رواية السجن وتوثيق الرواية
محمد ديبو
نادرة هي الكتب والدراسات التي تحدثت عن تجربة السجن في سورية، وأندر منها الكتابات التي تحدثت عن سجن النساء السياسي. ويعود ذلك لاعتبارات عديدة منها ما هو عام: يتعلق بالمخاطر الأمنية التي يتعرض لها من يتجرأ على الكتابة عن السجن السياسي أقلها الاستدعاء المتكرر للفروع الأمنية ، إضافة إلى سيادة الخوف الذي تغلغل في بنية المجتمع وعطبها عن الفعل والتغيير والمبادرة وكذلك غياب مؤسسات مستقلة قادرة على الفعل ترصد تلك التجارب وتحفظها من النسيان وذلك بسبب ضعف المجتمع المدني وتقهقر مؤسساته نتيجة تضخم دور الدولة التي اختزلت في سلطة أمسكت بالمجتمع وحاصرته في روابط ما دون مدنية ليسهل عليها السيطرة عليه والتحكم به. وهناك وضع المرأة في مجتمع تتسيّده علاقات الذكورة والعماء .
ومنها ما هو خاص يعود إلى النساء اللواتي تعرضن لتجربة الاعتقال حيث يحجم أغلبهن عن التعرض لم حصل معهن لاعتبارات نفسية وشخصية وإنسانية أقلها عدم قدرتهن حتى هذه اللحظة على الشفاء من السجن والاندماج في مجتمع لا يقبل السجين/ الرجل ولا يتعامل معه إلا كسجين سابق كما عبّر لؤي حسين في فقده. فكيف بالسجينة / المرأة في مجتمع متخم بذكورته وضوضائه؟
بعد تجربة هبة الدباغ في كتابها “خمس دقائق وحسب… تسع سنوات في السجون السورية” حيث حكت تجربتها الذاتية داخل السجون السورية معرّية تلك العوالم السوداء وفاضحة ممارسات الجلادين. جاءت رواية نبيل سليمان : سمر الليالي التي رصد بها روائيا تأثير السجن السياسي على أرواح خمس سجينات سياسيات معبّرا عن أرواحهن المعذبّة وتوقهن لهواء الحرية ، وأخيرا جاء كتاب الروائية السورية روزا ياسين حسن “نيغاتيف رواية توثيقية ” حيث رصدت آلام حوالي خمسين امرأة تعرضن للاعتقال السياسي ، من مختلف التيارات السياسية رغم غلبة السجينات اليساريات وذلك لأنهن اخترن الحديث والبوح بتجاربهن على خلاف السجينات الإسلاميات وبعض من ينتمين لتيارات أخرى اتهمن الكاتبة بالسعي للمتاجرة بتجاربهن كما تعبّر الكاتبة بقولها :(والكثيرات الكثيرات، ولنقل العشرات منهن، رفضن بصرامة أن يتحدثن إلي، أو يبحن بشيء عن تجاربهن. وتعرضت إلى أكثر من موقف طردتني فيه معتقلة أو قرعتني أخرى…… حاولت أن أحصل على قصص الإسلاميات، مثلاً، بطرق ملتوية وغريبة لكني لم أفلح على طول الخط. ذهبت إليهن متنكرة بزي إسلامي، كذبت لأكسب ثقتهن، حاولت أن أتقرب من أشخاص يعرفونهن.. عبثاً. أعتقد أن الخوف الذي مازال معششاً في دواخلهن، وبالتأكيد هناك تبرير قوي له، هو ما منعهن من البوح. وربما كانت هناك أسباب أخرى، شخصية أو اجتماعية أو عقائدية، منعت معتقلات أخريات. إحدى المعتقلات (الشباطيات) شتمتني متهمة إياي بأني أثير بلبلة في وقت عصيب، وأخرى (يسارية) اتهمتني بامتهان تجربتهن لأتاجر بها، على الرغم من أني وضّحت لها طويلاً بأني سأكتب أسماء المعتقلات الصريحة وبالتالي سيكن هن بطلات التجربة ولست أنا. بالمقابل هناك فتيات مثل لينا.و وهند.ق وناهد.ب وضحى.ع وحسيبة.ع بذلن كل ما في وسعهن لمساعدتي، سواء بإعطائي رسائلهن أو يومياتهن أو قصصهن أو صورهن وما إلى ذلك. وكنت قد وجهت لهن الشكر في بداية الرواية ” .(من حوار أجراه معها حسين الشيخ).
هنا نجد إصرار الكاتبة على رواية التجربة مهما كلّف الأمر، وحسنا فعلت.
رواية التوثيق وتوثيق الرواية:
الرواية التي اعتمدت أسلوب التوثيق بقيت منحازة للموضوع ، أي لم تنجرف نحو مزالق التوثيق التي تثقل النص وتسحب خيره، بل بقيت أمينة لجوهر الرواية بالارتفاع باليومي والراهن والمعاش إلى مصاف الإبداع والمتعة التي تولدها القراءة، حيث استطاعت الروائية / الموثقة أن تقيم جدلا رائعا بين التوثيق وفن الرواية، وأن تجعل من الوثيقة مادة قابلة للقراءة والمتعة بعيدا عن الضجر والملل الذي يصاحب عادة قراءة ما هو توثيقي وذلك وفق اعتمادها أسلوب توثيق جديد لا يوثق إلا ما يراه أمينا لجوهر الكتابة حيث بدأت الكاتبة برصد تجارب المعتقلات وفق مقاطع وموضوعات معينة ارتأت أنها الأكثر تكثيفا وتعبيرا عن تجربة الاعتقال بمواضيعها المتعددة فقد رصدت لحظة دخول المعتقلات عالم السجن للمرة الأولى، جلسات التحقيق الأولى بما يرافقها من تعذيب يفوق التصور لانتزاع المعلومات من المعتقلة، لحظة ملامسة الجسد الأنثوي لسطح الزنزانة، السجان من وجهة نظر السجينة، تعرّي السجينة أمام أعين المحققين، لحظات الحب المسروقة من براثن الموت، التصادم الفكري بين سجينات اليسار وسجينات اليمين، الطبقية داخل السجن، نظرة السجينة الأنثى لجسد الجلاد، ومصارعة شهوات الجسد المشقّق من الحرمان والباحث عن لحظة أمان تهدّئ قلقه .
لعل أهم ما في الرواية هو تركيز الموثقة على اللحظات الإنسانية المعبرة داخل السجن، بحثها عن الحب داخل فضاءات العتمة، نبشها في دهاليز السجان عن ذاته الحقيقية المختبئة في نقطة ما داخله خوفا من سلطة تتربص به أيضا وتحاكمه إن تهاون في أداء واجبه، إلى لحظات يعجز فيها اللسان عن الوصف فتكون الأغنية المعبّر الوحيد عما يختلج في النفوس من تناقضات وحيرة وعذاب وشوق وتوق لعالم من الحرية، إلى أن نصل إلى أشد اللحظات تكثيفا وبكاء وأثرا في النفس الإنسانية وهي لحظة ولادة الأطفال داخل السجن واستقبال الطفل بحفلة تليق به، لحظات تمتزج فيها القوة بالضعف، اليأس بالأمل، الحب بالكره، لحظات تجعل المرء يتساءل عن ذنب هؤلاء الأطفال ليحيوا ويولدوا في السجون، وأية قلوب سوداء تستطيع تحمل هذا الظلم بحق براءة الأطفال.
حب داخل السجن:
كيف يمكن للحب أن يحيا داخل فضاء السجون ؟
هذا سؤال من الأسئلة الكثيرة التي كانت تتولد في مخيلتنا لدى سماعنا نتفا من قصص الحب التي كان يعيشها السجناء، ولكن هنا نلمس ونقرأ تجارب حيّة لعشاق / سجناء حوّلوا السجن من قبور ضيقة إلى ممالك رحبة للروح العاشقة التي لا يقف شيء في سبيل وصالها مع من تحب، حيث تتكثف طاقات المرء للتغلب على كل العوائق وكسر إرادة السجن عن طريق ابتكار طرق محيّرة لا تخلو من المخاطرة من أجل نظرة واحدة أو كلمة تصل إلى أذن الحبيب ولو عن طريق الجدران الصماء التي استطاع السجناء/العشاق تحويلها إلى شيء حميمي تتماهى مع الأجساد الملتصقة بها من الجانبين، تروم لحظة شبق لا تأتي .
ترصد لنا الكاتبة لحظة انتظار العاشقة لقاء الحبيب أو مروره أمام الزنزانة كي تحظى بنظرة خاطفة تعيش على زادها ربما شهور وربما تكون تلك النظرة هي الأخيرة. ففي لحظة من أكثر اللحظات تعبيرا يرشو أحد السجناء الأزواج سجانه كي يسمح له برؤية حبيبته/ التي تصعد سقيفة الزنزانة لتراه رأي العين فترتبك وتتلعثم كعاشقة تقف للمرة الأولى أمام حبيبها مبتلة بخجلها، حتى تضطر صديقتها للغناء للتعبير عن حال تلك اللحظة بأغنية لفيروز : طل القمر لشو الحكي ..
هكذا استطاعت السجينات تطويع السجن والانتصار للحب والحياة في أكثر الأماكن قتلا للحب وامتهانا له .
أطفال في السجن:
قد يستطيع المرء أن يفهم دوافع السلطات في سجن النشطاء السياسيين والناشطات أو احتجاز امرأة رهينة ريثما يسلّم زوجها نفسه – كما في حالة الكثير من المعتقلات الإسلاميات- فهناك هدف تسعى إليه السلطات من ذلك، مغزى ما تريد إيصاله!
ولكن المحيّر والمربك في الأمر ما الذي تريده السلطات من سجن الأطفال ؟
بماذا يهدد الأطفال أمن السلطات ؟
أسئلة كثيرة تربكك وأنت تقرأ الصفحات التي تسرد فيها الأمهات الحوامل طريقة ولادتهن ورحلتهن الطويلة مع الآلام من لحظة المخاض حتى الولادة وضم الأم لطفلها الذي تتفتح عيناه على محيط من الرعب والموت والزنازين السوداء.
طفل يحيا سنته الأولى كاملة في السجن، طفلة تأتيها هديتها دراجة لتلعب بها في باحة السجن !
سميّة التي تبقى في السجن لأن لا أحد لها في الخارج يستقبلها، تترعرع في محيط من الحرمان والتشرد، تفتح عينيها على مرأى الموت وأبواب الزنازين، وبذاءات السجانين وعيونهم المشتهية والخائفة في آن.
ربما هذا الفصل من الكتاب / الرواية هو أشد الفصول إيلاما وأثرا وحفرا في روح القارئ، لملامسته أرواح الأطفال وحرمانهم وبذاءة عوالمهم التي قذفوا فيها لتدمّر براءتهم وتشم أجسادهم وأرواحهم بعاهات روحية لن يتسنى لهم الشفاء منها أبدا.
السجان: جلاد أم ضحية؟
تتحدث السجينات عن رؤيتهن للسجان ونظرتهن إليه، فهو تارة ضحية وتارة جلاد، الأمر الذي يثير أسئلة متعددة حول طبيعة التعامل مع السجان وخصوصا العناصر ذوي الرتب الصغيرة الذين اضطرتهم لقمة العيش أو الخدمة الإلزامية للخدمة في السجون فهم ممزقون بين أداء الواجب الذي تطلبه منهم السلطات “لحماية الوطن من المارقين والخونة”وبين واجبهم الإنساني المتمثل بإيقاف هذا الجحيم المستمر الذي قذفوا فيه. وهذا ما نلاحظه في الرواية حيث نجد نفس السجان القاسي والجلف في التعامل مع ضحاياه يبكي في أماكن معينة ويطلب من ضحاياه الغفران ويلعن الساعة التي وجد فيها في هذه السجون الصماء.
الأمر الذي يؤكد أن السجان مسجون أيضا، لا يعدم وسيلة للتحرر من سجنه أو إظهار جوهره الإنساني الذي لم تستطع إيديولوجيا الموت أن تقتله، فهو عليه أن يقاوم محاولات تشويهه ومسخه وحيونته، وذلك من خلال مساعدته السجينات ونقل أخبارهم إلى أهاليهم وغض النظر أحيانا متحملين في ذلك غضب أسياده الذين لن يتورعوا عن معاقبته ونقله في حال معرفتهم بتهاون عناصرهم في تنفيذ الأوامر كما حصل مع أكثر من سجان .
“نيغاتيف” رواية توثق تجربة السجن من وجهة نظر الأنثى السجينة، تحكي معاناتها وعذاباتها والظلم الذي وقع عليها داخل السجن، تعري عوالم المسكوت عنه والمغيّب والمحرّم تداوله في العرف الاجتماعي الذي مازال يتعامل مع الأنثى بعقلية الحريم، وفي العرف السياسي الذي مازال يرى في السجن وسيلة من وسائل استمراره وديمومته.
الكتاب : نيغاتيف: رواية توثيقية
الكاتبة : روزا ياسين حسن
تاريخ النشر 2008
موقع الآوان