كلُّ شيء شعر!
أمجد ناصر
كلُّ شيء شعرٌ! لست من قال تلك الكلمات التي تحسن الظن بالشعر أو بالأشياء. إنها لشاعر تركيٍّ تلمَّس، بيديِّ عرَّافٍ قديمٍ، الأشياء، المشاعر، التي اعتبرها شعراً، أو بوسعها أن تكون كذلك.
لكني أشك أنَّ كل الأشياء والمشاعر شعر وإلاّ لاعتبرنا الحربَ، الدمَ الذي ينفجر من الشريان التاجي، عوادم السيارات، الفساد، غيوم التلوث الثقيلة فوق المدن، الحسابات التي تتكدس في أرصدة الأثرياء، السرطان الذي يأكل الأحشاء، الغرغرينا، الغدر، اللؤم، خيانة الأصدقاء، شعراً. ليس كل شيء شعراً رغم أن الأشياء والمشاعر التي عدَّدها الشاعر التركي بوسعها أن تكون. فصفير الريح، ندف الثلج المتساقطة، أسراب البجع المبعثرة في كبد السماء، الماء بين الصخور، الفرح، الحزن، نداء الحب، الأمل والألم، كل ذلك بوسعه أن يكون شعراً. أقول بوسعه لأنه، في حالته الخام ووضعه الكامن، ليس كذلك. تلك رومانسية لا تطاق اليوم، أو على نحو أدقّ، تلك رومانسية لا أطيقها شخصياً. ولكن من قال إنني مرجعٌ في ما يكون، أو لا يكون، شعراً؟ من يعرفني يعلم أنني أحاول كتابة الشعر منذ نحو ثلاثين عاماً، وعلى مدار تلك العقود تغير رأيي في الشعر أكثر من مرة، وتغيرت كتابتي أكثر من ذلك ولم أعد أجرؤ على القول الفصل بين ما يبدو شعراً وما لا يبدو كذلك. لم أعد أجرؤ. كنت أفعل ذلك بجنان ثابت ورأي حاسم وجفن لا يرفّ ونزق لا يعرف التسامح. كنت أقول هذا شعر. هذا ليس شعراً. لكني لم أعد قادراً، الآن، على حصر الشعر في مذهب أو خانة أو التماسه في مظنّة ٍ بعينها. لم تعد كتابتي، وما شابهها، هي الشعر وما يختلف عنها ليس شعراً. لم يعد النثر ضد الشعر، ولا الجوهري مسعى الأخير في مواجهة النافل، ولا اليومي في مقابل الكليّ. لم يعد للشعر مواضيع حكراً عليه ولا مفردات مطرودة، إلى الأبد، من ملكوته السماوي. ليس كلُّ شيء، على الأغلب، شعراً ولكن بوسع الشعر أن يلمّ بكلِّ شيء. أن لا يأنف من شيء. الشعر بوصفه كتابة وليس معطى جاهزاً في الطبيعة أو النفس. فالشعر كتابة تنتظم في إطار يسمّى القصيدة. وليست هناك وصفة مسبقة للقصيدة. ليس هناك وصف حاسم، جامع، مانع، للشعر. كل تعريفات الشعر التي وضعها الشعراء والفلاسفة والنقاد والقراء أصابت جانباً من ذلك العصيّ، المتفلـِّت، الذي يسمَّى الشعر ولم تصل إلى قراره. هذا لأن الشعر متعدد بتعدد كاتبيه. هذا لأنه طبقات. هذا لأنه موجود على السطح وفي الوقت نفسه لا قرار له. قريب وبعيد في آن. هذا لأنه مختلف باختلاف بيئات وأرواح وثقافات رافعي راياته. أحمق من يحاول وضع تعريف للشعر، فلن يصمد هذا التعريف يوماً. قوّة الشعر، سحره، مكره، قادرة على التسلل إلى أرض قد لا تبدو، للوهلة الأولى، أرضه. وإلى هذه الأرض المعلومة والمجهولة يأخذنا عبد القادر الجنابي في كتابه « الأنطولوجيا البيانيّة» الصادر حديثاً عن « دار الغاوون» في رحلة إلى ألف وجه للشعر.
***
يعلم الذين يعرفون الجنابي أنه لم ينشغل، كيانيّاً، كما انشغل في سؤال الشعر كتابة وسجالاً وترجمةً وصلت، في مرحلة سابقة، حدّ المشاحنة والاحتراب. ذهب الاحتراب والمشاحنة مع تراخي عصب الشباب النافر وظل سؤال الشعر، جوهرياً، يلمع في ظلمة « الآونة الأجيرة» على حد تعبيره. ولكن يبدو أنَّ كلَّ أوانٍ أجير، كلَّ آوانٍ إنسانيٍّ مخطوف من قبل القوى نفسها التي تحقّر من شأن الشعر وترى في قائليه غاوين « في كلِّ وادٍ يهيمون»، كلَّ أوانٍ يجرِّب سياسة العصا والجزرة مع الشعر: أعطه يا غلام ألف درهم أو النطع والسيف.
يفاجئنا بنجامين بيريه الذي يقدمه الجنابي في كتابه ببيان يعود الى مطلع أربعينيات القرن الماضي بالقول إن « معنى الشعر، تخفيه، اليوم، بهارج المجتمع التي لا تُحصى»! ليست شكوانا من « بهارج المجتمع» التي « تخفي» الشعر جديدة إذن؟ فقبل أن يتحول التلفزيون ( هذا الوليد التكنولوجي الذي جعل من التوافه الاجتماعية، الطباخين والتنانير القصيرة، الزمر والطبل، المهرجين وقارئي الطوالع، مائدة الأوقات العامرة) إلى وحش نهم يلتهم كل شيء كانت « بهارج المجتمع» تطغى على « معنى الشعر»! لا جديد إذن.» الآونة الأجيرة» تمتد من زمن نفي أوفيد مروراً برسالة طرفة بن العبد القاتلة وصولاً إلى مقتل محمود البريكان على يد لص في البصرة. لم يكن هناك، إذن، «أوان» للشعر. لكن للشعر، نكاية بذلك، « كل الأزمنة». هل هذا صحيح؟ هل ما أقول مجرد عزاء ذاتي بغلبة الضجيح على الشعر، بتفوّق الثرثرة على سرّ القصيدة؟
قد يكون وقد لا يكون. وليس هذا ما جاء به الكتاب. المهم في الأمر أن « الانطولوجيا البيانيّة» ترينا إلى اي حدٍّ يمكن أن يذهب إليه الشعر، كم وجه له، كم لسان. تلك هي بيانات الشعر الكبرى التي حاولت أن تراه في الشذرة كما في السرد، في اللغة كما في الصورة، في الايقاع المنضبط كما في النثر المنسرح، في المتيافيزيقي المُحلـِّق كما في الدنيويّ والأيروسيّ . ليس للشعر وجه واحد وليست له وصفة جاهزة ولكنّ له، في كلِّ لغة ، في كلِّ شكل، سرّاً واحداً لم يقيض لأي بيان منها أن يفتي، على نحو يشفي الغليل، بشأنه. البيانات فتاوى ولكنها قابلة للانتهاك وعرضة للتجديف، لأنها إنسانية، لأنها، أيضاً، ابنة التاريخ الذي لا يفعل الشعر الحقيقي سوى إقامة مصالحة معه ولكن لصالحه، على حد تعبير أوكتافيو باث. تلك المصالحة لا مهادنة فيها، لا مساومة. إنها عملية تحويل لطبيعة التاريخ، بحسب باث أيضاً. هكذا، دائماً مع باث، تصبح القصيدة عيداً بلا مناسبة، عيداً بحد ذاتها.
***
الشعر تفكير في « الأبديات الصغيرة المنسية»، هكذا يقول روبرتو خواريث أحد شعراء الأرجنتين البارزين. في « الأنطولوجيا البيانيّة» وقفة معه، مثلما هناك وقفات مع من أدلوا بـ « بيانات» في الشعر. تتعدد البيانات وتختلف في هذه الانطولوجيا ولكنها تكاد تتفق مع قول خواريث. إنه ذلك الجمع العجيب، الصائب، بين متناقضات أو ما تبدو متناقضات. فالأبديُّ لا يستقيم مع الصغير. للأبديِّ سَمْتُ الكبير وهالته. الصغير نافل ومهمل ومغضوض عنه الطرف. متجاهل. وبالتأكيد منسيٌّ. يأتي الشعر فيحيل هذا الصغير الذي لا شأن له، في حسابات السائد الإنساني أو الإلهي، إلى نوع من الأبد. هذا، على الأغلب، ما قصده الشاعر التركي بهرام أوغلو الذي استهللت به مقالي. كلُّ شيء شعر، يصبح صحيحاً بهذا المعنى. اليد التي تلوّح وداعاً، الطفل النائم في غرفة الشاعر المجاورة ( طفله بالذات)، الشعور بالوجود على قيد الحياة. يمكن أن نضيف إلى ذلك رجلاً يقصُّ أثراً في الصحراء، رائحة القهوة التي تفاجىء المبكرين إلى أعمالهم، وقوف امرأة أمام مرآة للزينة، قطعة نقد يدسّها أبٌ في جيب ابنه، سكة حديد لم تعد تمرُّ عليها القطارات، مريض في مستشفى يحلم بالشفاء، لاعب كرة قدم يسدّد هدفاً في المرمى إلخ إلخ. لا نهاية لهذه الأبديات الصغيرة المنسية التي لا تدون دائماً في الكتب ولا تظهر على شاشة ولا يتغنى بها مغن أو مغنية. أبديات ترزح في التجاهل والعزلة والنسيان ولا تعني شيئاً لمدوني التاريخ. الشعر، وحده، قادر على منحها حياة ثانية، قد تكون دائمة أو لا تكون، ولكنها، بالتأكيد، أطول مما يمنحها وزنها في مكاييل السائد.
Email: amjad@alquds.co.uk
www.facebook.com/amjadnasser
القدس العربي