الخلافة السعودية: موازين القبيلة والفتوى والدولة
صبحي حديدي
لعلّ المرء لا يملّ من استعادة النكتة التي يُقال إنّ الشارع السعودي يتداولها كلّما دنا أجل خلافة جديدة في رأس هرم العائلة الملكية الحاكمة في المملكة: إذا امتلك جميع المواطنين السعوديين حقّ الانتخاب، فإن بندر (بن عبد العزيز، 87 سنة، الزاهد في الحكم والبعيد عن الأضواء) هو الذي سيفوز؛ وإذا اقتصر الحقّ على ‘السديريين’ وحدهم، فإن الأمير سلمان سيكون الفائز؛ ومن جانبه سوف يحظى الأمير نايف بصوت واحد، هو صوته شخصياً؛ وأمّا الأمير سلطان، فسيحصل على… ما يستطيع شراءه من أصوات! ومع سفر الملك عبد الله إلى الولايات المتحدة في رحلة علاج، فإنّ تحرّكات الأمراء الثلاثة، سلمان ونايف وسلطان، تشير إلى أنّ ملفّ الخلافة قد انفتح، سواء طالت فترة علاج الملك أم قصرت.
وبمعزل عن تلميحات النكتة إلى ميادين السياسة والمال والفساد وطرائق تكديس النفوذ، فإنّ أيّ تغيير في هوامش المناورة داخل صفوف أبناء سعود يصعب أن يُقرأ بعيداً عن الحقائق التالية: أنّ الأب المؤسس كانت له 22 زوجة، أنجب منهنّ أكثر من 50 إبناً، قرابة 35 منهم ما يزالون على قيد الحياة؛ وأنّ نظام التوريث اعتمد تاريخياً على تحقيق التوازن الدقيق بين سلطة القبيلة، وسلطة الإفتاء، وسلطة العائلة الملكية، التي لا تقلّ عن 30 ألف أمير؛ وأنّ عمر أصغر كبار الورثة يبلغ اليوم 74 سنة، في حين أنّ ولي العهد يخطو نحو الثمانين، وهو عليل أكثر من الملك نفسه؛ كلّ هذا في مملكة يحدث أنها تتربع على… ربع احتياطي العالم من النفط!
كذلك يجب أن يوضع في الاعتبار ذلك التطوّر النوعي الذي شهدته المملكة في خريف 2006، حين أصدر العاهل السعودي أمراً ملكياً بتشكيل ‘هيئة البيعة’، التي تألفت من 35 عضواً، وأُسندت إليها مهمة تسمية وليّ العهد. وكان القرار من صلاحيات الملك حصرياً، فبدت الخطوة إصلاحية في نظر البعض، ومجرّد إجراء شكلي لا يمسّ تقاليد تنظيم الوراثة في المملكة في نظر البعض الآخر. ذلك لأنّ الملك ظلّ صاحب الحقّ في اقتراح اسم أو أسماء المرشحين لولاية العهد، كما أنّ الهيئة تتألف من أبناء الملك عبد العزيز مؤسس المملكة، وعدد من أنجال المتوفين من أبنائه. وبهذا المعنى فإنّ الملك احتفظ لنفسه بالحقّ في أن يستردّ باليد اليمنى ما قد يمنحه لهذه الهيئة باليد اليسرى، بافتراض أنّ أعضاءها يمكن أن ينشقوا فيما بينهم، أو يتمردوا على إرادة الملك.
جانب ثالث في مسألة الخلافة، وعلى ضوء إحداث ‘هيئة البيعة’ تحديداً، هو أنّ أحد أغراضها التكتيكية كان رغبة العاهل السعودي في توسيع هامش المناورة بين أقطاب العائلة الملكية، والذي كان ضيّق النطاق، يحتكره عدد محدود لا يتجاوز العشرة من كبار أبناء عبد العزيز، وخاصة مجموعة ‘السديريين الستة’، الذين كانوا سبعة قبل وفاة الملك فهد سنة 2005. وهؤلاء، كما هو معروف، هم أبناء حصّة السديري، زوجة الملك عبدالعزيز بن سعود المفضلة، ويتولون أبرز المناصب في الدولة: سلطان، وزير الدفاع والطيران والنائب الأول لرئيس الوزراء؛ نايف، وزير الداخلية؛ سلمان، أمير منطقة الرياض؛ عبد الرحمن، نائب وزير الدفاع؛ أحمد، نائب وزير الداخلية؛ وتركي الثاني، المقيم في القاهرة.
لكنّ القرارات الحاسمة، التي اتخذها الملك في أعقاب تشكيل ‘هيئة البيعة’، وكترجمة مبكرة لتفعيل مهامها، لم تكن في الواقع تضعف نفوذ السديريين مباشرة، بل لعلّها نقلت المزيد من المياه إلى طواحين مواقعهم، وزادت في ترسيخ نفوذهم وتحصين صلاحياتهم. ذلك لأنّ إصابة الأمير سلطان بسرطان في القولون، وإقامته طيلة أشهر خارج المملكة للعلاج، بدت السبب الرئيسي في قرار الملك إحداث منصب جديد هو النائب الثاني لرئيس الوزراء، أي وليّ العهد الثاني عملياً (عُهد به إلى الأمير نايف، الذي سيصبح ولي العهد مباشرة في حال وفاة سلطان، ومن هنا ترجيح دوائر أمريكية وغربية أن يكون نايف هو الفائز بالخلافة).
من جانب آخر كانت بعض القرارات الأخرى، التي اتخذها العاهل السعودي خلال الفترة ذاتها، تسحب بعض البساط من تحت أقدام السديريين، في الجيش ومجلس الشورى، وكذلك في عدد من الوزارات وميادين عمل الدولة الأخرى. وقد صدر أمر ملكي بتعيين الفريق الركن حسين القبيل نائبا لرئيس هيئة الأركان العامة، وكان قبلها يشغل منصب قائد القوات البرية، وحلّ محلّه الفريق ركن عبد الرحمن المرشد، وكلاهما من أخلص رجالات الملك في الجيش. كما انطوت القرارات على تعيين رئيس جديد لمجلس الشورى السعودي، وإعادة تشكيله للمرّة الاولى في عهد الملك عبد الله، بدخول 81 عضواً جديداً، مقابل استمرار 69 آخرين في مواقعهم. ورغم إجراء تعديلات على ‘هيئة كبار العلماء’، حيث توسعت إلى 20 عضواً يمثلون كافة المذاهب السنية، فإنّ المذهب الشيعي الجعفري ظلّ غائباً عن الهيئة، رغم أنّ الشيعة يكوّنون قرابة 10 بالمئة من سكان المملكة.
كذلك عيّن عبد الله 4 وزراء جدد، في الصحة والعدل والإعلام (التي تولى حقيبتها عبد العزيز الخوجة، السفير السعودي السابق في لبنان)، والتربية والتعليم (التي أسندت إلى الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد، زوج إبنة الملك)، إلى جانب تسمية السيدة نورة الفايز نائباً للوزير لتعليم البنات، وهذه هي المرّة الأولى التي يُعهد فيها لامرأة بمنصب على مستوى وزاري. وإذ رأى المتفائلون في هذه القرارات تعزيزاً لنوايا الملك الإصلاحية، وأطلقوا صفة ‘الإصلاحيين الجدد’ على شاغلي الوزارات الجديدة، فإنّ البعض اعتبرها تشديداً لقبضة الملك على آلة الدولة، وبالتالي فضّل تسمية هؤلاء الوزراء بـ ‘رجال الملك الجدد’.
وهذا الرأي الأخير اكتسب مصداقية واضحة حين صدرت سلسلة قرارات أخرى تعزّز مواقع رجال الملك، شملت تغيير رئيس مجلس القضاء، ورئيس ‘هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر’ (أو ‘الشرطة الدينية’ التي تتولى تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة العامة)، ورئيس ‘هيئة حقوق الإنسان’ الحكومية. من اللافت، مثلاً، أنّ هذه الهيئة الأخيرة كانت، في تقريرها السنوي، قد انتقدت مباشرة بعض ممارسات وزارة الداخلية (الأمر الذي يعني انتقاد الأمير نايف شخصياً، بصفته الوزير)، وتجاوزات ‘هيئة الأمر بالمعروف’ التي كان بينها الاعتقال التعسفي، وتفتيش الممتلكات الخاصة دون مبرر، والقبض على النساء دون محرم، والإجبار على التوقيع على محاضر دون قراءتها، واستخدام سيارات خاصة لنقل الموقوفين إلى مراكز الهيئة. وفي هذا الصدد، وعلى سبيل النقلة الدراماتيكية في المدى الذي يمكن أن تبلغه طرائق ترقية الدائرة العائلية والعسكرية المقرّبة من الملك، كان في طليعة قرارات العاهل السعودي النوعية، قبيل مغادرته للعلاج، تعيين نجله الأمير متعب رئيساً للحرس الوطني وعضواً في مجلس الوزراء. وفي واحد من تأويلات هذا القرار المفاجىء، يرى البعض أنّ العاهل السعودي يسعى إلى إقامة نوع من التوازن بين مؤسسة عسكرية يقودها نجله؛ ومؤسسة أمنية ـ استخباراتية يقودها بندر بن سلطان، الأمين العام لمجلس الأمن الوطني، الذي عاد إلى المملكة قبل أيام بعد غياب أقرب إلى النفي، واستقبله في المطار حشد من الأمراء البارزين، بينهم حليف محتمل أساسي هو الأمير مقرن بن عبدالعزيز، رئيس الإستخبارات العامة.
هنالك، إلى هذا كلّه، حقيقة عتيقة راسخة مفادها أنّ أوالية التوريث والخلافة في المملكة ليست دائماً بالسلاسة التي تبدو عليها في الظاهر، من جهة؛ وهي نادراً ما تأخذ صيغة سيرورة سياسية قائمة على توازنات القوّة ومحاصصة النفوذ وحدها، لأنها أيضاً مسألة إجتماعية تضرب بجذورها عميقاً في هياكل وتقاليد وأنساق المجتمع السعودي، من جهة ثانية. في عبارة أخرى، ليس من الواضح حتى اليوم ما إذا كانت فلسفة الخلافة في المملكة قد ضربت صفحاً عن معظم أو حتى بعض تلك القواعد الصارمة، البسيطة تماماً مع ذلك، التي أرساها ابن سعود في عام 1933، حين اندلعت نزاعات الأبناء وقرّر الملك المؤسس توريث سعود وفيصل في آن معاً، موحياً ضمناً بأن مبدأ الشراكة المعلنة هو القاعدة الناظمة للولاء العائلي.
هذا هو بعض السبب في أنّ مبايعة عبد الله نفسه بدت، مطلع آب (أغسطس) 2005، سلسة ويسيرة وخالية من أية عواقب دراماتيكية آنية. صحيح أنه لم يكن عضواً في نادي ‘السديريين السبعة’، وهو أخ غير شقيق لهم، وسلفه الملك فهد كان في العام 1992 قد انفرد بتثبيت مبدأ مبايعة العضو ‘الأقدر’ و’الأرشد’ بين أبناء عبد العزيز (مما أعطى سقيفة المبايعة صلاحيات الطعن في قدرة أو رشد أي عضو مرشح بحكم السنّ، أو أقدمية التسلسل في الخلافة، أو حتى ولاية العهد بموجب إرادات سابقة واضحة). ولكن من الصحيح، أيضاً، أنّ عبد الله كان النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء بقرار من الملك خالد؛ وكان ولي العهد، والنائب الأوّل، وقائد الحرس الوطني (75 ألف مقاتل، بتدريب أمريكي رفيع)؛ وكان، فضلاً عن هذه وتلك، أبرز المتحالفين مع عشائر شمّر، التي تمتد أفخاذها حتى مثلث الحدود التركية ـ السورية ـ العراقية.
ليس واضحاً، استطراداً، ما إذا كانت قواعد الخلافة السابقة، مثل اللاحقة، أو ما أدخله إحداث ‘هيئة البيعة’، قادرة على إسقاط المبدأ الآخر في تحكيم الوراثة، أي إقامة ميزان الذهب بين القبيلة والفتوى والدولة، وبين السلطة القبلية وسلطة الإفتاء والسلطة المركزية، أياً كان المحتوى الفعلي لهذه الأخيرة. ذلك لأنّ جزيرة العرب لم تعرف، تاريخياً، مبدأ الحدود التي ترسم شكلاً جغرافياً للدولة ـ الأمّة، وأغلب أراضيها صحارى شاسعة قطنتها قبائل بدوية تمثلت السمة الأساسية لحياتها في التنقل الحرّ طلباً للكلأ والماء والغزو في ‘ديرة’ قبيلة أخرى.
وبذلك لم يُطرح مفهوما ‘الوطن’ أو ‘المواطنة’ بمعانيهما السياسية والاجتماعية والثقافية، وكان الإنتماء إلى هذا الكيان أو ذاك يتحدد من خلال علاقة شيوخ العشائر برأس ذلك الكيان أو بشيخ القبيلة المهيمنة. ولأنّ تلك العلاقات ظلت متحركة وغير ثابتة، وبقيت عرضة للتبدل السريع والنوعي، فإن انخراط أبناء القبائل ضمن حدود ترسم كيانات سياسية أو تفصل بينها، بدا صعباً على الدوام. وتلك بعض السيرورات التي استولدت ما يُسمّى بـ ‘القوى الليبرالية’ أو ‘التكنوقراط’ أو دعاة الإصلاح، وتوجّب أن تشكّل قطباً موازياً موضوعياً للقطب العقائدي الوهابي المشيخي، الذي التحم الآن بهيكليته القبلية وبات الحامل الرسمي للقِيَم القبلية والأعراف والتراث والماضي التليد والدين.
هنا التركة الثقيلة المعقدة التي يجابهها آل سعود كلما تحتّم فتح ملفات الخلافة، فلا تدفعهم إلى التكاتف الأقصى حول الملك الجديد، في أيّ وكلّ ما يخصّ أمن الحكم واستمراره، فحسب؛ بل تزجّهم، كما ينبغي لأي سيرورة جدلية تنطوي على تقاسم القوّة، في تصارع مرير من أجل البقاء، والارتقاء. في عبارة أخرى، الكلّ رجال الملك المتوّج حتى تحين ساعة فرز الولاءات، وعندها… لكلّ وريث رجال!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –