صفحات ثقافية

معرفة النص

null
عباس بيضون
عندما قال ناقد لجياكوميتي إن منحوتاته متشابهة جداً، لم يزد جياكوميتي عن أن أجابه بـ«شكراً»، كان جياكوميتي لا يجد ما يسيء في أن تكون منحوتاته متشابهة. لقد اعتبر هذا الحكم إيجابياً. يعرف الجميع اليوم أنه صحيح لكنه لم ينل من سمعة جياكوميتي ولا من تقديره كواحد من أكبر نحاتي العصر. يحملنا هذا على التفكير في ما إذا كان الشبه الشديد بين أعمال الكاتب أو الفنان حسناً أو سيئاً. لكن ما بالنا نحاكم بدون أن ننظر إلى العمل نفسه. ما بالنا نتبنى معياراً سابقاً على أي عمل، ونحسب أن في وسعنا أن نحاكم أثراً قبل النظر فيه. إذا صح أن التشابه بين الأعمال من معايبها فماذا نفعل إذاً بالتراث الفرعوني والزخرفة الإسلامية وغير الإسلامية والمسرح الياباني. هذه جميعها، في ما نعلم، لا تقيم وزناً للتمايز والفرادة أو التوقيع الشخصي، بل إننا نجهل قدراً كبيراً من أسماء مبدعيها، جميعها لا تحاكم الشبه ولا ترى فيه عيباً، بل قد ترى فيه مأثرة أو حسناً. هذه الأعمال لم يأخذ عليها المعاصرون الشبه والتكرار حتى، لم يفكروا في أن مبدأ كهذا يصح عليها. كان الجميع يعرفون أن آثار جياكوميتي متشابهة. يمكن أيَّ هاو أن يلحظ ذلك، كان جياكوميتي يعلم هذا ويقصده. فهو المتأثر بالفن الفرعوني والذي يرى في الفن تجربة روحية ما كان ليأبه إذا تشابهت أعماله وما كان ليرى في ذلك عيباً. يعلمنا ذلك ان لا نسلط على العمل الفني مبدأ مسبقاً. ليس لنا أن نحاكم عملا قبل أن ننظر فيه، فالأرجح أن كسر المعايير هو دأب النتاج الفني. ليس لنا أن نحاكم نصاً بفصاحته أو عدمها، بعاطفيته أو عدمها، بغنائيته أو عدمها، بوضوحه أو غموضه، بتميزه أو عمومه، بإيجابيته أو سلبيته، بالقيم والأفكار التي يحملها أو عكسها، بالتزامه المشروط أو خروجه عليها، بقدرتنا على تصنيفه أو تمرده على أي تصنيف. كل هذه لنا فيها أحكام عامة وقد نتعشق فيها، وقد نطلقها بلا تمحيص، وقد تنفي وتثبت من وراء العمل وفي غيابه، لا شك بأن الجزم بضرورة معرفة النص أو الأعمال نافل وتحصيل حاصل، لكن المبادئ المسبقة تعشش في رؤوسنا جميعاً. ومهما قلنا يبقى في رؤوسنا واحد أو اثنان نمارسهما بدون دراية ولا انتباه. هناك معايير تحل محل الحقيقة وقد تعفينا من النظر في العمل أو النص، وهناك ميل لدى القارئ أو الناظر للقتل أو الالغاء قلما يقاومهما، هناك لحظات يظن فيها المتلقي أنه يحيي ويميت بالنسبة للنص والعمل، وأن مصيره أو آخرته في يديه، وأنه الحكم الأخي. لكل عمل أو نص دفاعه الخاص عن نفسه وينبغي أن نعرفه لنسمع دفاعه، لكل عمل ظرفه الخاص وسببه الخاص ومساره الخاص وإذا حرمناه من ذلك حرمنا أنفسنا منه، وزدنا في جهلنا وتعصبنا.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى