يومَ شرعت دارينا الجندي في الكتابة العارية
جمانة حداد
لا أعرف دارينا الجندي شخصياً. لم نلتقِ، ولم تُتَح لي الفرصة لرؤيتها على شاشة أو فوق خشبة مسرح. لكني سمعتُ عنها، على مرّ الوقت، الكثير. جلّ ما سمعته كان في معظمه ثرثرة مكبوتين ومكبوتات (ما أوسع العيش لولا فسحتهم وفسحتهنّ الضيّقة). مثل هذا، يكفي امرأة مثلي لكي تقدّر امرأةً مثلها. هكذا. من بعد. وبلا سبب. أو بسبب هذا السبب بالذات.
لا أعرف دارينا الجندي شخصياً، لكني تعرّفتُ إليها في باريس منذ أيام. تعرّفتُ إليها لحماً ودماً على لحم الورق ودمه. كنتُ أواظب على أحد طقوسي الأحبّ الى القلب: التسكّع في مكتباتي المفضّلة واشتهاء ما يتجاوز قدرتي الشرائية من كتب ومجلات. فجأةً، رأيتُ على الطاولة المركزية في مكتبة L’écume des pages، بولفار سان جرمان، حيث يعرضون الاصدارات الجديدة، عملاً عنوانه “يوم كفّت نينا سيمون عن الغناء”، صادراً لدى “أكت سود”، ويحمل توقيع كلّ من دارينا الجندي ومحمد قاسمي. قلتُ لا بدّ أن يكون نص المسرحية التي عُرضت في “مهرجان أفينيون” المهيب، والتي تناهت إليّ أصداؤها الطيّبة ونجاحها الباهر لسنة خلت. اكتشفتُ، إذ شرعتُ في القراءة، أنه فعلاً كذلك، ولكن مزيداً وموسّعاً. دارينا الجندي روت، ومحمد قاسمي دوّن، وصاغ. وكانت الثمرة هذا النصّ الإستثنائي.
نصّ قاتلٌ في صدقه الشرس، صاعقٌ في بوحه الشجاع، مجنونٌ في جنونه المهلوس، ومتعبٌ متعبٌ في الوجع الذي يقول، وخصوصاً في الوجع الذي يحرّك. نصٌ هو انفجارات واستغاثات مجنّحة أتيح لها الخروج من نطاق الأنا الضيّق الى اللغة. يسرد المجازفة والمغالاة والشجاعة والموت والتوتر والعنف والتجاوز والسقطات، والحرية أيضا وخصوصاً: كأنه سردٌ لحياة لا يمتلكها أحد. حياة غير عادية لامرأة غير عادية. امرأة تعشق المشي على حبل رفيع فوق هاوية مفتوحة على هاوية مفتوحة على هاوية. هكذا. والى ما لا نهاية. امرأة ذات طبيعة نهمة وعنيفة ومتوحشة، مدمّرة لذاتها وللآخرين، لكنها حسّاسة حتى النزيف، تجرحها سنبلة تحت منجل أو ورقة تقع من شجرة. امرأة يحوطها ألف وجه وجسد، لكنها وحيدة، وحيدة حتى نقطة أخيرة في كأس أخيرة في محطة فارغة في مدينة نائية في بلد مجهول فوق قارة منسية على كوكب بعيد.
هكذا روت لنا دارينا حياتها بلا قيود ولا حدود. بلا تابوهات ولا تسويات. أكاد أقول بلا وعي في بعض الأماكن. الوعي غالباً ما يكون كلمة مهذّبة لوصف الرقيب الداخلي اللعين الذي يجعلنا نحسب حساب البابا والماما والعائلة والجيران والتربية والمجتمع و… الخ. روت كمن يصفق باباً وراء ظهره ويمشي. النظرة منقوصة، نعم. والرؤية ذاتية، بالتأكيد (كيف تكون سيرة الحياةٍ موضوعية أصلاً؟). والموصوف “جرائمي” غالباً. لكنّ العين ثاقبة ومسنّنة ووقحة و”انتحارية”، لا تهاب شيئاً. عين تهدم الهيكل: “عليّ وعلى اعدائي يا ربّ”. عين لا تستحي بما تراه ولا تعرف الخوف. وهنا أتساءل: أتراها لا تعرف الخوف، لجهلٍ فطري به، أم لمعرفة وثيقة به؟ في كل حال، لا فرق.
لا تمهيد في حكايات الجندي ولا مواربة. لا لطف ولا خبث ولا مراعاة. وحشةٌ هي. وحشةٌ مع نفسها، مع المقرّبين منها ومع الغرباء. كلماتها تؤلم وتغيّر وتؤثّر وتثير وتستفزّ وتلذع. تقول عريها التام. العري من كل شيء: من المحرّمات (الدينية والجنسية والاجتماعية)، من إدانات العائلة والبيئة، من الخشية على انعكاس الذات في مرآة الآخر، من أحكام الماضي والحاضر والمستقبل…الخ. هذا بامتياز نصّ امرأة “ما فرقانة معا شي”. وهي لا تقدّمه لنا من ثقب المفتاح، بل تفتح المصراعين وتشعل الضوء وترميه كصفعة مدوخّة في وجوهنا.
أنا لا أعرف دارينا الجندي شخصياً. بينما كنتُ أقرأ نصّها، ظللتُ طوال الوقت أتخيّل الوقع الناجم عن عرض هذه المسرحية في بيروت، وباللغة العربية.
ياه، كم أتمنّى أن تُعرَض هذه المسرحية في بيروت، وباللغة العربية!
النهار