محمد خضيّر: السارد العطار
صبحي حديدي
بعد ‘الحكاية الجديدة’، 1995؛ و’حدائق الوجوه’، 2008؛ أفرج القاصّ العراقي الكبير محمد خضيّر عن 19 مقالة حول السرد ومشاغله، جُمعت في كتاب بعنوان ‘السرد والكتاب: السيرة الذاتية للكتابة’، كتاب مجلة دبي الثقافية، عدد أيار (مايو) الماضي. وإذْ أكتب اليوم، وليس قبلئذ، في تحية هذه المقالات الثمينة، الصائبة والمعمّقة والاختراقية حقاً، فلأني لم أحصل على نسخة من الكتاب إلا قبل أيام، وهذه بعض ضريبة الإقامة في مدينة مثل باريس، لا توفّر الحدّ الأدنى من الإصدارات العربية.
ولست أجد، بادىء ذي بدء، أية دهشة في انحياز الكتاب إلى الرواية على نحو أقرب إلى الامتداح الصوفي، إذْ هي في يقين خضير ‘المجال الحقيقي الوحيد لتوليد عالم جديد’، و’الميدان الوحيد لجمع التناقضات على سبيل الاحتمال والحقيقة، والتقاء الممكن المعقول بالغريب غير المعقول، وحلّ ثنائية الوعي المحرم والتجربة المنتهكة’. ما أدهشني في المقابل، دهشة مبهجة كما ينبغي أن أقول، هو ذلك الإنحياز الأشدّ حرارة إلى الوشائج القائمة، وتلك التي يحثّ خضير على إقامتها، بين الرواية والفنون الأخرى، التشكيلية بصفة خاصة. وهو يتحدّث باستفاضة، وبتخفف من أيّ حرج في تشريح الذات الكتابية، عن ‘السرد التشكيلي’، و’التشكيل السردي’، والاستعاضة عن ‘لغة الوصف الشيئي’ بـ’لغة التوليف البصري’، أو ‘المونتاج’.
ويكتب خضير: ‘جرّبت في قصصي ذلك النوع من الاسترجاع الصوري للواقع في حالتي التحفيز والتحريك، سرعان ما تجاوزته الى حالة التشكيل. كان تأثير اللقطة السينمائية حاسماً وفورياً في نظري وإدراكي، أدّى إلى تشكيل رؤية محفّزة بالتوليف الصوري، تحاكيه وتشكله وتؤوله’. وأيضاً: ‘ترتيب هذه العمليات، المحاكاة والتشكيل والتأويل، يبيّن الكيفية التي تنتقل بها العناصر الوصفية من السطح الساكن للصورة، وعملها في الزمان المتحرك للقصة. ويبدأ التفاعل بالبحث عن حافز يفرغ واقعية التصوير في رؤيا التشكيل، وماضويته في مدى تصوّري، وينتهي بتأويل الآثار وطرد التأثيرات، لتعمل القصة بعناصرها الصورية الصافية’…
ومنذ أواسط ستينيات القرن الماضي كان اسم خضير قد لمع على الصعيد العراقي من خلال ‘البطات البحرية’، القصة القصيرة التي فازت بالجائزة الأولى لملحق جريدة ‘الجمهورية’ الأدبي؛ وكذلك على الصعيد العربي، في أعقاب هزيمة 1967، حين نشرت مجلة ‘الآداب’ قصته الشهيرة ‘الأرجوحة’؛ والتي أخرجها، في شريط قصير أخاذ، السينمائي السوري المبدع هيثم حقي، كاتب السيناريو أيضاً. جديد خضير كان متعدد الجوانب، فاشتمل على اللغة والموضوعات وطرائق السرد وزوايا الرؤية وتقنيات تمثيل الشخصية، فضلاً عن أسلوبية خاصة متكاملة تضمّ جماع هذه المستويات، وتبدو في أمثلة كثيرة وكأنها تستتر وتتخفى، ولا تسلم قيادها بسهولة أو يسر. لكنّ العنصر الأبرز كان هاجس تطوير تجربة فنية عالية ومختلفة، تنطوي على معطيات غير مسبوقة من جانب أوّل؛ وتحفظ على الخيوط الناعمة، ولكن القاطعة المشدودة، التي تُبقي القارىء قريباً من ‘تراث’ الأشكال السردية التي تخضع للتجريب، من جانب ثانٍ.
‘الأرجوحة’، ومثلها القصة القصيرة الشهيرة ‘تقاسيم على وتر الربابة’، نُشرتا بعدئذ في مجموعة خضير الأولى ‘المملكة السوداء’، التي صدرت طبعتها الأولى سنة 1972، ولقيت ترحاباً واسعاً في العراق كما في الوطن العربي. وفي عام 1978 أصدر خضير مجموعته الثانية ‘في درجة 45 مئوي’، فتضمنت بدورها عدداً من القصص التي ذاع صيتها، مثل ‘تاج لطيبوثة’ و’إله المستنقعات’، وفيهما يسجّل خضيّر أوضح انعطافاته الأسلوبية نحو ما سيسمّيه ‘السرد الرؤيوي’.
ولا يتردد خضيّر في الإصرار على أنه كاتب واقعي، ولكنه منح مخيّلته ‘حقّ أن تذهب إلى الحافة الخطرة للواقعية’. ولعلّ التجسيد الأمثل لهذه ‘الحافة الخطرة’ هو عمل خضيّر الأشهر ‘بصرياثا ـ صورة مدينة’، 1993، الذي أعاد تمثيل مدينة البصرة ضمن رؤى استبصارية وتمثيلات حُلمية ومجازات أسطورية استثنائية حقاً. فعلى صعيد النوع الأدبي، ثمة تخييل حرّ، ولكنه يمتح من الواقع والتاريخ والخرافة السائرة على الألسن، كما يعتمد على التسجيل الوثائقي؛ وثمة لغة شعرية عالية، تساهم في بسط أو تكثيف مشهد روائي، تماماً كما تفلح في تجزئة بعض عناصره لصناعة مشهدية القصة القصيرة؛ وثمة تقطيع سينمائي، وحصر للحركة في إطارات مسرحية، وتنفيذ بارع لصيغة الرواية داخل الرواية.
وفي مجموعته القصصية الثالثة ‘رؤيا خريف’، 1995، واصل خضير تطوير هذا الخطّ الخاصّ في الموضوعات المركّبة، وتقنيات السرد الرؤيوي، وانتهاج فنّ ‘دكان العطار’، كما وصف ذاكرة السارد ذات يوم. لكنّ الحنين إلى مناخات ‘بصرياثا’، وربما اليقين بأنّ هذه المناخات تحتاج إلى التوغّل في أعماق أخرى بعد ‘عاصفة الصحراء’، سوف يكون لهما الأثر الأكبر في إنجاز خضير لعمله الروائي الثاني، والأكثر إثارة للجدل: ‘كرّاسة كانون’، 2001. وهنا أفصح خضير عن طموحه إلى سرد تكعيبي: ‘كنت على الأرجح أتحرّك على سطح مدينة انتسختُ صورتها من ذاكرة المدن السومرية، مركّبة من خيال بيكاسو المكعّب أو حلم غويا العقلي المتعدد السطوح. مكعّب بانورامي لمدينة عراقية، أنتقل من سطح إلى سطح من وجوهه، برفقة شخصياتي التي تحمل الفوانيس وتشاركني حلمي، أو الأرجح أني أشاركها الحياة على مكعب أحلامها المتقلب في تخطيطاتي’.
وما الذي يخفيه لنا، أيضاً، هذا السارد الحاذق، الرؤيوي الخارق، والعطار العراقي بامتياز؟ الكثير، المثير، الفاتن، المدهش… أغلب الظنّ.