ضجة شعرية في مصر
حسن خضر
كان النجاح اللافت لملتقى قصيدة النثر المصرية المستقل، في دورته التأسيسية آذار 2009، سبباً رئيسياً من أسباب فشله الذريع في دورته الثانية آذار 2010، مخلّفاً انقساماً حاداً للمرة الأولى ربما منذ الثمانينات، في حركة شعراء قصيدة النثر المصريين التي ظلت متآزرة بحكم طليعيتها على الأقل. تجلى هذا الانقسام الحاد في ما طالعتنا به الصحف، من تبادل للاتهامات وصل الى حد التخوين لأصدقاء الماضي القريب، ووصف بعضهم البعض بالمهادنة، والبحث عن مكاسب ذاتية على حساب التيار الشعري، والمساهمة في شق وحدة الصف. ترتب على ذلك، تحوّل الملتقى الأخير ملتقيين شعريين متنازعين.
بعد جولات متواصلة شهدت المزيد من العَرق والجروح وتمزيق الملابس، هبط الملاكمون، وانفضّ المتفرجون من دون تحديد واضح لهوية الفائز، وخرج الجمهور بانطباع مؤكد أنها جولة خالية من المتعة، لأن جميع من فيها خاسرون. ثم بعد استراحة لم تدم أشهراً، عاد الملاكمون لمواصلة جولات الحسم ربما، ولكن مع ظهور مصارعين جدد للمرة الأولى، بعضهم كان بعيدا في كوكب ثان، منشغلا بصراعات أكثر رشاقة وربحاً. فقد انتصبت الحلبة أخيراً حول من يمثل قصيدة النثر المصرية، على خلفية نية مجلة “إبداع” التي يترأسها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، إصدار مختارات لهذه القصيدة في كتيّب ملحق بأحد أعدادها المقبلة، وإسناد مهمة الاختيار إلى الشاعر البهاء حسين.
باختصار، نجح معسكر الشعر القديم تدريجاً، في دقّ إسفين الانقسام بين الشعراء الجدد، فانقلبوا على أنفسهم، لتبدأ حلقة أخرى ذكية، من حلقات تجنب الحديث الجاد حول جوهر التجديد داخل قصيدة النثر، بدوام انشغال الشعراء بالصراع خارج معنى الشعر. ومن ثم لفت الانتباه إلى مشهد الديوك، بديلاً من وضع الشعرية الجديدة تحت مجهر النقد الأدبي والدرس الجمالي الذي تستحقه نصوصها. وقد كانت الحلقة الأولى الأقدم من هذا التجنب المحسوب بدقة، في إطلاق مسمّى “قصيدة النثر” نفسه، وهي التسمية التي جرّت الجميع لسنوات طويلة، ولا تزال، إلى منزلق الجدل حول السؤال: هل هي قصيدة أم شعر أم نثر؛ كما أُريد لها بالضبط، بديلاً من الدخول في نقاش حول جمالياتها.
من هنا، فإن قضية التجديد في الشعر العربي، وحلقة تطوره الأخير، قصيدة النثر، وصراعها المتجدد بتجلياته المختلفة نوعياً، من بلد عربي الى آخر، هي نتاج تكاتف عدد من العوامل الفكرية والسياسية والاجتماعية، تشابكت معاً؛ فأدت إلى حدوث مثل هذا الصراع الذي قد يبدو ذاتياً أو سخيفاً، ظاهرياً، لكنه أعمق من ذلك بكثير.
سمات جمالية جديدة
بدايةً، لا يصح موضوعيا، اعتبار أن كتابة قصيدة النثر نوع من المزاج الشخصي لدى شعرائها، أو أنهم كتبوها لمجرد رغبة ذاتية في الاختلاف عن نمط الشعر العربي التقليدي. هذه نظرة غير دقيقة، تعزل الظواهر الأدبية الجديدة عن العالم، وإمكان تأثرها بمتغيراته. من هنا، فهذه القصيدة الجديدة هي في الأساس طريقة من طرق كتابة الشعر، عرفها العالم منذ أكثر من قرن، لكنها أتتنا في هذا الوقت كاستجابة طبيعية روحياً وعقلياً للمتغيرات التي هزّت علاقة الفرد بجماعته البشرية من ناحية، وعلاقته بالعالم من ناحية أخرى، وضربت الثبات واليقين في العمق من روح الإنسان المعاصر، في ظل حياة يومية تنزع ناحية الفردية بقوة وعنف، فاقترب شاعر قصيدة النثر من الشفاهة تعبيريّاً، وانحاز إلى المعنى البسيط، وإلى الأداء اللغوي الأقرب إلى اليومي والمعيش، واحتفت القصيدة بالمهمش لا بالمركزي في الحياة والأفكار، كاشفةً في الوقت نفسه عن طبقات شخصية جوانية متعددة، داخل ذات كاتبها. حافظت بعض نصوصها على المجاز القريب، وبعضها استخدم المشهدية السردية بديلا من المجاز. وفي هذه السمة الأخيرة مكمن ضعف النص الشعري المكتوب أو قوته، إذ أحيانا ما يعتبر بعض شعرائها – وخصوصاً الأحدث تجربة – أن الإفراط في النثرية يعني في المقابل التخلي عن التكثيف الدلالي تماماً، فتصبح الكتابة أقرب إلى منطق الحكاية لا إلى الأداء الشعري. “كلما قرأت صفحة، لا أعرف متى ستكف هذه السطور عن أن تكون شعراً ونثراً في الوقت نفسه” (سوزان برنار عن “سأم باريس” لبودلير).
يجب القول إن هذه الحلقة الجديدة من حلقات تطور الشعرية العربية، المسمّاة مدرسياً بـ “قصيدة النثر” بغية إبعادها عن جنس الشعر؛ هي حلقة شعرية تنطوي على فهم مديني للشعر مناقض للبداوة، وتجاربها ثرية وشديدة التنوع عربيا، حتى داخل البلد الواحد. وهذه أعلى درجات كسر النمط الجمالي الأحادي القديم، بلَغَتْها كتابة الشعر، فضلاً عن التمرد على الأعراف الإيديولوجية التي أسست لذلك النمط القديم. كما أن نصوصها تنطوي بدرجات مختلفة على معنى أكثر عمقاً ورحابةً في فهم الإنسانية، يبتعد بها عن حدود فهمها القديم، المختزل في القبيلة أو النسب أو العرق أو الدين؛ لتنتمي كمنتج روحي إلى الإنسان أيا يكن لونه أو عرقه أو دينه. من ثم عليها أن تتضامن عربيا، وأن تسعى إلى مد جسور للتواصل في ما بين جزرها الخضراء المليئة بالدخان، ولكن المنعزلة، في مياه الشعر العربي المتجمد مؤسسيّاً.
حداثة معزولة وممنوعة عربياً
ظل صراع تيارات الحداثة الشعرية العربية كلها حول التجديد، ربما منذ الستينات إلى الآن، معزولاً عن التأثير في مجتمعاته. لكن المؤكد أن حركة الحداثة الشعرية العربية كانت أكثر تقدماً، في ما أنجزته بالشعر، عن قبول الواقع الاجتماعي المتخلف عنها، وشابها قصور نظري في عناية تياراتها المختلفة بأهمية صنع التراكم الفكري والفلسفي، الجمالي والرؤيوي، الذي كان من شأنه لو تم، ألا يعيدنا إلى البدء من نقطة الصفر في كل مرة، عند الكلام عن الحداثة.
ولأنه لا يمكن النظر إلى الصراع بين الجديد والقديم في الشعر العربي في مصر، وفي غيرها من البلدان العربية، بمعزل عن التمثلات السياسية لأنظمة الحكم وتوجهاتها الشمولية من جانب، ولا بمعزل عما ينطوي عليه جوهر التجديد الشعري من صراع بين المدنية والبداوة اجتماعياً، بين المهمش والمركزي فكرياً؛ فقد ظلت الحداثة الشعرية العربية ممنوعة من أن تصبح رافداً من روافد الوجدان والعقل الجمعي العربي، لا في التعليم ولا في الإعلام ولا حتى في الثقافة الرسمية العربية، على الرغم من إيمان بعض القائمين على الثقافة العربية بفكرة التعددية وقبول الاختلاف، والإعلاء من قيم التنوير والحداثة وموجباتهما الضرورية لكل نهضة مجتمعية. ليس هذا وضع مصر وحدها، بل وفي العالم العربي كله. هذا وصف لحقيقة دور ثقافي وليس وصفاً لأشخاص.
في هذا المعنى الإجرائي السابق، فإن التيارات المحافظة والرجعية في الثقافة والمجتمع العربيين، تبدو أكثر اتساقاً من أصدقائنا، في التناغم الحاصل بين ما تقوله وما تفعله. وإلا، فماذا يعرف طالب المرحلة الثانوية في التعليم العربي، ولا حتى في الجامعة – أتحدث عن سياق لا عن أعمال فردية أو موسمية- ماذا يعرف هذا المتعلم العربي عموما، عن صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأدونيس وسليم بركات ومحمد الماغوط، أو أنسي الحاج وأمل دنقل، أو أحمد عبد المعطي حجازي نفسه… سوى أنهم شعراء مارقون!؟! مما يعني أنه لا يعلم شيئاً في الحقيقة. لم أشأ أن أذكر شعراء آخرين في الشعرية العربية الجديدة، لأبيّن فداحة المفارقة حين يتعلق الأمر بمن استقرّوا شعريا على المستوى المؤسساتي العربي ظاهرياً، من دون أن نظن للحظة أنه يمكن أن يسمح لشعرهم بأن يكون جزءاً فعليّاً من وجدان المتلقي العربي العام، إلا إذا تغيرت طبيعة نظرة هذه السلطات الى الثقافة ودورها، وأهمية موقع الحداثة الضروري فيها الآن، وهذا ما لن يحدث إلا بتغيير بنية هذه السلطات نفسها، لأنها في الأصل سلطات ضد التجديد ومعادية للعقل ولحرية التفكير.
مجرد مثال نموذجي فحسب
أضرب مثالاً نموذجياً واضحاً لما يعتري أداء شؤون الثقافة العربية وطبيعة إدارتها، من خلل، كبرهان على غياب المعيار والقيمة من العمل الثقافي العام، ليحل محلهما الهوى الشخصي والمزاجية. وإلا فما الذي يجعل شاعراً فرداً، مهما بلغت قيمته، مثل الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي- وهناك أسماء عربية أخرى شبيهة بوضعه- مستمرئاً صراعاً كهذا؟ بل مستمرئاً حضوراً ذاتياً أظن أنه لم يعد في صالح تاريخه، حين يحتكر وحده تنفس كل هواء الشعر المصري، فيكون في وقت واحد على رأس لجنة الشعر، وعلى رأس مجلة أدبية، وعلى رأس بيت الشعر المصري الوليد، على حساب حضور طبيعي لأكثر من ثلاثة أجيال شعرية منتجة؟! أليس هذا أمراً عجباً، يدعو إلى إحباط الشعراء الجدد، ومدعاة لثورتهم طوال الوقت، على الرغم من أن نزوعهم نحو اعتراف الثقافة الرسمية بقصيدة النثر، يتضاد مع طليعيتها على كل حال؟!
ضربت مثلاً هنا، ربما استمد قسوته ليس من لغتي، بل لسبب وحيد هو وطأة حقيقته الواقعية الدالة. إن مثل هذا النموذج ليس أقل من أن يفسَّر كانعكاس غير طبيعي بل وفجّ، لسوء التمثيل السياسي، وتجلٍّ أخير لعدم حسم الصراع الاجتماعي المؤجل منذ 1952، والذي تفاقم في السنوات الأخيرة، واتخذ تعبيرات فئوية وتعصبية خطيرة، بتصاعد سطوة رأس المال الريعي غير المنتج من ناحية، وتفاقم الفقر وانعدام العدالة الاجتماعية من ناحية أخرى. وهي العوامل التي يعدّ تأجيل حلّها، أو التخفيف من حدتها، حمولة زائدة في الوقت الراهن داخليا، وبيئة صالحة لنمو الانحرافات والشرور العنصرية والانقسامية وغيرها.
رعاية التخلف وصناعة المتلقي الفارغ
على الرغم من المثال السابق الذي يفوق كل تصور عاقل، فإن الصراع بين قديم الشعر العربي وجديده، يلقى رعاية رسمية عربيا وفي سياقات متنوعة، للحفاظ على استمرار قدامة الذائقة العربية العامة وتخلفها، بل وتغذيتها بكل ما يجعلها معادية لقيم التجديد والعقلانية والتحديث. لا تزال مفردة “الحداثة” مثار اتهام وشك وريبة. ممن؟ من العقلية الجمعية الفصامية، التي تربّت على كراهية الأفكار حتى من دون محاولة فهمها أو نقضها. الغريب أن هذه العقلية الجمعية الرجعية تتعامل في الوقت نفسه يومياً مع مفردات ما بعد الحداثة، مثل الإنترنت، والـ”فيزا كارد”، والـ”فاست فودز”، وكل أشكال الميديا الديجيتال، وترتاد “مولات” الشوبينغ ما بعد الحداثية التي تختصر ثقافات العالم وأديانه وهوياته في منتجات وبضائع شتى، داخل مجمع مكاني واحد، مساحته بضعة مئات من الأمتار!
لكن رعاة استمرار تخلف العقلية العربية، لا يزعجهم ذلك؛ ما دام الأمر لم يتعدّ حدود الاستهلاك والموضة، بل ويشجعون هذه النزعة الاستهلاكية لدى المواطن العربي في كل مكان، ويعملون على دوام تسطيح وجدانه بكل ما يملكونه من أدوات إعلام رهيبة مقروءة ومسموعة ومرئية على مدار الساعة، جرفت فنوناً عربية كالسينما والمسرح والغناء في سكّتها، حتى بات المواطن العربي في الأعمّ مواطناً سلبياً مسايراً للتفاهة، يعتبر الجدية “ثقل دم”، ويسخر من مسألة التفكير في حد ذاتها، أو مواطناً مغلوباً على أمره، منكسراً؛ لأنه بلا فاعلية وغير قادر على الإصلاح، أو مواطناً غير متحقق، بل مواطناً تعصبياً إرهابياً، بالقول أو بالفعل. بما يعني أن العقلية العربية الجمعية أصبحت في حال من السكيزوفرينيا بين احتكاكها اليومي بمتغيرات العالم وسلوكها الاستهلاكي الحديث، وبين عبء ما يصبّه فيها التعليم والإعلام والثقافة من تخلف وسطحية وشعوذة، أو “شعبذة” بحسب أدونيس. صار لدينا متلقٍّ فارغ وسلبي بامتياز، ميّال الى التقليد في أفضل الأحوال، لا الى التجديد، يكره بعنجهيته المعهودة كل ما يضعه أمام جهله، أو يحثّه على مجرد التفكير. مواطن لم يأخذ من العولمة العلم أو إعمال العقل والابتكار، بل أبى إلا أن يأخذ أسوأ ما فيها: الاستهلاك ثم الاستهلاك. فمن أين تصل إلى هذا الكائن المستطيل قصيدة النثر التي فارقت، في ما فارقت من بداوة الشعر، سماته المنبرية والتعبوية والخطابة!؟ ¶
النهار الثقافي