صفحات ثقافية

ما تحت الكتابة: التاريخ السرّيّ للنصّ

null
عمر قدور
قد تكون قليلة هي النصوص التي تستفزّ فضولنا لمعرفة تاريخها، والتلصّص على الكاتب حينما كان ينجزها، ومع أنّ ذلك يؤشّر إلى وجود تجربة خاصّة بكلّ نصّ إلا أنّ بعض النصوص تبدو متخفّفة من تجربة كتابتها، أو أنّها كتيمة بحيث تحجب عنّا سيرة إنجازها. أحياناً يبادر الكتّاب إلى الكشف عن سيرة نصّ من نصوصهم، وعن الواقع الكامن تحت الكتابة. نرى ذلك خاصّة في مذكّرات الكتّاب. كأنّ الكاتب، في هذه الحالة، لم يعد يكتفي بالنصّ، بل يعزّ عليه بقاء كتابته بعيداً عن متناول القرّاء. وربّما يعزّ عليه أن يبقى النصّ حاضراً، بينما تغيب تجربته، هو صاحب النصّ، فلا يكترث أحد بالكيفيّة التي اشتغل بها، أو بالدوافع التي ولّدته. وربّما يرى أنّ جزءاً من رسالة النصّ غطّت عليه الكتابة، ويصعب عليه ترك ذلك الجزء مغموراً. في هذه الحالات جميعاً لا يقرّ الكاتب بانفصاله عن نصّه، ولا يقبل بانتهاء سلطته عليه، أو على القارئ!
ثمّة حالات انكشفت فيها الظروف المحيطة بكتابة النصّ بحيث بدت الظروف أحياناً ضاغطة من أجل إنجازه وظلّت لصيقة به. نذكر على سبيل المثال رواية “المقامر” لديستويفسكي، فمن المعلوم أنّه أنجزها في خلال أقلّ من شهر مضطرّاً تحت وطأة الديون الناجمة بدورها عن إدمانه القمار. في حالات أخرى ظلّت الظروف أقلّ تأثيراً، على الرغم من معرفتنا بها. نقرأ مذكّرات كازنتزاكيس “تقرير إلى غريكو”، ونتعرّف على زوربا الواقعيّ، لكنّ “زوربا الرواية” يتفوّق على الواقعيّ ويمحوه من الذاكرة. أيضاً، في مذكّرات غابرييل غارثيا ماركيز “عشت لأروي”، نتعرّف على قصّة الحبّ التي ألهمته رواية “الحبّ في زمن الكوليرا”، وهي قصّة حبّ أبيه لأمّه، فيتبدّد بعض من دهشتنا تجاه الرواية، ونتمنّى لو بقيت عارية من أيّ تفسير. حتّى فتنة الواقعيّة السحريّة يتبدّد جزء منها، ونحن نقرأ مذكّرات ماركيز، عندما يتحدّث عن شخصيّات واقعيّة من تلك البلدان كذلك الفنّان التشكيليّ الذي يمسك بكناريّ حيّ ويبتلعه وهو جالس إلى البار!.
قد يكون من المخاطرة إذن البحث عن الدوافع المباشرة، أو الظروف الخارجيّة التي أحاطت بكتابة النصّ لأنّ الفضول الذي يتولّد عن قراءته، وعن نزعة التلصّص على كاتبه، قد لا يرتويان بمعرفتها، أو قد يمنيان بالخيبة حال معرفتها. ولعلّ هذا ما يدفع ببعض الأدباء إلى إنكار أيّة صلة لنصّهم بالواقع، خاصّة عندما لم يعد إدّعاء الواقعيّة ينطوي على القيمة التي كانت له فيما مضى. لكنّ هذا كلّه لا ينفي أنّ لكلّ نص تاريخه “السرّيّ” الذي ينطوي عليه، هو تاريخ تشكّله وكتابته. وإذا بدا بعض النصوص بلا تاريخ فقد يكون هذا مأزق النصّ أو القارئ. النصّ ذو الطبقة الواحدة، وهي طبقة السطح في هذه الحالة، نصّ لا يغري بالتنقيب الأركيولوجيّ، وهو ينتمي بالأحرى إلى زمن القول الآنيّ لا إلى زمن الكتابة، لذا نراه لا يستغرق من زمن الكتابة سوى زمنه المحدود، ولا يستغرق من زمن القراءة سوى زمن المطالعة المحدود أيضاً.
إنّ عمليّة الكتابة بحدّ ذاتها هي خروج من التجربة الخاصّة إلى عموميّة اللغة، لذا سيكون من شأن النصّ أن يشفّ عن التجربة الشخصيّة دون أن يتمكّن من نقلها بأمانة. وكلّما ابتعد النصّ عن ميدان القول المباشر والمتداول أصبح أكثر اقتراباً من التجربة الذاتيّة مع احتفاظه بصفة العموميّة التي تفرضها اللغة، دون أن نتجاهل الخصوصيّة الأسلوبيّة لكلّ كاتب. فتاريخ كتابة النصّ يبدأ من تجربة الكاتب إن لم يكن النصّ تكراراً لنصوص متداولة، وهذا التاريخ يتّجه من الخاصّ الداخليّ إلى العامّ الذي يتلقّى التجربة كتجربة خاصّة ومشتركة في وقت واحد. يتخفّف النصّ عبر مسيرته من حمولة الذاتيّ، إذ لا يمكن لأيّ نصّ أن ينقل بأمانة تامّة خصوصيّة الكتابة، لكنّه يحتفظ بالإشارات الدالّة على التجربة الذاتيّة، ويُفترض بهذه الإشارات أن تساعد المتلقّي على التقاط ما هو خاصّ وترجمته وفق خبرته الخاصّة أيضاً.
تنطلق الكتابة على صعيد الشكل من صفحة أو شاشة بيضاء. ولطالما أوحى البياض بالفراغ الذي يملأه النصّ. إلا أنّ البياض من وجهة نظر أخرى هو عدد لا يحصى من الاحتمالات، لذا تكون الكتابة بمثابة حذف متواصل للاحتمالات والإبقاء على عدد محدود منها. يبدأ النصّ مع آفاق مفتوحة على آخرها، ثمّ تضيق الآفاق مع كلّ تقدّم في تشكيله، وقد يكون الرهان الإبداعيّ الأصعب هو الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الاحتمالات التي يفتح عليها النصّ مع المحدوديّة التي لا بدّ منها في أيّة كتابة. في سياق مشابه يرى بول ريكور “إنّ الوظيفة السياقيّة للخطاب تتمثّل في حجب تعدّد المعاني في الكلمات، وتقليص الاستقطاب في أقلّ عدد ممكن من التأويلات”. لكن المفارقة التي يحملها النصّ الإبداعيّ هي أنّه قد يفتح الأفق الدلاليّ في الوقت نفسه الذي يحجب فيه تعدّد المعاني، وكأنّه بذلك لا يفلح في إنجاز خطاب صافٍ، أو أنّ الكتابة هي بالضرورة حجب لمقدار معيّن من المعاني لحساب مساحة تأويليّة تحلّ مكان المعنى.
لعلّ المساحة التأويليّة هي الجزء الذي يخفي ويفضح معاً التاريخ السرّيّ للنصّ، أي تاريخ كتابته. وقد تكون هذه البؤرة هي الأبعد عن العموميّة، أي عمّا ألِفه القارئ عبر نصوص أخرى، أو حتّى عبر العلاقات اللغويّة. هنا تكون تجربة القراءة اشتباكاً بما قد يكون مألوفاً في ظاهره وأدواته ومخاتلاً في عدم إخلاصه للمعنى أو اليقين. يغدو الزمن أكثر كثافة في هذه المساحة المتوتّرة وكأنّها هي التي تختزل زمن النصّ، بينما الأجزاء التي تُقرأ دون توقّف تحيل إلى زمن رتيب لا يكسر هامش التوقّعات، وإذ تنتمي هذه الأجزاء إلى ذاكرة مشتركة بين النصّ والقارئ فإنّها لا تولّد المتعة إلا لدى قارئ كسول يخشى ارتياد الطرق الوعرة؛ قارئ ينتمي إلى تاريخ ما قبل النصّ وليس بوسعه الانتماء إلى مستقبله.
على الصعيد نفسه تجسّد المساحات التأويليّة في النصّ ديمقراطيّةَ الكتابة، لأنّ مساحة التأويل مفتوحة على التعدّد والمشاركة في إعادة تأليف النصّ، وهذا ما يسمح لنا بالقول “إنّ القراءة هي عمليّة تأليف معكوسة”. فحيث يكون من طبيعة الكتابة أن تستبعد احتمالات لصالح أخرى يسير فعل القراءة في الاتّجاه المعاكس إذ يستنبط من النصّ احتمالات تمّ استبعادها ولكن بقيت ظلالها بين الكلمات. بالطبع لن يستنبط كلّ قارئ الاحتمالات المستبعَدة كلّها، وقد لا يصل قرّاء النصّ جميعاً إلى معرفة ما حُجب فيه بدقّة، وفي المقابل ربّما يستنبط فعل القراءة احتمالات لم يستبعدها النص بالمعنى القصديّ لأنّها لم ترِد إلى ذهن الكاتب أصلاً. هذا ينطبق أكثر على النصوص غير المفكَّر فيها وهي نصوص لا تنطوي على شحنة كافية من القلق والتوتّر اللغويّ أو البنائيّ غير أنّ عفويّتها أو سذاجتها تمنح مساحة لإكمال ما لم يفكّر فيه الكاتب.
فعل القراءة هو فعل “تلصّص” بامتياز، وقد لا يرتوي هذا الفضول بالكتابة بحدّ ذاتها بل يسعى إلى معرفة ما تحت الكتابة، لأنّ القراءة الشخصيّة بدورها لا تقبل أن تبقى في حيّز العموميّ، لذا فهي لا تقبل البقاء في إطار الناجز والمنتهي. بصياغة أخرى؛ يرى رولان بارت أنّ على القارئ أن يكون أرستقراطيّاً، فلا “يلتهم” النصّ باستعجال بل بتمهّل وتلذّذ. “القارئ الأرستقراطيّ” يمتلك فضول التذوّق، ويتمهّل عند التفاصيل، ويملك أحقّيّة الادّعاء بامتلاكه النصّ ما دام قد امتلك القراءة الخاصّة به. أمثال هذا القارئ لا يتوقّفون طويلاً عند الدوافع الخارجيّة التي تحفّ بالنصّ، بل يغريهم التاريخ السرّيّ له، وكلّ واحد منهم لا يقتنع بأنّه قد تمّ اكتشاف أمريكا فهو يعتقد أنّه هو مَن سيقوم باكتشافها!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى