إن البازلتَ قليلُ. في الحَتّ والتعرية..!
فاضل الخطيب
قالت لي: يختلف عن غيره، سُحِرت به وبدون شروط. ما تبقّى من شَعره، عينيه، تقاسيم وجهه، تقاطيع جسمه وتناسقها، فقط هناك ما يُلفت الانتباه وهو التباين في المسافة بين أنفه وفمه، وقد يكون ارتفاع جبهته وتداخلها مع صلعة خفيفة يُعطيه شيئاً من الوقار. لكن ربما أنه لا يهمّك شكله الخارجي، وإنما ما يحمله تحت هذا الشكل، ما يعكسه ويبثّه ذلك الداخل، والذي يجذب الكثير أو القليل من الإعجاب.
قلّما يتكلّم، لذا قلّما يُخطئ، يتنقل على الدراجة الهوائية، لا يستعجل في غدوه وعودته، وخلالها لا يتردد بالدخول إلى مكتبة تعترض طريقه ولا يخرج منها غالباً خالي الوفاض، يستطيع البقاء بين صفوف ورفوف كتبها ساعات، يعرف أن كسب المعلومات هو كسب للحرية، معلومات النت قلّما يتم مراجعتها والتأكد منها. إذا سأله أحداً عن شيءٍ، لا يفتح جرابه ويُعطي الجواب مباشرة، بل يتأنّى في الردّ، وغالباً ما يبحث عن المصادر للتأكد من معلوماته، وحتى لو كلّفه تأجيل الردّ أسابيع عديدة، المهم أن يرجع بالمعلومة الصحيحة، لا يخلط الأطرش مع الأخرس. هذا الإنسان يستطيع التمييز بين تلقيّ المعلومات وبين تفسيرها. وقد وقف بشيء من العداء ضد عائلة النت وطغيانها، وكان غالباً يقول أنه عليها –أي على النت- أن تُسكّر بوزها أحياناً.
يتأمل، يُفكّر، يُعيد قراءة معلوماته وخزّان ذاكرته، وأحياناً يخضّ ماء نبعه القديم إذا لم تحركه موجات الهواء، يُحاول المحافظة عليه نقيّاً قدر الإمكان وبأقلّ تشويه وشوائب. لم تستطع شركات تليفونات الموبايل وإعلاناتها النسائية جذبه لاقتناء موبايل، ولهذا لا يُمكن الوصول إليه في أيّ لحظة نريد، لم يقطع بعد عقده الرابع، لا يوجد عنده ولا أي “صديق” على شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك لأنه يرفض أن يكون مضافاً إليه/ا. والحقيقة أنه حالة نادرة، وصار واجبُ المحافظة عليه وحمايته من الانقراض قضية وطنية، أو من التراث العالمي.
لا يُريد إثبات صحة سلوكه والتبشير به، ولا “شرعنة” أسلوب حياته وفهمه للمعلومات. لا يقلق من نرجسية العالم ولغة السيرك وخداع السطح، أو تناوُلِ البعض خميرة النفش الرخيصة في أوربا، والآخر وفي مكان آخر يتناول مع المتي حبّات الولاء حتى لو كان في غرفة النوم! وثالثٌ ينفخ عضلات مُخّه بالمنشطات لتسميك قشرته الرمادية وتثبيت ولاء وكرم روحه/ا وزمرة دمه/ا، وتظهر سماكته على وجه متبسم لشِرقيط فروع تصنيع الجلّي موّحَد القياس في “مانيفاكتورا المقابي والطبابيع”، لوطنٍ يتمرجح على حوافي العالم، كمرجحة الصور العائلية فوق حيطان البازلت المتمرجح هو أيضاً على الإسمنت المُهرّب المتسلّح بالتَنَك والفَشَك!.
كان يُردد دائماً، إذا كان الإنسان مستقيماً، لماذا عليه إثبات ذلك في كل يوم؟ وإذا بايع أحدهم لماذا عليه التجديد كل ما دقت البنبيجة بالقرعة؟ أم الخوف من المساعد الذي يخاف أن يبيع المبايِع المُبايَع في سوق الحِسبة للبيع وبدون خوف؟ ولماذا الخوف من الصمت؟ لأن فصاحة الأخرس كارابيه أصدق من حصافة الأطرش؟ يحاول البعض التجمُّل بأنهم “أحفاد” الأطرش ورفاقه ويُردد “ديغول خبّر دولتك.. باريس مربط خيلنا!”. وقد يُوّرث هذا البعض لأحفاد “الأحفاد” بجانب أحجار البازلت المغبّر مرابط للكُدِشْ، تمائم المهزومين على نُصب ثوار المزرعة والكفر وضريح الأطرش! يوّرثون هكّرز الفيس بوك والفيس بيك؟! وأسئلة تَتَدحرَج وتُحرِج! أحياناً كنت أخاف سماع تنقيراته!
وتابعَت تقول: كان غريبٌ تقييمه للمختفين خلف عقلة الأصبع، وكان يضحك عندما يرى تعوّذ البعض بالشيطان الرجيم لتبرير الولاء للوريث الحكيم. قالها مرة مُعلّقاً على جوفية “يا جولان وياللي ما تهون علينا!” أنه وكما ابن الضابط يولد أميراً حتى عند ميكافيللي، كذلك سيصبح ابن المطيع الرضيع مطيعاً كبيراً وصَرّة صغيرة تسند حَلَسِ الممانعة! لكنه تجاهل قصيدة “راحت على اللي ما حضر!”. لا يضع سعادته في فيترين الفرجة للمنفخة التهريجية بجانب عيّنة من جدار برلين/نا، بل يحتفظ في جيبه بحصوات بازلتية ملحمسة. لم يكن يخشى الخريف وتعريته. لا يملك شهادات حسن سلوك وصمود على جبهة تزحلق الهدهد الصغير، وغالباً ما كان يؤكد أنه لا تزعجه الزلاغيط في مهرجانات الديسكو، والمضحك فيها خوفهم من ألاّ يراهم المساعد أبو ساعد وهم يرددون الشروقي والبزاق يطرطش من حلوقهم النشيطة، والمضحك أكثر عندما يظهر ظل البازلت في مرآتهم حيث يستفزهم أحياناً ذلك الشِرش المتمدد بين العينين!
كان يعمل بدون ضجيج ويراقب مقابر النجوم والكواكب والمُذنّبات أيضاً ودخانها المتصاعد من الثقوب السوداء التي تشبه “السوريّي” قبل تصحيحها و”تسحيهها” –أي جعلها ساحة وربما نبت هناك تمثالٌ وثلاثة حرّاس! وكان يراقب كذلك غبار دبكات وسحجة محبي مَصمَصة العظم، وحتى الحليب ومشتقاته قلّما يتناوله لأنه يُذكّر بالقطيع! يتحسس من الجلوس على الكرسي لأنها أرجل، ويحمل طاسٍة الرَعْبي معه إلى المستشفى!.
يمكن اعتباره قضية عامة رغم أنه مسألة شخصية، خصوصاً أنه يعيش جزء منه في داخلي أنا –قالتها وتابعت: أسأل عبر النت ربما شاهد أحدٌ هذا الشخص الافتراضي الذي أبحث عنه في هذا العالم؟.
قال أحدهم: الثلم الأعوج من الثور الكبير، وقالت إحداهن: الثلم الصغير يصبح كبيراً مع كبر ابن الثور الكبير! وقال آخر: فرخ البط عوّام، وذكّرت أخرى عن دور الجَرو في الأماكن التي تفتقد لـ”نقاقيع” تربية البط والوز! لا أعرف ما علاقة كل هذا بالانترنت! لكن تداعي الأفكار يعكس العلاقة المترابطة في إعادة إنتاج الحياة البازلتية، في هذا الزمن الكوكتيلي الدارويني المشوّه!
الظلام دامسٌ ما فيه الكفاية لرؤية الفجر، وحتى الأعمى يتلمس قروب الصبح بيديه وعصاه! ويَشلَخ الأفق تراتيل سحجات الظل/م والتي نراها من هنا تُغلّف سماء الوطن الشاذّ في استثناءاته والغريب في روزنامته على بيدر الزوّان. العالم يتغير في كل يومٍ.. وفي لحظة ينزل الليل.. وعندما ينهض الصبح أحياناً.. لم يعُد العالم كما كان!
صار ضروري الانسحاب مؤقتاً إلى المعبد الداخلي في الذات الفردية، وهذا ليس تقهقراً، بل لأخذ أوكسيجيناً جديداً لمتابعة التنفس بدون أقنعة وبدون الخوف من الرائحة الأمونية رغم عطور البخبخة على غلاف بعض الوجوه الوجاهية المتوهجة والمتوجهة أنّى توجّه اتجاه الريح الموّجَه الحامل رائحة التوت العطرة!
في بلاد الحيط – حيطك والنبّيشة حيث يستند أحياناً الجبل على رُجمي، يوزع المساعد أبو ساعد هرمونات للقشرة الرمادية، أحدها للكبح والآخر منشّط، يستخدم الهرمون الكابح عند النرفزة والحديث عن المزرعة (المعركة وليست البلد الكبير)، ويقوم الهرمون المنشّط بتنشيط الهرمون الكابح! قالت كل هذا وركضت تلوّح بيدها موّدعة على أمل اللحاق بالقطار، ثم التفتت نحوي وصاحت بين ضجيج العربات: “عوامل الحَتّ والتعرية، إن البازلت قليلُ.. قليلٌ جداً.. جداً جداً..!”.. واختفت في/ من هذا القليل؟!.
ملاحظة: بعض التعابير والأسماء الواردة أعلاه قد لا يعرفها إلاّ أبناء محافظة السويداء/ سوريا. المعذرة!.