنجزة بل نسبية ونامية، حتى وإن لم يعلن الاثنان ذلك، وحتى إن أصرَّ الناقد على نفيه، وسبب ذلك هو استقلالية الفعل عن نواياهم وتفكيرهم الشخصي أولا. ولأن ـ ثانيا- تجربة أبو زيد البحثية، على الأقل، لم تكن إلا تنويعا على شبكة من التطبيقات المنهجية التأويلية والتحليلية وليست جهدا خاصا يستهدف بناء دوغماهات تحمل اسمه أو اسم المدرسة الفكرية التي ينسبه حرب إليها، مع إننا لا يمكن أن ننفي بالمطلق انبثاث الشذراتِ الأيديولوجيةِ المحمول بين تضاعيف نصوصه.
لوثة الأيديولوجيا:
إن شخصية وذاتية تجربة أبو زيد كأية تجربة أخرى، وخصوصية المادة التي اشتغل عليها، وهي هنا التراث العربسلامي، لم تكن عملية تمرد أو انقلاب على ‘دائرة الإسلام’ أو خروجا عليه كدين من داخله كما توحي بعض تفسيرات حرب، بل هي محاولة ليس إلا لتقديم قراءة جديدة تسعى لمقاربة الحقيقية في تاريخيتها وحركتها ومدياتها الظاهراتية وفي تغيرها، عبر الآليات المعرفية المختارة (وهي هنا إنجازات الهرمنيوطيقا بتعريفها الحديث الناجز) في هذا السياق العلمي أو ذاك. بكلمات أخرى، ونحن نخص بكلامنا هذا تجربة أبو زيد تحديدا، إن تقرير حرب بأن مساعي أبو زيد العلمية ستنتهي إلى الارتداد عن الحقيقة، وطعنها باستمرار، ليست إلا استنتاجا متعسفا يفوح بالأيديولوجيا أكثر من غيرها، فهو لا يقدم أية تفسيرات وأدلة ومعاينات ناجعة وملموسة على المستوى البحثي سوى تكرار التوصيفات والأحكام المسبقة ضمن الترويج العام لتاريخية ونسبية الحقيقة اللفظي، تلك النسبية والتاريخية اللتان لا تتأثران بحالتنا الذاتية سواء اعترفنا بهما أو لا، بل إنهما ـ كما تعلمنا الدراسات الظاهراتية ‘الفينومينولوجية’ وخصوصا لدى هوسرل والذي يكن له حرب مودة بحثية خاصة – تواصلان ضبطهما وتَلَبْسهما لمساعي ونتاجات أبو زيد وحرب وغارودي وغيرهم في جميع الشروط والأحوال.
أما الاستدراك الذي يسجله حرب والقائل بأنه لا يتوجه بالنقد للأعمال الفكرية والعلمية البحتة لغارودي وأبو زيد بل للخطاب الأيديولوجي عند كل منهما، فهو مما يزيد الأمر تعقيدا وغموضا، سيّما وأن أبو زيد مثلا، لم يقدم خطابا أيديولوجيا (هذا إذا اتفقنا على أن المقصود بالأيديولوجيا هو المعنى السلبي السائد لها بوصفها مجموعة أوهام وحيل وتعليلات كما عرفها نيتشه، أي كقناع وليس كرؤية كونية مؤطَّرة ومؤطِّرة ذات فوائد وإيجابيات على صعيد تنظيمية الأفكار/ عبد الله العروي / مفهوم الأيديولوجيا ص 104) متماسكا ومستقلا بذاته ضمن نشاطه التأليفي أو التنظيمي السياسي الذي لا حضور له تقريبا في تجربته البحثية، بل ربما جاء على هيئة نتف وشذرات مُتضَمَنا ومُستبْطَنا في كتاباته ونصوصه العلمية المعروفة، وإذا ما صرفنا النظر عن كتابه السجالي والذي لا ينطوي على أية أهمية بحثية وعلمية ‘التفكير في زمن التكفير’، والذي كتبه في غمرة دفاعه عن نفسه خلال محنته المعروفة، وهو كتاب بسيط ويشوبه الارتجال و’الردفعلية’ كما نعتقد من حيث النوع والسياق، ولكن ذلك لا ينفي عنه توفره على الشرعية الأخلاقية والحضارية، التي لا علاقة لها بالسياقات العلمية البحتة، بل كشكل من أشكال الدفاع الفكري عن النفس.
باحث عراقي
القدس العربي