السعودية: حكومة المنتجع في أغادير
د. مضاوي الرشيد
تاريخيا لا تنتقل الحكومات من عواصمها الى مدن اخرى خارج الحدود الا اذا تعرضت الاوطان لاحتلال ما او كارثة طبيعية تجعل من تدبير شؤون الدولة في الداخل امرا عسيرا يستوجب الانتقال الى مكان اكثر استقرارا وامنا كذلك هي تنتقل الى الخارج تحت ظل الثورات او الانقلابات لتشكل حكومات في المنفى تظل تعمل وكأنها حكومات شرعية حتى تفقد الامل بالعودة او تنجح في استرجاع سلطتها السابقة. اما في السعودية فهناك تختلف الاوضاع كليا فلا احتلال ظاهرا للعيان ولا انقلابات فجائية ولا ثورات شعبية تجعل من الحكومة مضطرة ان تنتقل الى الخارج ولكننا نلاحظ ظاهرة حكومة منتجع اغادير والتي اصبحت ظاهرة دائمة او شبه دائمة فرضتها معاناة الجسد وليس معاناة احتلال او ثورة الى ما هنالك من اسباب طارئة. لقد دخلت القيادة السعودية العليا مرحلة حرجة صحيا بسبب كبر السن الذي يطال اكثر من شخصية سياسية فالملك يصاب بوعكة صحية طارئة والنائب الاول ولي العهد يصارع المرض منذ فترة طويلة ومؤخرا اصاب الوهن امير منطقة الرياض والنائب الثاني لا يبدو بصحة جيدة. وليس من المستغرب ان ينتقل هؤلاء جميعا الى منتجع أغادير حيث يكون محطة استجمام طويلة بعد زيارة لمستشفيات متطورة في الولايات المتحدة واوروبا. لقد تكونت في اغادير حكومة شبه دائمة حيث تستقبل الزوار العرب والاجانب وتجري المفاوضات وتختتم صفقات التنمية ومشاريع تطوير البنية التحتية وتوقع العقود المستقبلية ويحج لهذا المنتجع الاخوان والابناء للتفاوض بالشأن الداخلي للاسرة ومعضلة توريث الحكم للابناء واعادة صياغة التركيبة الداخلية للبيت السعودي. وبالفعل قد بدأ الملك بمشروع التوريث ونصب ابنه رئيسا للحرس الوطني ووزير دولة وعضوا في مجلس الوزراء. ولن تكون هناك فترة انتظار طويلة حتى تقوم حكومة المنتجع باجراءات تسلم مفاتيح وزارة الدفاع وتبعاتها الى احد ابناء النائب الاول والمرشح هو خالد بن سلطان اما وزارة الداخلية فستكون من نصيب ابن وزير الداخلية الحالي ولكن توزيع الابناء على الوزارات لن يحل المنصب الاول في الدولة وسيبقى موضوع توريث العرش السعودي للملك القادم مبهما حتى تأتي الساعة. اذ ليس من المتوقع ان يقوم الملك الحالي باجراء يستثني حكومة المنتجع الموازية للحكومة في الداخل ويعين وليا للعهد من جيل ربما لا يحتاج الى الاستجمام في المنتجعات ولم يدخل مرحلة معاناة الجسد. ستظل حكومة المنتجع ذات اهمية كبرى لانها تضم عميد احفاد احمد السديري واخوانه والملك الحالي خارج اطار هذه الحلقة. وليس من الممكن ان يتجاوز صلاحياتها وطموحاتها في السيطرة التامة على مفاصل الدولة من منصب الملك وما دون ذلك من مناصب في الدولة واجهزتها. ولا نستبعد ان ينتقل هؤلاء الى اغادير بشكل نهائي خاصة وان كثرت وترددت الوعكات الصحية بعد ان يضمنوا لاولادهم وراثة مناصبهم فيتقاعد الجيل الاول في المنتجع بينما يدير الجيل الثاني دفة الحكم. هذا السيناريو المستقبل قد بدأ بالفعل وقد يتطور في المستقبل ليصبح حالة مستديمة تفرضها معطيات العمر والشيخوخة وعدم قدرة الاسرة على حسم مشكلة تشعب القيادة وكثرة الابناء الطامحين في الاستيلاء على مناصب جوهرية او جانبية في الدولة.
لقد استطاع الملك عبدالعزيز في الثلاثينات من القرن المنصرم ان يعزل اخوانه عن الحكم ويحصر وراثة العرش في ذريته عندما عين ابنه سعود وليا للعهد ولكن هذا العمل لن يكون من المستساغ او الممكن حاليا فالملك الحالي ليس بمقدوره استبعاد اخوانه وحصر الملكية في ذريته وكذلك ولي العهد والنائب الثاني وغيرهم من اصحاب المناصب الرفيعة من اولاد عبدالعزيز.
ان استحالة هذا السيناريو قد فرضتها حالة استئثار كل ابن من ابناء الملك الراحل بوزارة مفصلية مدعومة في بعض الاحيان بقوة عسكرية من حرس وطني مرورا بالجيش وانتهاء بقوى الامن الداخلي مما يجعل اي تفرد بالسلطة من قبل احدهم يفتح الباب ربما لمواجهة عسكرية تطيح بالجميع وتدخل البلاد في دوامة طويلة الامد لذلك لن يتجرأ اي من شخصيات الجيل الاول على عمل انتحاري كهذا ينذر بالاطاحة بالمشروع السعودي جملة وتفصيلا. لذلك تبدو القيادة السعودية انها امام خيارين لا ثالث لهما. اولا ان تبقى حكومة المنتجع كما هي عليه الآن في الخارج بينما يحكم في الداخل وكلاء يتم تعيينهم بشكل رسمي ويقومون بكافة مهام وزاراتهم نيابة عن آبائهم. او ثانيا: ان تبقى فدرالية الامارات الحالية كما هي عليه وتزيد من قوتها على حساب قوة الدولة الجمعية فتستفرد كل امارة مرتبطة بوزارة معينة بالقرار والتصرف غير آبهة بالكتل الاخرى ويتطور المشروع ليشمل ليس فقط الوزارات بل حتى امارات المناطق والتي قد تحول بعضها الى كيانات شبه مستقلة عن الدولة لها طابعها الخاص وربما في المستقبل قوانينها واعرافها المرتبطة بها. تشعب الفدراليات السعودية ربما يحتاج الى رأس يكون رمزا للمجموعة دون ان يكون له القوة المركزية والتي ترتبط عادة بالكرسي الاول للحكم. وان كانت الفدراليات عادة ترتبط بمفهوم الحكم اللامركزي ومبدأ المشاركة لمناطق معينة الا انها في القاموس السعودي تعني منطقا واحدا وهو مشاركة اعضاء القيادة في الحكم الجماعي خاصة بعد ان يقتطعوا من خزينة الدولة المركزية حصتهم من الثروة وبعدها يمارسون استقلالا محليا اما في وزاراتهم او في منطقتهم ويتحول الحكم الذاتي المرتبط بالفدرالية الى حكم شخصي يتوارثه الابن عن الاب وليس له اي علاقة عضوية مع القاعدة الشعبية بل هو يفرض عليها من فوق. لقد اصبحت هذه الصورة السوداوية سيمة من سيمات القيادة السعودية منذ منتصف التسعينات في القرن الماضي وحتى هذه اللحظة ورغم بعض الاجراءات البيروقراطية كهيئة البيعة الا انها ظلت حبرا على ورق لم يجرؤ احد على تفعيل نظامها الاساسي وسيظل المجتمع ينظر الى مشكلة الحكم على رأس الهرم والفراغ المحتمل وقوعه في المستقبل بشيء من الريبة. وما يزيد الطين بلة هو تقوقع المجتمع السعودي بعيدا عن مراكز صنع القرار وانعدام المؤسسات المدنية والتي يمكن لها ان تسد الفراغ ان حصل.
هذا الوضع والذي ربما انه فريد في العالم هو نتيجة حتمية لنظام الحكم التسلطي الذي لم يقبل ولن يقبل في المستقبل القريب بأي نوع من المشاركة السياسية التي تهيئ كوادر قيادية مستقبلية خارج حلقة الوراثة الضيقة والملكية المطلقة. ان هشاشة المجتمع السعودي مؤسساتيا وتنظيميا تجعله الخاسر الاكبر في عملية ترتيب الصفوف والتي تجاوزتها متطلبات العصر والتي هي تدار حاليا بين حكومة المنتجع ووكلائها في الداخل. وقد يطول انتظار هذا المجتمع للحظة الحسم الداخلية التي ستفرز ملك المرحلة المقبلة ولكنه سيركض كالعادة من اجل تقديم بيعة روتينية متلفزة ومن ثم ستتولى مهمة تلميع العرش الجديد أقلام مأجورة تعتاش على تقديم الصور الخلابة وتضليل الرأي العام الداخلي اذ ان هذه الاقلام اعتادت على قرع الطبول حتى في المآتم والكوارث الناجمة عن سوء التدبير والفساد واللامبالاة. وستبدأ مرحلة اكثر بريقا من المرحلة السابقة على الصفحات الاعلامية والشاشات المتلفزة دون ان يتغير المضمون وتختلف النتائج. وفي حالة الضعف والوهن تسلم المجتمعات امرها لخالقها وتنفي وجودها كقوة فعالة في تحديد مستقبلها وفرض قرارها وخيارها على من يحكمها لانها مجتمعات تربت على الاتكالية وخطابات الصبر على كسر الظهور وسرقة المال العام الذي يتطلب الطاعة والولاء كذلك تربت هذه المجتمعات على مقولات الراعي والرعية والفصل التام بين الشأن العام وبين الخاص حيث يبقى الاول حكرا على الخاصة القائدة والباقي يظل تابعا يلهث وراء من هو ادرى بالشأن العام وتدبيره.
لقد تراكمت هذه التربية على مر العقود وترسخت في العقل والنفسية الجمعية حتى اصبحت ازالتها اشبه ما تكون بالعمل الصعب او المستحيل وان لم يستوعب المجتمع ابجديات هذه التربية فسرعان ما يواجه السوط الذي ينتظر كل من ينحرف عن الاطار العام ومنهج الترويض السياسي القائم منذ فترة طويلة. وان كان للسلطة خياران ذكرا سابقا الا ان خيارات المجتمع اشبه ما تكون معدومة في ظل غياب العمل السياسي المنظم ضمن اطار مؤسسات دستورية حقيقية وليس وهمية مهمتها التضليل فقط. وسيظل المجتمع يتابع الرحلات المكوكية بين الداخل وحكومة المنتجع حتى تتمخض هذه الرحلات عن واقع جديد يتعايش معه المجتمع ويتقبل تداعياته على فرصه القادمة وحياته اليومية ومستقبل البلاد بشكل عام.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
القدس العربي