صفحات ثقافية

على هذه الأرض

null
نديم جرجورة
على هذه الأرض، لا شيء يستحقّ الحياة. فالأفق ضيق حدّ الاختناق. والريح منكسرة على حافة الهاوية، أو فيها. والحبّ ممنوع إذا طلع من القلب وجال على الحواس كلّها كي يرسم دربه إلى الفرح. والفرح ممنوع أيضاً. إنه توأم الحبّ ونقيضه في آن واحد. توأم الحكاية المبتورة عند انفصال مفروض عليك، أو موت يأخذ صديقاً أو أكثر منك في غفلة عين. على هذه الأرض، لا شيء يستحقّ الحياة. لكن الموت لا يأتيك، لا طوعاً ولا احتيالاً ولا مباشرةً. يراك من بعيد تسقط سريعاً في جحيم الدنيا، فيسخر من وهنك منقلباً على صدره من شدّة الابتهاج بخرابك. وهو لا يأتيك. لا يريد راحة لك أو شفاء من أمراض الجسد والروح. يحيطك من كل حدب وصوب. ينهش منك أجزاء قليلة في كل مرّة: تارة بانفصال الحبيبة وابتعادها إلى أقصى الغياب عنك، وإن رأتك أو جلست إليك لحظة واحدة على الأقلّ. وتارة أخرى بموت صديق أو أكثر. لكنه لا يأتيك.
ما أجمل الموت المقبل إلى المرء سريعاً. التعذيب قدرٌ تريده الآلهة عقاباً لك لأنك ارتضيت حبّاً يزيل عنك بعض ألم ممزوج بخيبة العيش في الهاوية. والحبّ ملاذٌ ظننتَ أنه قادر على حماية هشاشتك من قسوة الدمار الذي يُحاصر راهنك من الجهات كلّها. وتنسى أنك مقيم في قرن فارغ من صدق وشفافية ومتعة واحدة على الأقلّ. لكنك تعاند. تتمسّك بحبّ غير مقبول، ينساب من بين يديك ومسام قلبك مخلّفاً فيك أقسى أنواع الجراح. والجراح لا تندمل. فالموت يخطف صديقاً أو أكثر في أسبوعين اثنين، تتويجاً لعام لا ينقضي، لشغفه في منحك مزيداً من ضربات لا تلين ولا تهدأ. والرفاق من حولك ساخرون هم أيضاً، لأنهم لا يريدونك على صورة مخالفة لواقع يعتقدون أنه الأسلم. الرفاق من حولك متألمون هم أيضاً، ولآلامهم ألف حكاية وحكاية. لكن الوجع ضاربٌ في الموقع النازل فيه. والموت، إذ يأخذ منك صديقاً أو أكثر في أسبوعين اثنين، يُصبح الهدف الذي كلما سعيت إليه ابتعد عنك واثقاً من نفسه. والموت، إذ يأخذ منك صديقاً أو أكثر في أسبوعين اثنين، ينظر إليك بعينين واسعتين وفم مفتوح على الدم والشقاء وابتسامة ملعونة، قائلاً لك أسمى آيات الهزء منك لضعفك في الخلاص الفردي من حصار الذلّ والتوهان.
على هذه الأرض، لا شيء يستحقّ الحياة. لا أول الحبّ ولا آخر الذكريات. لا منافي الخيبة ولا أوطان التيجان المعلّقة على العفن. فالحبّ، بأوله أو من دونه، مرفوضٌ. والذكريات مكتوبة على شاهد قبر لا يفتح بابه إلاّ لصديق أو أكثر. والمنافي سحيقة. والأوطان مسيّجة بالخراب. والمكان ليس لك. والمدينة مُغلقِةٌ أبوابها أمامك.
على هذه الأرض، لا شيء يستحقّ الحياة. والموت ساخرٌ منك أبداً. فأين المفرّ؟ وكيف الخلاص؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى