اسرائيلصفحات العالم

“إسرائيل الخارج والداخل”

سليمان تقي الدين
سيطرت الرومانسية في الخطاب السياسي العربي حول قضية فلسطين . كانت فلسطين جزءاً مسروقاً من الأمة العربية والإسلامية . الأرض، حقوق الشعب، والمقدسات . لا ننكر حجم التراث الفكري الهائل العربي وغير العربي الذي عالج هذه القضية من منظور موقعها في المشروع الاستعماري القديم والحديث . لكن معظم الحركات السياسية غرفت من الشعورية والعاطفية أكثر بكثير من استيعاب المشروع الصهيوني . الحصيلة النهائية أن فلسطين تقلّصت الى حدود فلسطينية، وكأنها ليست مفصلاً مهماً من التحرر الوطني العربي والعالمي . هذه هي المشكلة الرئيسة اليوم التي تسود على حركة الشعب الفلسطيني وعلى تعامل العرب والعالم مع قضيته .
من الرومانسية الى الواقعية صار الثابت هو وجود الدولة الصهيونية والمتحرك هو حقوق شعب فلسطين حتى لا نقول الحقوق العربية في فلسطين .
يتحرك العقل السياسي الغربي تحت سقف الاعتراف بحق “يهود العالم”، أي بالمشروع السياسي الصهيوني وليس بحق يهود المنطقة، في أن يقيموا كياناً هو الأقوى وهو الحضور الساطع للغرب ولمصالحه في مواجهة الهوية العربية وإمكانات تبلورها في كيان متماسك موحد ومستقل .
من دولة اليهود التي تحتمل بين جنباتها بعض “الأقليات” العربية من أديان مختلفة الى “يهودية الدولة” الطاردة للتنوع تدحرجت قضية فلسطين لتصبح هماً إنسانياً اجتماعياً يتعلق بمجموعات بشرية تحتاج الى إدارة لشؤونها على هذا الأساس تدور المفاوضات اليوم بتواطؤ عربي دولي لإخراج هذه التسوية اللاغية للهوية والسيادة والاستقلال والحرية . في واقع المفاوضات لا في المسميات المعلنة، النقاش يدور حول جيوب فلسطينية وكأنها هي المستوطنات وليس العكس . فلا معنى لشعار وقف الاستيطان والتهويد إلاّ هذا المعنى . لقد سقط شعار التحرير وبناء الدولة الفلسطينية لصالح مطلب وقف القضم الصهيوني لبقية باقية من فلسطين تعبّر عنها دوائر وكانتونات بل غيتويات في غزة والضفة . هذا الانحدار المريع هو الحل التصفوي بعملية تاريخية امتدت على مدى قرن من الزمن وأشرفت على الختام في احتمال إنهائها بعملية عسكرية تدفع بالشعب الفلسطيني خارج حدوده . هذا العالم المتحضر، هذا العالم المراقب والمتابع لحظة بلحظة لمأساة شعب فلسطين لا يستطيع ولا يرغب في كبح العنصرية الصهيونية وجرائمها وهو يسلّم لها سلفاً بما تعتقده وتؤمن به وبما تراه مناسباً لأمنها .
في هذا المسار التاريخي كان العطب الأساسي يتمثل في فهم الوطنيين العرب للمشروع الصهيوني وعلاقته بالإمبريالية . بدأ الانهزام العربي لحظة فهم العرب أو أفهموا أن هناك فرقاً بين الدولة اليهودية والإمبريالية، أو بين المشروعين . عندها صارت فلسطين ليست في صلب مشروع التحرر العربي وتراخت العلاقة بين تقدم العرب واستقلالهم وحريتهم وبين مستقبل فلسطين . أطنب العرب في استخدام المقدسات الفلسطينية عنصر تحريك للعواطف الشعبية فضاع مفهوم الحقوق الوطنية لصالح “قداسة” القدس . وها نحن اليوم لا نعير القدس نفسها المعنى الرمزي الوطني بعد أن تخلينا عن حقوق عرب 1948 والشتات وعن جغرافية وتاريخ فلسطين .
إذا كنا قد وصلنا الى هنا فكل مواجهة عربية مع الكيان الصهيوني تصبح مستهجنة مستنكرة متطرفة غير واقعية وتستبطن أموراً سياسية أخرى . الدولة الصهيونية هي الأصل والثابت وعلى شعوب المنطقة أن تقدم ما يرضي هذه الدولة والغرب . شرعية “المجتمع الدولي” هي الشرعية وكأنه لم يكن من قبل استعمار مباشر وحركات تحرر، وكأنه لم تنجز الشعوب حريتها ضد “المجتمع الدولي” القديم والحديث . وكأن “المجتمع الدولي” يعني شيئاً آخر غير نظام الأقوياء الذين انتصروا في الحرب العالمية الثانية والذين انتصروا اليوم في الحرب الباردة .
ومن رومانسية عربية الى رومانسية إسلامية تحارب “الخرقة الحمراء” لا الثور الحقيقي الذي يقف خلف تلك الخرقة، لن ننجز تحرراً وطنياً .
الدولة الصهيونية هي الخرقة الحمراء وأمريكا والغرب هما الثور الحقيقي . الدولة الصهيونية بهذا المعنى في عمق نسيج النظام العربي التابع الخاضع المستسلم لإملاءات وضغوط ومصالح الغرب . “الدولة” هي نفسها الحاضرة في تقسيم السودان وفوضى اليمن وتدمير العراق والفتنة اللبنانية . “الدولة” هي الحاضرة في مسألة الأقليات هنا وهناك وفي مشروع الشرق الأوسط اللاغي لهوية المنطقة المتطلع إلى جعلها سوقاً اقتصادياً وأرض موارد ومنطقة نزاعات وحروب . “الدولة” هذه هي في لبنان ليست حزباً سياسياً وزعيماً وخطاباً وطائفة متخاذلة أو أخرى خائنة، بل هي النظام السياسي والاقتصادي والنهب والفساد وغياب العدالة والعنف والامتيازات والحرمانات والوصاية الدولية وكل ما يناقض مفهوم الوطن والدولة . ولعمري ليس هناك من يملك مشروعاً لمواجهة هذا المشروع على هذا المستوى .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى