أنا لن أتحجب
ريما كمال
أعترف بأنني اخترت هذا العنوان في محاولة لجذب مزيد من القرّاء، وإن كنت بالفعل سأتناول موضوع الحجاب، ولكن بشكل يسمح لي بالوصول من بعده إلى ما هو أهم منه. فقد شغل موضوع الحجاب، وأخوه النقاب، العالم الإسلامي، بل العالم كله، وما يزال، بصورة فاقت بكثير الاهتمام بأركان الإسلام الخمسة، بل وبسنام هذه الفرائض وهو الجهاد ضد الظلم والعدوان. فما أسهل أن تعقد الندوات والمؤتمرات، وتنظم المسيرات والمظاهرات دفاعا عن حق النساء بارتداء الحجاب والنقاب، بينما تسكت الألسن والقلوب والضمائر أمام الهدر اليومي لدماء المسلمين، وانتهاك محارم النساء، الذي طال حتى الآن سبعة من بلاد المسلمين، والعدد مرشح للزيادة لا النقصان.
أما الحجاب، فقد جاء ذكره في القرآن الكريم في توجيه لنساء النبي محمد، عليه أفضل الصلوات، بأن يخاطبن الغرباء من وراء حجاب ساتر، حتى لا تثور حولهن أية شائبة مع مرضى النفوس، لما يتمتعن به من مكانة شـــريفة ومتميزة وفريدة. وتم تأكيد هذا التميز لزوجات الرسول الكريم بالتوجيه الإلهي بأن يكون الأصل في بقائهن في بيوتهن، لا يخرجن منها إلا للضرورة والحاجة.
أما ما تم فرضه في القرآن الكريم حول لباس المؤمنات، فهو إطالة الثوب، وأن تضرب المرأة بالخمار على الجيب، أي أن يغطي غطاء الرأس أعلى الصدر مما يلي الرقبة. فقد كان ثوب المرأة في ذلك الزمان بسيطا مشقوقا عند الرقبة لسهولة اللباس والإرضاع، وكانت المرأة بطبيعتها تضع الخمار على رأسها تفاديا لهواء ورمال الصحراء في الحر والبرد، مثلما يضع الرجال العمامة للغاية ذاتها. فجاء الأمر الإلهي بوجوب تغطية هذا الجزء من صدر المرأة، وتحريم كشفه لتحقيق الاحتشام في المظهر. ولا أدلّ على مدى أهمية هذا الستر، بما نشهده على مرّ العصور وحتى الآن، من حرص المرأة المهتمة بتحقيق لفت الأنظار، على إظهار هذا الجزء.
المقصود إذن بالتغطية ليس شعر الرأس، بل استخدام غطاء الرأس (الخمار) في ستر منطقة الصدر، ولهذا فإن التعبير الأدق والأوجب لهذا المقال هو القول (أنا لن أضع الخمار). فقد تطور لباس النسوة عبر مئات السنين، وأصبح بالإمكان ستر ما تود المرأة ستره من دون الاستعانة بالخمار، وإن كان هذا الخمار ما زال مستخدما كزي تقليدي وشعبي، وعلى نطاق واسع في العديد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية على حد ســواء في آسيا وافريقيا.
الغريب في موضوع الخمار الإسلامي الحالي (الذي تمت تسميته بالحجاب) أنه أصبح يستهلك الكثير من وقت (المختمرات) في طريقة وضعه وتصفيفه بألوان وأشكال متعددة، بل أصبح للخمار والزي الاسلامي مصممون ودور متخصصة ليست جميعها اسلامية، بل وظهرت (ماركات) تتسابق في مزج الألوان وأنواع الأقمشة والإضافات المزركشة، التي تجني مليارات الدولارات، منتهزة فرصة تسابق المختمرات إلى تتبع كل ما هو جديد، في إطار بحث المرأة الدائم عن الزينة للظهور بالمظهر الأجمل والأكثر لفتا للأنظار. وفي المقابل، فقد اجتهد البعض من النساء باستخدام الشعر المستعار، او ما يسمى الباروكة، لتغطية شعر الرأس، كما هي الحال في تركيا ومصر، وهو أمر تعود بدايته إلى اليهوديات المتدينات في إسرائيل، ممن وجدن في هذا الحل، وما زلن، بديلا مناسبا لإظهار التزامهن الديني.
إلا أن الأغرب في هذا السياق أن نجد أن أكثر من نصف المختمرات المسلمات، خاصة الشابات، لا يؤدين فريضة الصلاة، تماما مــــثل نصف الرجال، وخاصة العرب منهم، ممن يؤدون صلاة ظهر يوم الجمعة من دون أن يؤدوا باقي الصلوات. ومع ذلك، فإن علماء الدين ودعاته لا يعيرون هذا الموضوع الاهتمام اللازم، ويكتفون وعلى مدى العقود الثلاثة الاْخيرة بالتركيز على الدعوة للحجاب، وعلى فضله في ضمان عفة المرأة، وبالتالي ضمان صلاح المجتمع.
وأحسب أن لدى دعاة الدين من الراغبين في الإصلاح واتباع نهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الكثير من القضايا التي تتطلب التصدي لها والتوعية بها. ولعل في مقدمة هذه القضايا ما نشهده من ترف وإسراف يبدأ من حكامنا وأمرائنا، ويمتد إلى أثرياء العالم الإسلامي، مما نهى عنه الخالق عز وجل في أكثر من موقع (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين…) الإسراء: 27، واستشراء الفساد والبطش والظلم، وتزايد عدد الفقراء والمحرومين، وفقدان الحريات، وترك الفرائض، وانتهاك المحارم، والقائمة تطول لقضايا لا يتناولها علماء المسلمين ودعاتهم لا تصريحا ولا تلميحا.
غير أن ما يشد الانتباه في اهتمام رجال الدين ودعاته، ما شهدناه في العام الحالي من تركيز على عقد عشرات الندوات والمؤتمرات في العديد من الدول الإسلامية، والعربية منها على وجه الخصوص، حول موضوع (مكانة الصحابة في الإسلام)، وما تضمنته جميع هذه الندوات من إشارة واضحة لا تقبل التأويل، بأن الطائفة الشيعية تقول بتكفير الصحابة الكرام. وكان من أحدث هذه الندوات ظهور داعية على فضائية عربية خليجية جادّة أوائل هذا الشهر في ندوة حول نفس الموضوع، ليقول ان الشيعة يقولون ان الصحابة وإن شهدوا معركتي بدر وأحد فقد كفروا.
يمكن للمرء أن يفهم أن تعقد مثل هذه الندوات، وأن تصدر مثل هذه الاتهامات عن فضائيات غربية وإسرائيلية، ولكنه يتوقف متسائلا عن المصلحة في صدور هكذا تصريحات عن دعاة دين عرب، ومن فضائيات عربية. وأحسب أن تناول مكانة الصحابة في الإسلام، يستدعي منا أن نتقي الله في ما نقول، وأن نتمثل بخلق الإسلام الداعي إلى الحكمة والاعتصام بحبل الله والحرص على وحدة الكلمة. وأن نتصدى لكل من يحاول شق كلمة المسلمين بما يزيدهم وهنا، خاصة أنهم وصلوا إلى حالة من الهوان لا تحتمل المزيد منه. فقد حذر الرسول الكريم من الفرقة بقوله (وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، وليس خافيا على أحد مدى تزايد الذئاب من حولنا.
وأتمنى أن لا يتهم من يدعو إلى وحدة الكلمة بالكفر. كما أجد من الواجب ردّ الفضل إلى من يستحقه، فقد هداني الخالق عز وجل إلى الالتزام بالصلاة وصحبة القرآن الكريم في أعقاب مذبحة صبرا وشاتيلا، وبعد استماعي إلى مقابلة مع الشهيد الحي سماحة السيد ‘الشيعي’ عباس الموسوي، عندما كان يتحدث عن فرض الجهاد بجميع وسائله على كل مسلم تجاه الكيان الصهيوني، وهو الكيان الذي حرص على ملاحقته، وتفجير سيارته مع عائلته في محاولة يائسة لإسكات صوته وأثره.
وبعد انتصار المقاومة اللبنانية عام 2006 على العدوان الصهيوني، صرح سماحة السيد حسن نصر الله، أنه لم يبق أمام أعداء الإسلام من وسيلة لمحاربته سوى إيقاع الفتنه بين المسلمين، وحذّر من مثيري الفرقة ما بين سنة وشيعة. هذه التفرقة التي لم نسمع بها مطلقا قبل عام 2000 مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، والتي تصاعدت بعد غزو العراق عام 2003، وباتت الشغل الشاغل في الخطاب الديني هذه الأيام، مما يستوجب التساؤل عن السر في تكالب العلماء والدعاة على إثارة هذه الفتنة بشكل تصاعدي في العشر السنوات الأخيرة، في مقابل سكوتهم وغياب هذا الموضوع في خطابهم عبر مئات السنوات الماضية.
لقد ميزنا الخالق بالعقل القادر على توجيه الفكر الإنساني للنفع العام إلى جانب المصلحة الشخصية، وخلق فينا فطرة الإسلام القادرة على تمييز الخير من الشر، ومنحنا حرية الاختيار على مدى سنوات عمرنا، ووصف علماء المسلمين بأنهم الأكثر خشية لله (.. وإنما يخشى الله من عباده العلماء..) فاطر: 28، وأمر عباده الصادقين بتوجيه الناس ودعوتهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا يكون ذلك إلا بنشر ما يرسّخ وحدة المسلمين وقوتهم (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا)- الإسراء 53- صدق الله العظيم.
‘ كاتبة فلسطينية
القدس العربي