صفحات من مدونات سورية

نزوح..

كان على أحدنا أن يتوقف عن المتابعة ، أن ينزل من العربة فالدابة التي تجرّ العربة لم تعد قادرة على متابعة المسير ، قررت ُ أن أكون أنا ذلك الأحد ، لم أكن لأسمح للمزيد من الخوف أن يسكنني ، كنت ُ قد أصبت ُ بالتعب الكثير و القلق الكثير و لذا كان لدي ّ غضب ٌ كثير ينتظر أن يتفـجـّر بوجه أيّ من يعترض طريقي.
نزلت ُ و شكرت السائق على مساعدته ، حملتها على كتفي و سرت ُ بها بين الحقول ، أنفاسها الصغيرة كانت تدغدغ ُ رقبتي و يدها تلتفّ حول َ كتفيّ . عادت بي الذاكرة فجأة ً إلى حديث جدّي عن رحلة نزوحه من فلسطين و كيف حمل والدي على كتفه طوال الطريق و ها أنا ذا أحمل ُ طفلتي على كتفي و أنزح ُ مجددا ً و لكنني في هذه المرّة أنزح ُ عائدا ً !!
قد يكون اول ما يتبادر الى أذهانكم هو انني عائد الى فلسطين .. عائد الى “جنين” (مع الاعتذار لكنفاني الذي لامس حياتنا بشكل جعل من جملة عادية كهذه احدى الاقتباسات المشهورة) و لكن هيهات ! فأنا لم أفصح بعد عن وجهتي ، نعم: انني انزح عائدا و لكن إلى أين عائد ؟
أذكر تماما طفولتي في الأزقة المهترئة ، طفولتي المكللة بالتعب و الامل. لم تكن احوالنا المادية تسمح يوما بأن نذهب في رحلة الى خارج البلد (ولا حتى الى داخل البلد، فاحداث حياتي كلها، ما عدا رحلة واحدة، جرت في زوايا المخيم ).
اتذكر حكايا جدّي عن ايامهم الاولى في المخيم .. عن ايامهم الاولى في فتح صفحة فلسطينية جديدة. صفحة شُوهّت كثيرا فيما بعد، او ربما كانت مشوهة منذ البداية و ازدات تشوها مع مرور الوقت. حفظت جيّدا كيف كان لجّدي ان استحق الجنسية الاردنية بعد اقتناعه بانها ستسهل عليهم الحياة كثيرا. كانت الحرب الاهلية ، نُسيت الحرب الاهلية ، و توالت الخيبات مرّة تلو الاخرى.. و استمر الحال هكذا الى ان اقتنعنا ،انا و غيري من الاطفال ، بانه من غير الممكن ان ترى عيوننا الصغيرة غبرة جنين ..
و كانت الرحلة…
بدأت تمطر ، أنه ُ أيلول ( الأسود ) مجددا ً يهطل ُ بالتعب الفلسطينيّ ذاته . استيقظت بيسان ، و بدأت هي أيضا ً تمطرني بأسئلتها ” أين ” ” من ” ، ” كيف ” و لم يكن لديّ أجوبة ، نعم لا أجوبة . فكيف َ تشرح ُ لطفلة ٍ في الرابعة معنى النزوح ؟ معنى السير في أماكن موحلة لأنـّك غريب ٌ على الضفة الأولى من النهر و يتيم ٌ على ضفته ِ الثانية. كيف َ تشرح ُ لطفلة ٍ في الرابعة أننا نسير ُ قطعا ً للوقت لا المسافة ، و أن ّ الهدف مجهول ُ الهويّة . كيف َ تشرح ُ لطفلٍ في الرابعة أن ّ المنزل من الآن و صاعدا ً ليس َ بالضرورة أن يعني سقفا ً و بابا ً و سريرا ً ، و أن ّ الوطن لا يعني بالضرورة الأصدقاء و الأقرباء و كلّ ما يجمعهم . كيف َ تشرح ُ لطفل ٍ في الرابعة أن ّ الأصدقاء و الأقرباء كل ّ سيسكن ُ وطنا ً مختلف ، كيف َ تشرح ُ لطفلٍ في الرابعة أنّ لا وجود لهويّة فلسطينيّة في بلاط البترول العربي و أن ّ جواز سفري أصبح َ تاريخا ً ؟
أختلطت الأصوات في رأسي ، هل هو َ صوتي أم صوت ُ جدي ، أو عساه ُ والدي ؟ من المتحدث الآن ، أهي الذاكرة ؟ آه يا وجع الذاكرة ، ها أنا ذا أعاود ُ رحلة النزوح إلى نفس المكان ، مخيّم النزوح الأوّل ، هناك زرعت ُ فلسطينيتي و ها أنا ذاهب ٌ لأقطفها.
المخيم ، كيف لمكان مقيت كهذا، مكان مكتظ بجميع انواع الكائنات ، من البشر الى فصائل الحشرات و القوارض المنوعة ، ان يصقل شخصيات و مواهب؟ اهي اسقف الزينكو التي تدفع الانسان الى الابداع؟ هل هذا الخلق ناتج عن رغبة في الهرب من الصراصير؟ ام ان الانتاج كان مدفوع برغبة غامضة في تصليح السقف و شراء بيف باف قاتل ٍ للحشرات ؟ لقد درت دائما ً في هذه الدائرة عندما اكتشفت ،بعد ثلاث سنين على مضي المعرض الأول ، بان جميع لوحاتي كانت بشكل او باخر مرتبطة برحلتي الوحيدة الى جنين عندما كنت في العاشرة .
الحجارة ، الناس ، الوجوه ، البيوت ، حتـّى أحاديث العجزة ، كلّها تأتي من ألوان جنين . في معرضي الأخير سألتني إحدى الأوربيات عن العجوز التي رسمتها بجدائل بيضاء طويلة ، لم أستطع أن أخبرها بقصتها ، حشجرت ُ و كدت ُ أبكي ، إنها السيدة التي كانت تسكن ُ خلف َ منزلنا في المخيّم . لم تكن تقبل أن تقص ّ جدائلها لأنها ترفض أن تغيّر مصففة الشعر التي كانت تقصّ لها شعرها في فلسطين . ماتت العجوز و لم تقص ّ جدائلها ، إلى أن طالبت ُ أنا بهم ، كنت ُ في الثالثة عشر أو ربما في الرابعة عشر . طالبت ُ بهما لأنهما بالنسبة إليّ كانتا مفاتيح العودة و القضيّة ، كل ّ القضية .
في ذلك الأسبوع تعرفت لأوّل مرّة إلى الموت حسرة ً ، و لأوّل مرّة رسمت ُ لوحتي الأولى ، من جدائلها البيضاء المعتقة بفلسطين ، رسمت ُ جنين الأولى على شاهدة قبرها تماما ً كما كانت تحدثني عنها.
لا أستطيع ُ أن أخبركم ما هو الذي يجمع سكان المخيّمات تماما ً ، إنه ُ ليس َ فقط المكان ، و ليس الحاجات الوطنية ، أنها أشياء أكبر بكثير يصبح على أثرها موت جارة ٍ كموت َ قبيلة ٍ .
و هكذا توالت “الجنينات” الى ان تحولت وطنا ً ، كرة أرضية بطعم برتقالة من جنين الكبيرة . و كان معرضي الأول .. و كنت انا و كانت زوجتي و تبعتها ابنتي .
زوجتي كانت فرنسيّة ً ، كانت تعمل في وكالة الغوث عندما تعرفت ُ عليها للمرّة الأولى ، و منذ تلك اللحظة و حتى الآن ، كل ّ شيء في وكالة الغوث يبدو رومنسيا ً جدّا ً بالنسبة إلي .
ماتت زوجتي و بقيت ُ انا وحيدا ً مع طفلة ٍ في سنين عمرها الأولى . لم أعرف قبل َ اليوم بأن ّ الفلسطيني ّ يعيش ُ في كل ّ الأوطان و يموت ُ بها جميعا ً مع كل ّ فقيد يدفنه ُ و يرحل . لم تعد المدينة تطيقني ، لم أعد أطيقها . المدينة بكل ّ ذكرياتها ، لم أعد أطيقها . فحملت ُ بيسان و حملت ُ كل ّ اللوحات التي لطالما رفضت بيعها بانتظار أن أعرضها يوما ً في جنين ، و بدأت رحلة نزوح العودة .
بعد َ موت زوجتي ، أصبح كل ّ شيء مجرّد تاريخ على عكازتين. الأماكن ، الزهور ، الألوان ، بيسان ، حتى بيسان ، طفلتي الغالية بيسان لم أعرف إن كنت ُ أنا من ضمدت ُ جراحها أم هي التي ضمتني و دفعتني أن أمضي ، أن أقرر متابعة الحياة بعد أن إعتزلتها أشهرا ً .
لن أحدثكم عن زوجتي ، فزوجتي لغة قائمة بحد ذاتها ، الوطن الوحيد الذي عرفته ُ و الذي سلبه منـّي الموت كماما ً كما فعلت إسرائيل ، احتلها الموت رويدا ً رويدا ً بصمت ٍ حتـّى قرر يوما ً أن يطرد عنها الحياة و ينام مرتاحا ً على وسادتها ليشردني مجددا ً و يدفعني للنزوح مجددا ً أخرى .
ها أنا اليوم أكسر ُ الخوف َ و أقطع الحدود على عربة مهددة بالانقراض يجرها حيوان ناقم عليّ و على حمولتي الثقيلة .أمشي وحدي بحمولة مضاعفة! كيف كان لي ان اشرح لهذه الدابة ان ما جرّت خلفها كثوب شتوي ثقيل ما هو الا القليل اذا ما قورن مع حمولة الذاكرة و لخبطة المشاعر؟ و هل انا فعلا “احس” ام ان الذكريات المتزاحمة لم تعد تسمح لي بان اشعر باي شيء سوى وجوه لا شكل لها ، خيالات متحركة و روائح غريبة؟
نعم ، الان .. اصبحت رحلتي الجنينية و اللوحات الجنينية ، الآن فقط ، اصبحت هذه الاشياء تثقل كاهلي !
لذا علي ّ التخلص منها ، و ليس َ افضل لذلك من دفنها . بدأت ُ أدفنها ، واحدة ً تلو الأخرى ، كلّما قطعنا شجرة زيتون ، أدفن ُ لوحة، ادفن ذكرى. ربما كنت ُ في داخلي أحاول ُ أن أحفظ َ طريق َ العودة إن لم أجد مكانا ً يجمعني و ابنتي في وطن النزوح الأول .

نص مشترك بين شيري (طبشورة) من مدونة طباشير و ريتا  من مدوّنة عالبال
http://rita1313.blogspot.com/2010/11/blog-post_22.html
http://www.freesham.com/2010/11/blog-post_22.html

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى