معرض السوري بهرام حاجو: جمـاليــة الشحــوب
بهرام حاجو يذهب الى الأساس في تركيب مخلوقاته وألوانه لا تثرثر
يعرض الفنان السوري الكردي بهرام حاجو مجموعة من اللوحات في “غاليري عايدة شرفان”، ساحة النجمة، يستعمل فيها التقنيات المختلفة ويجاري العصر مع الاخذ في الاعتبار التطورات الجمالية والتبسيطات المؤسلبة. يلجأ الى تجريد الارض الملونة مونوكرومياً فيجعل اللوحة موسعة في الاطراف المتوجهة نحو الخارج، بينما يتجمع الأشخاص في الوسط حيث يتسمرون في وقفات ملتوية احياناً ومنحنية احيانا اخرى.
لا يحتاج حاجو الى الثرثرة اللونية بل يكتفي بالقليل منها انما يكثر من اللون المسحوب من الانبوب ويفلشه على القماشة ويتركه يستريح. لا تشعبات ولا تمددات في الصبغات بل تكوينات محددة المعالم، فيها حكايات واسرار ووشوشات لا تقال سوى لمن يسمعها ويتوقف عندها للتواصل معها.
لا يتوقف الفنان طويلا عند العناصر المكوّنة للأشخاص بل يذهب بسرعة مدروسة الى الاساس في تركيب مخلوقاته كأنها خارجة من مفردات تشكيلية مبسطة تكتفي بما يؤطر وجودها ويجعل ظهورها محببا ومرحبا به. تأتي التسميات لتؤكد الحضور الانثوي في ثوب ذي خصوصيات لونية حارة ودافئة. ثم الوحدة في الاسرار والفستان البرتقالي او الاصفر. لا يهم العنوان بل الحضور الطاغي في اللوحة. فالاشخاص لهم ملامحهم لكنهم لا يرغبون في البوح اكثر مما تكشف عنه التعابير في الجسد المجمد او الآخذ في الاضمحلال لأنه يميل الى الانسحاب من دون ترك اثر لمروره عبر اللون وفوق القماشة التي حبست بعضا منه رغما عنه.
يقدم المعرض الذي يستمر الى 3 كانون الاول، لوحات بقياسات كبيرة في غالبيتها، حيث الازواج في حلل خارجة على المألوف لأنها تبدو مضافة بعدما رُسمت الأجساد في عريها اولا.
يستعين الفنان بتسهيلات خطوطية فيرسم الاشخاص أكانوا من الذكور ام من الاناث، شبيهة بملصقات تم قصها ثم عمد الى إلصاقها بطريقة مطواعة، مؤسلباً شكلها المختصر بخطوط مستقيمة بعض الشيء وبعيدة عن المنحنيات والتعرجات حتى عندما تغطي ما يفترض انه الفستان او الشلحة او اللباس. هذه الحاجيات تشكل الفروق بين الاناث والذكور، وبين الالوان الفاقعة والقوية التي تزين النساء، بينما الاقمشة الضيقة لا تتجاوز المشلح الذي بالكاد يمثل التمايز، لأنه فقط لتثبيت التوازنات اللونية احيانا او لخلق تناقضات تفجر احاسيس بصرية، فيها اشارات ترضي الذوق وتراعي المتطلبات الحديثة في المظهر والانحباس في الحركة والتفرد بحركات قليلة تخدم الشعور بأننا امام اشخاص يمثلون ادوارا خُصصت لهم وتطالبهم بالانكفاء او الهجوم بحسب رغباتهم الدفينة او شرود الفنان، الذي تركها للحظات فريسة مشاعرها او رغباتها او حتى استسلامها للعزلة، حتى وإن تكن محاطة بآخرين.
ثم نكتشف ان بهران حاجو لا يزعجه التنكيل بأشخاصه، فهو يظهرهم مبتورين من بعض اعضائهم فتبدو هذه الأعضاء ممسوحة ومموهة وزائلة ولم يبق منها سوى طيفها يتمترس فوقه الرأس المرسوم بدقة والمكتمل الملامح حتى الوقاحة.
في “الأزواج” وشوشات وحوارات، انما لا تواصل جسدياً ولا تناغم ولا حتى تناسق. كل فرد باق على خصوصياته، حتى ولو انوجد في الوقت نفسه مع فرد آخر. نشاهد عزلات بين البشر. نراهن على الالتقاء لكننا لا نرى سوى اناس لا يولد بينهم التواطؤ او الانسجام. ثمة نظرات في هذه الوجوه المستطيلة، حيث عُلِّقت احيانا عيون صغيرة مدورة، لكنها فاقدة إمكان التفاعل مع ما يحيطها او يشكل ديكورها الطبيعي.
المعرض يزعج في مكان ما. الاشخاص لا يريحون في وقفتهم ولا في ورودهم على الشكل الآلي الذي يبدون فيه احيانا. لكنهم يملكون سحراً في مكان ما، يدفعنا الى العودة اليهم والتأكد من انهم غير عاديين، ولهم قاموسهم ومفرداتهم وهياكلهم الجسدية وملابسهم، حيث الفرق عما توقعناه في الوهلة الاولى التي تلت دخولنا الى صالة العرض.
لور غريب
النهار
معرض السوري بهرام حاجو: جمـاليــة الشحــوب
احمد بزون
يطلق الفنان بهرام حاجو عنوان «أوتوبورتريه» على واحدة من لوحات معرضه، لكن من ينتبه إلى شكل الرجل، الذي يتكرر في اللوحات الأخرى، يجد أن الفنان يُسقط نفسه على كل لوحة، فالرجل الذي نراه في اللوحات يشبه الفنان نفسه، وحتى المرأة التي تتكرّر معه هي امرأة واحدة تتكرر بأشكال وتعابير مختلفة، تترافق مع الرجل أو يفترقان، أو يتواجهان، أو يتعاكسان، في اللوحة الواحدة، أو يحتل أحدهما متن المساحة فيكون الثاني ثانوياً. يتحرك الثنائي في المساحة بتآليف متباينة، يتوازيان أو يتعامدان أو يتصالبان، أو يلتقيان بزاوية حادة أو منفرجة.
ليس غريباً أن يكون الفنان نفسه من شخصيات اللوحة، ذلك أن التعبيرية التي يقدمها لا تذهب إلى مواضيع عامة، على الأقل في ظاهرها، إنما إلى تعبيرية ذاتية، فاللوحة تتمحور حول داخل الفنان، ومنه تنطلق إلى العلن وليس العكس. لذا نرى أن أعمال المعرض تتفاوت بتفاوت الأمزجة التي تتناوب عليه، وباختلاف الحالات التي تنتاب صاحبها.
الجسد الحدث
نتحدّث هنا عن المعرض الذي يقيمه الفنان السوري الألماني في غاليري عايدة شرفان، وسط بيروت، لغاية 3 كانون الثاني المقبل، والذي يضمّ 25 لوحة، مشغولة بمواد مختلطة على القماش، وأحجام متباينة، وهي منفذة في خلال السنوات الثلاث الأخيرة. يتابع فيها تجربته وأسلوبه الذي غلب على نتاج السنوات العشر الأخيرة على الأقل، الذي شاهدناه في الكتابين المرافقين للمعرض. ولا شك في أن تأثير التعبيرية الألمانية ظاهر على أعمال الفنان الذي درس الفن على أيدي أساتذة ألمان، إلا أنه يسعى دائماً إلى صنع عالمه الخاص، وبناء شخصيته التي يمكن أن نضعها في تمثلات التعبيرية الألمانية المستحدثة. فحاجو لا يلتزم مدرسة بقدر ما يلويها نحوه، ويستفيد منها في تعبيرية بعيدة عن القولبة، بل شديدة الخصوصية. فالفنان لا ينحكم إلى طبيعة في الخارج أو مكان تلبسه لوحته وتخلعه، بقدر ما يعني له الإنسان، أينما حلّ، أعني الإنسان الذي فيه، فهو ينقل همومه أو يسحبها خلفه كيفما اتجه. نعم، الإنسان وحده هو الذي يحتل اللوحة، حتى أن شخصيات اللوحة تبدو في أحيان كثيرة هائمة أو سابحة في فضاء ليس سوى فراغ، إذ المهم أن يظهر الرأس أو الجسد، أن ينفجر داخلُ الفنان أمامنا. فالفنان هنا لا يحتاج إلى أكسسوارات المكان، أو وقائع الطبيعة، أو أشياء البيت، أو المقاعد، لتحتضن شخوصه، فتلك الأخيرة تبدو خالصة، ومكتفية بذاتها وعالمها ومشكلاتها وفرحها أحياناً. أما هذا الفراغ الذي يتركه واسعاً وفسيحاً حولها، فليس إلا مسرحاً لإيقاعات الجسد، وصدى لذلك الحدث الذي ليس هو غير حضور الجسد كل مرة بمزاج مختلف.
لا نشاهد لدى بهرام حاجو كابوسية مواطنه سبهان آدم، ولا التشويه المرضي الذي يتكثف في لوحاته، ولا مستوى الحزن. فهو أكثر هدوءاً، وإن كان الحزن الكردي المزمن لا يفارق لوحاته، حتى وهو يجنح نحو المضامين الجنسية. بل لا يفارقها القلق، فعلاقات المرأة والرجل تبدو بوضوح غير مستقرة، ومتوترة. ربما ينسحب هذا المعنى على العالم الذي يحيط بالفنان فتتحول حاله إلى نموذج، وربما لا يقصد الفنان نفسه أكثر من الحيز الشخصي، وأكثر من التعبير عن عالمه الذي يبوح به من خلال الخطوط والألوان، فما هو خلف اللوحة يبقى للآخرين أن يبحثوا عنه. فالفنان ينحو في أعمال المعرض نحو التبسيط بكل أشكاله، تلك هي طبيعة الخطوط التي يرسم بها حدود الجسد، وهي حدود طبيعية لا تشويه أو انحراف فيها. خطوط مبسطة ولينة وعاطفية، لا تجنح نحو العنف أو القسوة، بقدر ما يعمل صاحبها على أن تكون صريحة في تمثيل الشخصية. خطوط مختزلة بعيدة عن الثرثرة، لها مهمة واضحة يصوّب الفنان نحوها بذكاء وحنكة نحوها.
عزلة وانفجار
هذا التبسيط لا يقتصر على الخطوط، إنما يتعداها نحو الألوان، التي يغلب عليها استخدام الأبيض والأسود ومشتقاتهما عموماً، بالإضافة إلى الألوان الترابية. وإذا كانت اللوحة مؤلفة من شخصيتي اللوحة، المرأة والرجل، وأحياناً قليلة المرأة والمرأة أو يضيف الفنان نفسه إليهما، فإن فضاء اللوحة أو عمقها مهمل بقصد من الفنان، ذلك أنه هامش ليس من شأنه جذب النظر على حساب التشخيص وتعبيريته. لا يعني ذلك أن هذا المناخ اللوني لا يُخترق ببعض الألوان القوية، كالأصفر والأخضر والأزرق والبرتقالي، على أن هذه الألوان تبدو عابرة في اللوحة، يضعها الفنان بشفافية ملحوظة، لتشكل لعبة فاتنة عندما يستخدمها لستر الأعضاء الجنسية، أو أثداء المرأة، أو ملامح الوجه، إلا أن شفافيتها تحول دون ذلك. حتى لكأن الألوان الزائرة تلك ليست سوى شالات طائرة تحطّ على الجسد بحركة تمجد الصدفة والتموضع الحرّ، بعكس ما هي عليه الأشكال الأخرى، لا سيما الشخوص التي يلتزم الفنان أن يصل بها إلى تقديم الرجل إياه والمرأة إياها.
الحرية في وضع الألوان نلاحظها في تلك الضربات الحرة، بألوان داكنة، تبدو كأنها ظلال هائمة، تزيد من شحوب اللوحة، وتكسر في الوقت نفسه ذلك الصمت الذي يعلق اللوحة في لحظة تعبيرية شديدة العمق. يبقى أن الثنائيات الموجودة في اللوحة، إن على مستوى جنس الشخوص، أو الشبق والبرود الجنسي، العزلة والانفجار، التبسيط والكثافة التعبيرية، الألوان الأصلية والألوان الزائرة… كلها تضخ في أجواء اللوحة صخباً لا يطفو على السطح بقدر ما يكمن في الأعماق.
نحن إذاً أمام فنان يعرف كيف يجوب العالم بلوحته، كيف يكون رصيناً ونزقاً في آن، وكيف يكون قوياً ومبسطاً إلى أقصى الحدود، ثم كيف يحوّل جمالية الشحوب إلى بديل من الإبهار البصري، والتعبيرية الشديدة الخصوصية إلى بصمة فنية لا يشاركه فيها أي فنان.
السفير