المثقفون في مواجهة السلطة خمس فرق
فؤاد قنديل
في بلادنا تتحدد علاقة المثقفين بالسلطة بناء على طبيعة انشغالهم بقضايا أمتهم، وكيفية النظر إليها ومدى استعدادهم للدفاع عنها، وعلى شفرات هذه العلاقة تتشكل فرقة المواجهات الأولى لتتفرع عنها بعد سنوات أربع فرق، وهو تقسيم نوعي ذو صبغة تاريخية كما سيتضح في السطور التالية.
فرقة المواجهات الأولى تضم طائفة كبيرة من المثقفين الذين يستشعرون من البداية أن الثقافة رسالة اجتماعية بالدرجة الأولى، أي أن جانبا رئيسيا منها مجتمعي ينصرف إلى النظر في شؤون المجتمع السياسية والإنسانية، ولا يكتفي بالانعزال داخل بوتقة الإبداع الأدبي والفني والفكري متخذا سمت الصوفي.
كثير من هذه الفرقة يؤمنون بأنهم ضمير الأمة وطليعة مسيرتها، وعليهم إلا يتخلوا عن قول الحق في كل الأحوال ولا يخشون في ذلك لومة لائم ولا بطش مستبد وعليهم ألا يبخلوا بالجهد والوقت والفكر من أجل التنوير والتحفيز لرفع درجات الوعي لتطوير الحياة، ومقاومة الفساد والاستبداد والكساد والقبح والاستغلال والتخلف.
وكلما لاحظوا تقاعسا عن تلبية احتياجات الجماهير تصاعدت نبرات الاحتجاج الذي لا يحتمله النظام عادة، وسرعان ما يضيق بالغضب المعلن الذي يهدد الكراسي، فتحتد المواقف وتلتهب لغة الخطاب، وفي المقابل تبدأ الأيدي الخفية في توجيه بعض الضربات بغرض الردع.. يضطر المثقفون إلى التحدي اعتمادا على شرف الرسالة ونبل المقصد، ولا تتوانى السلطة حينئذ عن كشف الوجه القبيح فتطلق كلابها الرسمية التي تعلمت كراهية أصحاب الرأي، أو على الأقل كل من يخالف السادة شاغلي الكراسي، أرباب الكلمة الأولى والأخيرة.
يتحمل بعض المثقفين في جلد كل ألوان الضغط والقهر، ولا يصبر آخرون، وينتج عن التفاوت في ردود الأفعال مرحلة كارتخاء الحبل بين نقطتين، حيث يرتد الجميع إلى الذوات المنكوبة بالمواقف التعسة للسلطة، ويغرقون في الأسئلة المصيرية والمنطقية…ما السر في غياب الرؤية وتراجع الضمير وتحجر القلوب إزاء مطالب المحرومين؟ ما السر في هذا التمسك المقيت بالباطل والتنكر للمبادئ المعلنة سلفا؟ ما مبرر تجاهل التاريخ ودروسه؟ وهكذا تكشف هذه المرحلة غطاءها لينقسم الجميع تقريبا إلى أربع فرق.
فرقة تقرر التواؤم مع السلطة، ابتعادا عن التهديد والخطر من ناحية، وطلبا للمنفعة من ناحية أخرى، على أن ذلك يتطلب قدرا كبيرا من المرونة لإجراء عملية التحول من حالة إلى نقيضها، وترويض النفس على قبول ما يحدث من فساد، وابتلاع النفاق الذي يبذله بسخاء المنتفعون نحو أصحاب المناصب أملا في الرضا السامي، كما أن ذلك يقتضي توفر وجوه مكشوفة لا يندى لها جبين حتى تستطيع مواجهة اللائمين من قدامى المحاربين.
وفرقة ثانية ترى ألا أمل في مقاومة السلطة، فيقرر أبناؤها الانكفاء على الذات، والإقبال على النشاط الشخصي الآمن، يتفرغون للقراءة والكتابة الأدبية والفكرية ويمارسون الأعمال الفنية الخالصة، حريصين على الاختباء وراء فكرة أن التاريخ لن يحتسب إلا ما أنجزوا وصنفوا ووضعوا من الكتب العلمية والأدبية، عازمين على قطع الصلة بكل ما ينتمي للسلطة ورفض الاستجابة لها حتى ولو كانت دعوة للتكريم أو التقدير.
ثمة فرقة ثالثة قررت الجمع بين المنزلتين أو الطرفين، والأفضل أن نقول بين المنفعتين، فهم يرون أنه لا بأس من الآكل على كل الموائد، وماذا في أن يمالئوا السلطة فينالوا نصيبا من الكعكة العامرة، وأن يجاروا الرافضين لها، فقد يكتسبون الصيت بوصفهم من المناضلين، وقد يلحقون قطار التاريخ ولو في عربته الأخيرة، أو على الأقل حتى لا يتهموا ببيع القضية، ويتطلب البقاء في هذه الفرقة الالتزام بقوانينها ومن ذلك مواصلة القفز فوق الحبال والأسوار، ومحاولة تسريب مواقف متميعة، ونشر كتابات يمينية ويسارية في آن، دينية ومتحررة في الوقت ذاته، لان الرغبة في التربح تسكن القلوب وتشغل الرؤوس، وتحدد أطر التفكير على حساب الصدق والكرامة.
أما الفرقة الرابعة فلم تتخل عن المجتمع وقضاياه وعزم رجالها على الاستمرار في المقاومة والنضال ولو وضعوا الشمس عن يمينهم والقمر على اليسار ما تحولوا ولا تبدلوا مهما تعرضوا لصنوف الإرهاب والتعذيب أو ألوان الإغراء.
اتباع هذه الفرقة يعرفون جيدا طريقهم ويدركون أهمية الدور التاريخي لكفاحهم ضد أفكار السلطة وممارساتها المتخلفة التي تكشف عن التبعية وتجاهل القضايا القومية. وفي الوقت نفسه فعليهم أن يقبضوا على الجمر من أجل الدفاع عن حقوق الشعب وآماله في غد أفضل.
الحياة