صفحات ثقافية

أين كلام المثقف من كلام السياسي؟ السياسي تكتيكي والمثقف طوباوي.. لكل لغته وإذا تطابقا خسر المثقف استقلاله

null
زينب مرعي
ما هو دور المثقّف في المجتمع؟ هل هو الواعظ والمعلّم، ومكانته هي إلى جانب الأنبياء، كما يقول فلاسفة الإغريق؟ أم إن دوره البحث عن الحقيقة في عزلته كمتصوّف إسلامي؟ أم يجب أن يكون بحسب بعض النظريات الحديثة، ملاصقاً للناس وقضاياهم، وبعيداً من عزل النفس في الأبراج العالية لصياغة فلسفة استعلائية، لكن مع المحافظة على دوره كـ«واعظ» وقدوة للـ«عامة».
يعرّف إدوارد سعيد المثقّف قائلاً إنّه «الشخص الذي يواجه القوة بخطاب الحق»، ويصرّ على أنّ وظيفته هي أن يخبر نفسه ومريديه بالحقيقة. ويُعتبر سعيد أفضل تجسيد لمفهوم «المثقف العضوي» الذي وضعه المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، وهو المثقّف المقاوم بفكره ونشاطه «هيمنة» السلطة الحاكمة، بمختلف أنماطها المادية والسياسية والفكرية، والتي تسيطر على المجتمع بكامله من خلال سيطرتها واحتكارها لـ «البنية الفوقية» الاجتماعية والسياسية.
في ظل الأحداث السياسية والمصيرية التي تحكم البلاد العربية عامةً، ولبنان خصوصاً، والتي تلوّث بصفات جاهزة كلّ من ينتقدها، ما هو دور المثقّف اليوم؟ هل من واجبه تحييد نفسه والمحافظة على صورته بعيداً من خطابات الشارع و«وحول السياسة»، أم واجبه تجاه بلده، كمثقّف، أن يقول رأيه، فلا يتّهم بالصمت أيام الكفر؟ إن كان هذا واجبه، فالإشكالية واقعة حول الطريقة التي يتدخل فيها المثقّف في القضية السياسية، والتي يعبّر فيها عن رأيه. فهل يُسمح له أن يكون بوقاً للسياسي مهما كانت درجة تأييده له؟ أم يجب أن يعبّر خطابه السياسي عن خلفيّته الثقافية الدسمة، فتنعكس لغة لامعة وفكراً نقدياً واضحاً.
من هنا حملنا السؤال «هل أنت مع أن يتميّز المثقّف بخطابه عن خطاب السياسي؟ وكيف؟»، إلى عدد من المثقّفين اللبنانيين، خصوصاً أنّ الأزمة السياسة التي عصفت بالبلد خلّفت وراءها انقساماً حاداً في الشارع بين «عامة» الناس والسياسيين. فهل من المنطقي أن تتسرّب لغة السياسي، التي تدهورت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، إلى لغة المثقّف؟ أم على هذا الأخير أن يكون المعقل الأخير للفكر والمنطق.
سياسي/ثقافي
يرى معظم المثقّفين أنّ دور المثقّف في خطابه، الذي يتناول فيه القضايا السياسية أو الاجتماعية، هو النقد بالدرجة الأولى. ولتحقيق خطاب نقدي بنّاء، عليه أن يقف على مسافة واحدة من الطرفين السياسيين المتنازعين في لبنان، أو يمكنه أن يبيّن تحيّزه الفكري لجهة دون أخرى، لكن في الوقت نفسه يجب أن تكون لديه الجرأة على انتقادها أيضا، فلا يكتب خطابات في مديح هذه الجهة، أو في ذمّ الأخرى.
بهذه الطريقة يكون المثقّف يؤدي واجبه تجاه مجتمعه من جهة، ويحافظ على دوره ومكانته من جهة أخرى. فيقول الصحافي بيار أبي صعب مثلاً إنّ المثقّف عليه أن يسبق جماعته ويكون صاحب النظرة النقدية ليقول لها وللرأي العام أين أخطأت. ويضيف أنّه من الطبيعي أن يكون للمثقّف الدور الطليعي، فيستكشف الأماكن التي لم يتطرّق لها أحد من قبل. لذلك عليه دوماً أن يكون على يسار حزبه أو جماعته، أي في موقع الناقد. كما يحدّد أبي صعب الفرق بين السياسي والمثقّف قائلاً: إنّ قوانين لعبة السياسي براغماتيكية وميكيافيليّة، بينما المثقّف هو حكماً طوباوي وصاحب حلم. الأخلاق بالنسبة إليه تأتي في المرتبة الأولى.
الشاعر شوقي بزيع يرى أنّ هناك شيئاً من القصديّة في الموضوع، فهذا التميّز مقصود بذاته. ومسألة التميّز هي تلقائيّة لكن هدفها ليس أبداً التعالي على السياسيين كما يتعالون هم على الناس. إنّما جوهر الثقافي متميّز، خاصة إذا نظرنا إلى الجانب الإبداعي من المسألة. وإن كان خطاب المثقّف يتميّز عن خطاب السياسي، فذلك لأنّ الأخير يخاطب الآني والعارض وخطابه قد يتغيّر بين ليلة وضحاها، بينما المثقّف يذهب إلى الدائم والأبدي، ولو تعرّض لما هو آني فهو يخترقه ليصبح جوهرياً. هذا بالإضافة إلى أن خطابه يحمل شيئاً من العمق ويحمل بنفسه قدرته على التكيّف، باحتوائه ما هو دائم وما هو متغيّر. ويضيف بزيع أنّ المثقّف يمثّل المستقبل والمحلوم به، لذلك هو يُتّهم بالتعالي والرومنسية. لكن في الوقت ذاته، لا يعفيه هذا الأمر من مسؤولياته كمواطن، فيمكنه أن يتطرّق للسياسة في نصّ إبداعي.
أمّا بالنسبة إلى الشاعر محمد عبد الله، فإنّ الفرق بين الرجل السياسي والمثقّف بالنسبة إليه، الذي يؤدي إلى التباين في الخطابين، هو أنّ الأول مفاوض ويتبع خططاً وتكتيكات معيّنة، بينما الآخر يكتب نفسه وهو استراتيجي، فلا تكتيك في ما يتعلّق بالفن والثقافة. أمّا في ما يخصّ ضرورات السياسة، فيقول محمد عبد الله، إنّ المثقّف لا يخضع لها. فهو لا يكذب إلاّ إذا كان تابعاً لأيديولوجيا معيّنة. ويضيف: «إذا كنت لا أريد القول إنّ المثقّف هو فضيحة السياسي، فهو على الأقل يكشف القناع عنه من خلال النقد».
جوزف عيساوي يعتبر أنّ السياسي ينتمي إلى شبكة قيم وأدوار ووظائف مختلفة عن تلك التي ينتمي إليها المثقّف. فالأول محكوم بفنّ الممكن واللعبة السياسية والمصلحة الضيّقة إلى حدّ الفساد، أمّا الآخر برأيه، فهو ابن السلطة الخامسة إذا كان أكاديمياً والرابعة إذا كان صحافياً أو ابن الهامش الأدبي إذا كان روائيا أو رسّاماً… ويرى أنّ لدى المثقّف قيما وأدوارا مختلفة «أفترض أنّها أقل مصلحيّة وأكثر قدرة على نقد المفاهيم كما الممارسات «العامة أو الخاصة»، السياسية والاجتماعية والاقتصاديّة». ويضيف أنّ مفهوم المثقّف ارتبط، كما نشأ فرنسياً مع إميل زولا ومقاله الشهير «إني أتّهم»، بالاستقلالية عن الجماعة، ثقافية كانت أم اجتماعية، وبالنقد والمراجعة والتمحيص في القيم العامة وما هو متّفق عليه. ويرى عيساوي أنّ هذا المفهوم ينقسم اليوم عالميا، بين مثقّف مستقلّ وآخر مؤيّد لاتجاه سياسي محدّد. وإذا انطبق هذا على الغرب، حيث السياسة تندرج في تيارات وأحزاب، فإنّ بلادنا بحسب عيساوي لا ينطبق عليها ذلك تحديداً، لأن السياسي يكاد يلتصق هنا بما هو إقطاع أو طائفة أو محور إقليمي أو دولي. ويضيف أنه «حتى ثورة الأرز التي دافع عنها وتبنّاها مثقّفون علمانيون، تبيّن أنّهم عاجزون عن انتقاد رموزها السياسية، الذين كانوا للتو في المواقع النقيضة لحرّية لبنان وسيادته واستقلاله».
الشاعر عصام عبد الله يعتبر أنّه من البديهي أن يختلف خطاب المثقّف عن خطاب السياسي، فالمفترض أنّ خطابيهما هما من نسيجين مختلفين. فتختلف لديهما اللغة واللمعة والصورة والمثل… أما الصلة بين الخطابين فهي صلة المنطق واللغة، «وأقصد باللغة ما هي مادة للكلام فقط». أمّا ما تبقى من هندسة الخطابين، فهناك هندستان مختلفتان وأهدافهما مختلفة برأيه. كما يرى عصام عبد الله أنّه عندما يكتب المثقّف السياسة المباشرة أو يدخل في تفاصيل يوميّاتها، فإنه يخفّض مستوى النسيج الإبداعي في خطابه. ويضيف «يُفترض أن يتضمّن خطابه سياسة أمهات الأفكار الكريمة والإنسانية». أمّا منى فيّاض فتوضح في البداية من هو «المثقّف» بالنسبة إليها، وتقول «المثقّف بالنسبة إليّ هو غير المتعلّم. وإذا قلنا إنّ المثقّف هو غير المتعلّم فإن له الدور الذي حدّده له المفكّر الفرنسي دوبريه وهو دور «المحرّض». إذاً، دوره هو أن يقوم بشيء يهزّ المجتمع، برأيها، وأن تكون لديه رؤية مختلفة عن باقي الناس، لا أن يمشي وراء الأفكار الشائعة والمتداولة. وترى فيّاض أنّ الناس تتبع قياداتها وتتماهى معها بشكل كبير، لكن هذا الدور ليس ملائماً إطلاقاً للمثقّف.
أنطوان أبو زيد يرى أنّ خطاب المثقّف مختلف عن خطاب السياسي، بحكم كون الأول لديه نظرة مختلفة وعميقة لأمور السياسة. ويُفترض بالمثقّف أن يكون ممتلئاً بالمعرفة ولديه رؤية تصالح، أعمق من الخطاب السياسي، والحزبي السطحي.
أمّا أحمد قعبور فيقول إنّه إذا كان خطاب السياسي يستند بالأساس الى المشروع السياسي، وفي أحسن حال الى الأيديولوجيا، فإنّ خطاب المثقّف الحقيقي يجب أن يذهب أبعد من ذلك، بمعنى أنّه يجب أن يرتكز على قيمة الإنسان بوصفه إنساناً وليس وقوداً أو مؤونة للإيديولوجيا. إذ إنّ الأيديولوجيا برأيه، والشعار السياسي قد يتغيّران على ضوء المصالح، إلاّ أنّ قيمة الإنسان هي ثابتة أبد الدهر. ويضيف «لذلك أرى أنّ المثقّف «الحقيقي»، يجب أن يكون عنواناً للتمرّد والعصيان على أية سلطة. مع ذلك، هذا الكلام لا يعفي المثقّفين من أن يكون لهم موقف سياسي واضح».
الفنانة عايدة صبرا ترى أنّه من الضروري أيضا أن يتميّز خطاب المثقّف عن خطاب السياسي، فهو قدوة للناس وقد استقى ثقافته منهم في البداية، بالتالي هو يعرف كيف يخاطبهم ويجذبهم أكثر من السياسي الذي هو بعيد من معاناة الناس وأحلامهم، وخطابه يثير توتّرهم. أمّا غريتا نوفل فتلجأ إلى المعنى الأساسي لـ«سياسة» وهو «تسييس الأمور». من هذا المنطلق تقول إنّها ليست «ضدّ تدخّل المثقّف في السياسة، لكن في الوقت نفسه لست مع دخوله في تفاصيلها الصغيرة ولا أقبل أن يستعمل مثلاً في خطابه الكلام البذيء الذي استعمله السياسيون في الآونة الأخيرة». بل ترى نوفل أنّه على العكس، يجب على المثقّف أن يتميّز بلغته ويبتعد عن الصفات «الشائعة»، إذ بإمكانه استعمال تعابير غير تلك التي يستخدمها السياسي للتواصل مع الناس. وتضيف «كوني أدرّس مادة تاريخ الفنّ، فإنني أدرك تماما أنّ الفنانين المهمّين، هم الذين تميّزوا عن الآخرين بالابتعاد عن الابتذال». والمطلوب برأيها هو البحث عن لغة جديدة، غير متفلسفة، تقرّب الناس من المثقّف.
زاهي وهبي يؤكّد ضرورة تميّز خطاب المثقّف عن خطاب السياسي، فالتماهي مع خطاب السياسي ينفي، برأيه، صفة «المثقّف» عن الشخص. ويقول إنه يجب أن يكون لدى المثقّف حس نقدي تجاه السياسي الذي يختلف معه بالرأي وتجاه ذلك الذي يتّفق معه أيضاً، «فلا أعتقد أنّ هناك سياسياً دائما على صواب وآخر دائما على خطأ». وعلى المثقّف أن يختلف عن «عامة الناس»، برأي وهبي، فلا يقدِّس رأياً ولا يصفّق لزعيم أو لقائد إنّما يميّز الصواب من أي جهة أتى. أمّا أحمد الزين فيرى أنّ المثقّف يتميّز بصراحته وجرأته ومقاومته، وحريته. عليه أن لا يدخل في لعبة الفساد أو أن «يتأمرك»، إذ إنّ اليوم تحصل، برأيه، عملية «أمركة» للثقافة العربية بشكل أو بآخر.
ينتهكون قواعدهم؟
هل نجح المثقّفون في هذه الأزمة بتغليب حسّهم النقدي على ذلك العصبي أو الطائفي، وكانوا القدوة التي يتطلّع إليها الناس؟ أم إنّهم اختاروا متاريس كباقي الأطراف المنقسمة في البلد واختبأوا وراءها، متناسين دورهم؟
يقول شوقي بزيع إنّ ما من حكم عام على المثقّفين في وضعهم الحالي. فمنهم من هو منسحب نحو نصّه الإبداعي، ومنهم من هو ملحق بسلطته الحزبيّة أو غيرها. فالمثقّفون التغييريون «لا يخونون نصّهم الإبداعي، ويعملون على تغيير وضعهم القائم. ويبرز هذا الأمر من خلال كونهم نقديين وعابرين للطوائف والأيديولوجيّات. هم ضمير مجتمعهم، وبعضهم دفع الثمن من أجل ذلك. وأرى أنّ هذه الفئة تمثّلني». ويرى بزيع أنّ التعامل مع السلطة يجب أن يخضع لشرطيّ الندّية والنقديّة. ويضيف أنّه استوقفه مجيء الكاتب أمين معلوف مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في الزيارة التي قام بها مؤخراً إلى لبنان. فلم يجد ساركوزي من يخدم هدفه أكثر منه، فمعلوف معروف بتشجيعه حوار الحضارات. لذلك كان معلوف يمثّل سلطة الثقافة الفعليّة ويمثّل سلطته في هذه الزيارة.
عصام عبد الله يرى أنّه ثمّة سياسة ما، في الخطاب الثقافي. لكن هناك فرقا بين النصّ الإبداعي والنصّ الصحافي. ويضيف أنّ هناك أقلاماً مزجت الديباجة الأدبية مع تلك السياسية، فاستعملت الاستعارة والتورية مثلاً في المقاربات السياسة، مثل أنسي الحاج أو غسان شربل، وكانت تجربتهم ناجحة. لكنه يؤكّد أنّ تجربة الحاج وشربل هي مجرّد استثناءات.
منى فيّاض ترى الأمور بصورة سلبية أيضا، لكنها تأخذ الأمور أبعد من ذلك. فهي تعتقد أنّه ليس عندنا الكثير من المثقّفين اليوم. فالكثير منهم يتصرّفون على أنهم جزء من الطائفة والمذهب. وتضيف أنّه «من المفروض أن يسير كلّ مثقّف، عكس الوجهة التي تسير فيها طائفته. وربما نحن نرى هذا الأمر لدى الشيعة أكثر من غيرهم من المذاهب والطوائف، لكن إجمالاً ليس هناك الكثير من المثقّفين الذين يسيرون عكس تيار الطائفة. فهم لا يمثّلون «فضيحة السياسي» بعد». مع ذلك ترى فيّاض أنّ هناك بعض المثقّفين الذين يمثّلون ضمير لبنان، لكن حركتهم لا وزن لها بعد. فللمثقّف دور في إطلاق الأفكار، كما تقول، التي ربما تكون اليوم مخالفة وأتباعها قلائل، لكن مع الوقت هذه الأفكار سوف تحدث تغييراً.
أنطوان أبو زيد يرى أنّ موقف المثقّف يجب أن يدلّ على المستقبل الحقيقي، أي السلام والحلول. ويضيف أنّ كتّاب النهضة بشكل عام، وهم مثقّفون حقيقيّون، وضعوا حلولاً جامعة، كجبران خليل جبران مثلاً في نصه «لكم لبنانكم ولي لبناني». والصورة العكسيّة لهذا النصّ هي القائمة اليوم. فالسياسة بشكل عام، هي بوضع ترجمة خاطئة للحلول، وتستمد وجودها من مسوّغات ما يحيط بلبنان، كما أنّ هناك حدّة في الخطاب وانكفاء وراء المواقف الطائفية والحزبيّة. ويقول أبو زيد: إلى أن يكون هناك منابر خاصّة بالمثقّف تعبّر عن رؤيته الفعليّة، فإنه ما زال هناك أمل في بعض «المثقّفين الحقيقيين»، لكنهم قلّة بحيث لا يعوّل عليهم في صنع القرار. كذلك جوزف عيساوي يرى أنّ خطاب المثقّفين الأكثر شيوعاً اليوم، هو الذي يدافع عن سياسي معيّن أو طائفة معيّنة. أمّا خطاب المثقّف العلماني المستقلّ والنقدي، فخيارات النشر المتاحة لديه تكاد تقتصر على دور قليلة للنشر وبعض صفحات الصحف، وعدد قليل من برامج الفضائيّات. ويضيف أنّ السياسي كما المطرب ونجمات الإغراء، يسحق المثقّف والفرد. ورحلة الوعي الفردي والاستقلال عن كلّ قطيع وسلطة، سواء كانت سياسية أو طائفية وكذلك وسائل الإعلام التابعة لها، تحتاج بالنسبة إلى عيساوي، إلى جهد وتمرين يومي لاكتساب المناعة الذاتية لدى الفرد، والعامة لدى المجتمع المدني، الآخذ في تكوين جمعياته ومؤسساته الطليعيّة.
عايدة صبرا تعتقد أنّ المثقّف يجب أن لا يتحيّز لطرف في هذا الصراع السياسي، بل أن يكون مع البلد ككلّ. فتقول «لا أدري لمَ يجب عليّ أن أؤيّد أحداً، فأنا أعتقد أنّ الحق ليس مع أيّ من الطرفين. أختار أن أكون مع مستقبل لبنان وأنتقد كلّ الأطراف». يجب أن يكون المثقّف، هو من يضع الأمور في نصابها ويبقى على الحياد، برأيها، كي يستطيع بالتالي أن ينتقد، خصوصاً في الوضع الذي وصلنا إليه. فتقول إننا على أبواب الحرب الأهلية. في هذا الوضع يجب على المثقّف، حتماً، أن لا يكون طرفاً.
في المقابل، ينتقد أحمد قعبور الموقف المحايد للمثقّفين، ويقول «إنني ألاحظ أنّ الكثير منهم ينتمي إلى صنف الملائكة بقولهم عن السياسيين «كلّن مثل بعضن»، هذا كمن يهرب من اتخاذ موقف سياسي». ويضيف أنّ الخطاب السياسي يجب أن يكون قائماً على منظومة قيم أخلاقية واجتماعيّة، مع أنّ هناك الكثير من القادة الذين يتّخذون مواقف متهوّرة بلغة «فالتة»، وآخرون يتّخذون موقفاً ثابتاً لكن للأسف بلغة «متهوّرة». هنا تكون مسؤوليّة المثقّف، اتخاذ الموقف الثابت والتعبير عنه بلغة ثابتة.
زاهي وهبي يقول إن المشهد الثقافي في لبنان لا يختلف عن بقية المشاهد الأخرى. فهو منقسم. كل واحد فيهم يؤيّد طرفاً تأييداً مطلقاً، ويرفض الطرف الآخر رفضاً مطلقاً أيضا. فالخطاب الثقافي، برأيي، يتماهى مع الخطاب السياسي، وأحيانا أخرى هو فقط صدى له، وهذا الأمر أكثر خطورة. «وأنا ألوم المثقّف كثيراً على اللغة الإلغائية التي يستعملها». ويضيف أنّه في بلد كلبنان ليس هناك رأي يعوّل عليه غير الرأي الثقافي، «فواجبنا الوطني أن نبحث، كمثقّفين، عن المجالات التي تجمعنا».
أحمد الزين أيضا، يرى أنّ المثقّفين «الشرفاء» أصبحوا قلّة قليلة. فالكثير منهم برأيه، تُدفع لهم الدولارات ليشوّهوا وجه التاريخ، حتى إنّ جزءاً منهم دخل في اللعبة المذهبية فصار يميّز في خطابه الشيعي عن السنيّ عن الدرزي. لهذا يرى الزين أننا نعيش اليوم في لبنان «زمن التلوث السمعي والبصري».
أمّا غريتا نوفل فلا تحكم على المثقّفين، بهذه الدرجة من القسوة، وتفضّل أن تقول إنّ هناك محاولات جدّية من بعض المثقّفين لمراعاة لغتهم. فمن المفروض أنّ المثقّف إنسان حساس جداً، وبالتالي يجب أن يكون على مستوى عال من الأخلاق. وتضيف أنّ لدينا عدداً من المثقّفين المهمين الذين «نفتخر بهم وقد وصلت لغتهم إلى الدول الأجنبية». بيار أبي صعب يرى أن هناك ثقافة حوربة ومزايدة في خطاب المثقّفين، وأنّ هؤلاء لا يتنبّهون إلى حقيقة أنّ هناك قواسم مشتركة بين «المتنازعين» على «الضفتين»، أكثر منه بين متبنّي الرأي السياسي الواحد. ويرى أبي صعب أنّ جزءاً كبيراً من المثقّفين موظفون في مؤسسات تجبرهم على قولبة خطابهم. ويضيف «لكنني لا أدينهم، لأنّه بالنهاية هذا هو الثمن الذي يدفعونه مقابل لقمة العيش. وإنني في هذا لا أنتقدهم أو أستثني نفسي. لكن بسبب أداء المثقّفين السلبي الذي أصبح هو الشائع اليوم، نحن مطالبون، وإنني أطالب نفسي أولاً لأنه ليس لدي سلطة على أحد غيرها، بالبحث عن حيّز حوار بيننا، غير ثقافة الحوربة هذه». ويضيف أبي صعب أنّ المثقّف هو ناقد في البداية ولكن في الوقت ذاته هناك حدود للنقد أيضاً، فهو ليس مستعداً للاستشهاد من أجل رأي سياسي.
أخيراً، محمد عبد الله يقول إنّ هناك سياسة نقديّة، تتضاءل للأسف في العالم العربي ككلّ. فالمثقّف يتحوّل إلى مصفّق ومسبّح، يقلّل من قدراته العقلية حرصاً على سلامته. ويضيف «اللي بدّه ياكل من خبز السلطان بدّه يضرب بسيفه».
وبينما يرى محمد عبد الله المشكلة في تضاؤل السياسة النقديّة، يقول الكاتب الفلسطيني نبيل عودة إنّ المشكلة ليست هنا، بل هي في غياب فكر فلسفي عربي، يرسي فكرا نقديا ثقافيا اجتماعيا وسياسيا. والنقد الأدبي حسب رؤيتي هو زاوية صغيرة من الفكر النقدي. هذا يبرز أيضا غياب حركة ثقافية قادرة على التأثير على المجتمعات العربية، صوت المثقفين هو آخر الأصوات المسموعة حول الواقع المأساوي للمجتمعات العربية».
بعضهم يقول إن صوت المثقّف غير مسموع، بينما كثيرون آخرون يلومونه على عدم استخدامه قدرته الخطابية لجمع الناس حوله وتغيير المجتمعات. ففي العراق، مثلاً، بعض المثقفين يلومون زملاءهم الذين هربوا إلى الخارج قبل سقوط النظام، لاختلافهم معه، لأنهم لم يعملوا، بينما كانت لديهم الفرصة، ضده من الخارج. فلم يكتبوا أدبا ضدّه يوعّون به الناس ويؤسّسون به لمجتمع مختلف، بل على العكس لاحقهم خوفهم منه حتى إلى خارج العراق، فاختاروا خنق صوتهم بيدهم. أمّا بعض «المثقّفين» السعوديين فيكتبون مقالات «في نقد السلطة»، كما يحبّون أن يسمّوها، ليبرهنوا أنّ المثقّف لديه حرية كاملة في بلدهم. إلاّ أنّ المفارقة أنّ مقالاتهم تكون عبارة عن صفحات طويلة في مديح الملوك والأمراء وفي ذمّ بعض «إخوانهم المثقّفين» لأنهم لم يتنبهوا من البداية إلى أنّ النظام لا يريد إلاّ مصلحتهم، فانخرطوا في الأحلام القوميّة والتحقوا سراً بالأحزاب اليسارية، كما يعبّرون. ويشير بعض الكتّاب الصحافيين في مقالاتهم إلى أنّ النظام السعودي يعطي المثقّف حريّة شبه كاملة في الكتابة والنقد، مع شرط التزامه «على الدوام الحدود المعروفة، وهي عدم المساس بوحدة البلد، أو بمشروعيته السياسية والدينية، وفيما عدا ذلك المثقف حر في آرائه السياسية». وحرّية النظام السعودي، برأيهم، تتجلّى في أنه لا يسجن أو يعتقل أي مثقّف مثل بقيّة الأنظمة العربية، «ولكن الذي يخطئ في عدد كبير من خياراته ومواقفه السياسية، يصبح ضحية للتيار الأصولي الذي يريد فرض رؤيته على ما يجب أن تكون عليه البلد»!
على كل حال، يبدو أنّ أكثر ما تحتاج اليه الدول العربية اليوم، تلك التي تسجن مثقّفيها بسبب خطاب ما، أو تلك التي تعاقبهم بطرق أخرى، هو المزيد من الخطابات الواعية من مثقّفين يعرفون دورهم ويتحمّلون مسؤولياتهم، ليترفّعوا عن الخطابات المبتذلة التي تقلّل من شأنهم، ويحافظوا على اللغة التي تطرب الأذن وتوصل الأفكار السليمة، فلا يصبحوا أبواقاً تصدح بفكر هذا السياسي أو ذلك الزعيم الطائفي، فالسياسيون لديهم ما يكفيهم من منابر، إلاّ أنّ المثقّف هو الذي يجد نفسه اليوم بأمسّ الحاجة إلى منبر حرّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى