ويكيليكس- التحـدي
فواز طرابلسي
أول ما يجدر قوله بصدد تسريبات وثائق الخارجية الأميركية التي ينشرها موقع «ويكيليكس» يتعلق بعملية التسريب ذاتها. إن المسؤولين في وزارة الخارجية الذين اتهموا المشرفين على الموقع بأنهم «مجرمون» يخفون عن الرأي العام أن الوثائق المعنية منشورة على الإنترنت في متناول عدد لا بأس به من الموظفين الأميركيين: 2,3 مليون بالنسبة للوثائق المصنّفة «حميمة» و850 ألفاً للوثائق المصنفة «سرية». مع ذلك، يصعب القول إن التسريب قد تمّ بمعرفة الحكومة الأميركية كما يريدنا الرئيس محمود أحمدي نجاد أن نصدّق.
في تصفح أولي وجزئي لعدد من الوثائق يمكن التعرّف على رأي دبلوماسيين أميركيين في ثقل دم ساركوزي ومجون برلوسكوني (مع حفظ الألقاب جميعاً) قبل التوقف أمام نبذات دالة على حالة حكّامنا. الأزمة الدبلوماسية الناشبة العام الماضي جراء إصرار معمر القذافي على نصب خيمته في نيويورك والتلميحات حول ممرضته الرومانية «الشقراء المثيرة» تنقلك إلى ولع عبد الله بن عبد العزيز بالخيل تساعده في الليل على «النوم الهادئ والمريح» في البيداء. وتحت بند الصدق، اعتراف لرئيس جمهورية اليمن لدبلوماسي أميركي بأنه كذب على أعضاء مجلس الشعب اليمني مدعياً أن قواته تقصف مواقع لتنظيم «القاعدة» في حين أن القصف صادر عن القوات الأميركية. وفي مضمار الشفافية واحترام دولة القانون، إعلم أن الرئيس اليمني لا يمانع في تهريب الويسكي من جيبوتي شرط أن يكون «ويسكي جيد». ولما كان الضد يظهر حسنه الضد، هذا مسؤول إسرائيلي يهاجم السلطة الفلسطينية لأنها «ضعيفة وفاسدة»، يضارعه إعجاب رئيس الموساد السابق مائير داغان بـ«شجاعة» فؤاد السنيورة.
ولمن يعتقد بأن الدبلوماسية الأميركية مهمومة بنشر الديموقراطية والحرص على حقوق الإنسان، وفرة من الوثائق قد تساعد على شفائه من داء سذاجته العضال. مطلع احتلال العراق، نصح الرئيس المصري الأميركيين بأن «ينسوا الديموقراطية في العراق» لأن العراقيين «قساة بالفطرة». كأن النعومة الفطرية لدى الشعوب شرط واجب الوجوب للديموقراطية. وفي زيارة غنية إلى الرياض، في آذار 2009، أثنى مساعد الرئيس الأميركي للأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب أيما ثناء على خادم الحرمين الشريفين على دوره في تشجيع حوار الأديان، و«تنمية الحقوق» وتعيينه امرأة في منصب نائب وزير التربية. وتأكيداً على أن الولايات المتحدة لا تتذكر حقوق الإنسان إلا مع الخصوم، سأل عضو مجلس الشيوخ بنيامين كاردن، في الشهر ذاته من العام ذاته، الرئيس السوري عن مصير 12 من المعتقلين السياسيين في سوريا. فتلقى رداً يقول إن 12 معتقلاً إلى عشرين مليون نسمة نسبة لا بأس بها وأن الأحرى بالزائر أن يلتفت إلى نصف مليون لاجئ فلسطيني في سوريا وإلى استمرار عذاب أهل غزة.
الخيط الذي ينتظم عشرات الآلاف من برقيات وتقارير السفارات الأميركية عبر العالم هو طبعاً التعبئة المحمومة التي تمارسها الدبلوماسية الأميركية في مواجهة إيران وحشدها الحكومات والقوى ضدها.
قد لا نستغرب أن يدعو قادة عرب الولايات المتحدة الأميركية إلى ضرب إيران، لكن التعابير المستخدمة ذات دلالة. من تحريض ملك عربي على «قطع رأس الأفعى» إلى «نصيحة» مسؤول لبناني للأميركيين بأن يكونوا مستعدين لضرب إيران إذا فشلت المساعي الدبلوماسية، مروراً بمواقف لا ينقصها التصلّب من ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة وولي عهد أبو ظبي، الذي يبدو أنه يملك حظوة خاصة لدى الإدارات الأميركية ووكالات استخباراتها. هذا إلى جانب المواقف المعروفة والمتوقعة من مبارك مصر وعبد الله الأردن.
استحقت هذه المواقف تعليقاً لمسؤول إسرائيلي أن «الدول العربية تدفع الولايات المتحدة إلى عمل عسكري بطريقة أقوى ممّا تفعل إسرائيل». وهو حري أن يرتفع وساماً وطنياً قومياً على صدور حكّامنا الأشاوس وصفعة لكرامة مَن انتخبهم وأيّدهم واستزلم لهم ودافع عن مواقفهم وبرّر وتنمّر باسمهم ودعا لهم بطول العمر.
أمران لم يبرزا بما فيه الكفاية في تقارير الصحافة العربية.
الأول هو استغلال الإدارة الأميركية التهديد الإسرائيلي بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران للضغط على الحكومات المترددة لتأمين تصويتها إلى جانب العقوبات ضد الجمهورية الإسلامية في مجلس الأمن. وهو ما حققه وزير الدفاع روبرت غيتس مبعوثاً لدى الحكومتين التركية والإيطالية في شباط 2010.
أما الأمر الثاني والأهم فهو ما تكشفه الوثائق من عميق العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج. في تقرير بتوقيع يعقوب هاداس، نائب مدير دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الإسرائيلية، أن سلطنة عُمان تقيم علاقة «مستقيمة» مع إسرائيل لكن يصعب جرّها إلى مواقف جذرية ضد إيران. في المقابل، هاداس هذا، الذي يكتب بناء على زيارة للدوحة للتفاوض في أمر استئناف العلاقات القطرية ـ الإسرائيلية، لا يبدو قلقاً من انضمام قطر إلى ما يسميه «المعسكر الجذري» إذ يرى في سياسات قطر مجرد «لعبة» في معرض المنافسة مع العربية السعودية.
مهما يكن، يبدو التناقض فاضحاً بين مواقف القادة العرب من تسلّح إيران النووي وبين الرأي السائد لدى شعوبهم. في استطلاع أخير نظمته مؤسسة جيمس زغبي الأميركية بالتعاون مع جامعة ماريلاند، لدى عينة واسعة من مواطني العربية السعودية ومصر والأردن يتبيّن أن 88% من المستجوبين عيّنوا إسرائيل على أنها الدولة التي تتهدد أمنهم و77% الولايات المتحدة و10% منهم فقط ذكروا إيران.
هذا رسم بياني للتعاكس الصارخ بين مزاج الشعوب العربية وسياسات الحكّام ومواقفهم. وهذه مجرد عيّنة عن الهوة النامية في الأولويات بينهما، حري أن يوجّه طعنة نجلاء لأصحاب النظريات الاثنية ـ الطائفية ـ المذهبية ـ الهووية (نسبة إلى هوية) ورد واشنطن التي تريد إقناعنا بأن الطاغي على هموم أهل المنطقة ومشاعرهم هو النزاع السني ـ الشيعي والنزاع الإيراني ـ العربي!
في الأيام الأخيرة، صوّت الكنيست الإسرائيلي على قرار يقضي بإحالة الانسحاب الإسرائيلي من القدس والجولان إلى الاستفتاء الشعبي. القرار الذي اقترحته حكومة بنيامين نتنياهو، يعبّر عن مزاج حقيقي لدى قطاع أكثري من الإسرائيليين.
هل يستطيع حاكم مصر أو مليك الأردن إحالة اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة إلى الاستفتاء الشعبي؟ هل يتجرّأ أي من الحكّام العرب أن يطرحوا «مبادرة السلام العربية» على استفتاء شعبي عربي؟
نتحداهم أن يفعلوا!
هنا تنعقد الصلة بين الوطني ـ القومي والديموقراطي. وهناك المحك وكل المسألة.
السفير
فواز طرابلسي
أول ما يجدر قوله بصدد تسريبات وثائق الخارجية الأميركية التي ينشرها موقع «ويكيليكس» يتعلق بعملية التسريب ذاتها. إن المسؤولين في وزارة الخارجية الذين اتهموا المشرفين على الموقع بأنهم «مجرمون» يخفون عن الرأي العام أن الوثائق المعنية منشورة على الإنترنت في متناول عدد لا بأس به من الموظفين الأميركيين: 2,3 مليون بالنسبة للوثائق المصنّفة «حميمة» و850 ألفاً للوثائق المصنفة «سرية». مع ذلك، يصعب القول إن التسريب قد تمّ بمعرفة الحكومة الأميركية كما يريدنا الرئيس محمود أحمدي نجاد أن نصدّق.
في تصفح أولي وجزئي لعدد من الوثائق يمكن التعرّف على رأي دبلوماسيين أميركيين في ثقل دم ساركوزي ومجون برلوسكوني (مع حفظ الألقاب جميعاً) قبل التوقف أمام نبذات دالة على حالة حكّامنا. الأزمة الدبلوماسية الناشبة العام الماضي جراء إصرار معمر القذافي على نصب خيمته في نيويورك والتلميحات حول ممرضته الرومانية «الشقراء المثيرة» تنقلك إلى ولع عبد الله بن عبد العزيز بالخيل تساعده في الليل على «النوم الهادئ والمريح» في البيداء. وتحت بند الصدق، اعتراف لرئيس جمهورية اليمن لدبلوماسي أميركي بأنه كذب على أعضاء مجلس الشعب اليمني مدعياً أن قواته تقصف مواقع لتنظيم «القاعدة» في حين أن القصف صادر عن القوات الأميركية. وفي مضمار الشفافية واحترام دولة القانون، إعلم أن الرئيس اليمني لا يمانع في تهريب الويسكي من جيبوتي شرط أن يكون «ويسكي جيد». ولما كان الضد يظهر حسنه الضد، هذا مسؤول إسرائيلي يهاجم السلطة الفلسطينية لأنها «ضعيفة وفاسدة»، يضارعه إعجاب رئيس الموساد السابق مائير داغان بـ«شجاعة» فؤاد السنيورة.
ولمن يعتقد بأن الدبلوماسية الأميركية مهمومة بنشر الديموقراطية والحرص على حقوق الإنسان، وفرة من الوثائق قد تساعد على شفائه من داء سذاجته العضال. مطلع احتلال العراق، نصح الرئيس المصري الأميركيين بأن «ينسوا الديموقراطية في العراق» لأن العراقيين «قساة بالفطرة». كأن النعومة الفطرية لدى الشعوب شرط واجب الوجوب للديموقراطية. وفي زيارة غنية إلى الرياض، في آذار 2009، أثنى مساعد الرئيس الأميركي للأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب أيما ثناء على خادم الحرمين الشريفين على دوره في تشجيع حوار الأديان، و«تنمية الحقوق» وتعيينه امرأة في منصب نائب وزير التربية. وتأكيداً على أن الولايات المتحدة لا تتذكر حقوق الإنسان إلا مع الخصوم، سأل عضو مجلس الشيوخ بنيامين كاردن، في الشهر ذاته من العام ذاته، الرئيس السوري عن مصير 12 من المعتقلين السياسيين في سوريا. فتلقى رداً يقول إن 12 معتقلاً إلى عشرين مليون نسمة نسبة لا بأس بها وأن الأحرى بالزائر أن يلتفت إلى نصف مليون لاجئ فلسطيني في سوريا وإلى استمرار عذاب أهل غزة.
الخيط الذي ينتظم عشرات الآلاف من برقيات وتقارير السفارات الأميركية عبر العالم هو طبعاً التعبئة المحمومة التي تمارسها الدبلوماسية الأميركية في مواجهة إيران وحشدها الحكومات والقوى ضدها.
قد لا نستغرب أن يدعو قادة عرب الولايات المتحدة الأميركية إلى ضرب إيران، لكن التعابير المستخدمة ذات دلالة. من تحريض ملك عربي على «قطع رأس الأفعى» إلى «نصيحة» مسؤول لبناني للأميركيين بأن يكونوا مستعدين لضرب إيران إذا فشلت المساعي الدبلوماسية، مروراً بمواقف لا ينقصها التصلّب من ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة وولي عهد أبو ظبي، الذي يبدو أنه يملك حظوة خاصة لدى الإدارات الأميركية ووكالات استخباراتها. هذا إلى جانب المواقف المعروفة والمتوقعة من مبارك مصر وعبد الله الأردن.
استحقت هذه المواقف تعليقاً لمسؤول إسرائيلي أن «الدول العربية تدفع الولايات المتحدة إلى عمل عسكري بطريقة أقوى ممّا تفعل إسرائيل». وهو حري أن يرتفع وساماً وطنياً قومياً على صدور حكّامنا الأشاوس وصفعة لكرامة مَن انتخبهم وأيّدهم واستزلم لهم ودافع عن مواقفهم وبرّر وتنمّر باسمهم ودعا لهم بطول العمر.
أمران لم يبرزا بما فيه الكفاية في تقارير الصحافة العربية.
الأول هو استغلال الإدارة الأميركية التهديد الإسرائيلي بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران للضغط على الحكومات المترددة لتأمين تصويتها إلى جانب العقوبات ضد الجمهورية الإسلامية في مجلس الأمن. وهو ما حققه وزير الدفاع روبرت غيتس مبعوثاً لدى الحكومتين التركية والإيطالية في شباط 2010.
أما الأمر الثاني والأهم فهو ما تكشفه الوثائق من عميق العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج. في تقرير بتوقيع يعقوب هاداس، نائب مدير دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الإسرائيلية، أن سلطنة عُمان تقيم علاقة «مستقيمة» مع إسرائيل لكن يصعب جرّها إلى مواقف جذرية ضد إيران. في المقابل، هاداس هذا، الذي يكتب بناء على زيارة للدوحة للتفاوض في أمر استئناف العلاقات القطرية ـ الإسرائيلية، لا يبدو قلقاً من انضمام قطر إلى ما يسميه «المعسكر الجذري» إذ يرى في سياسات قطر مجرد «لعبة» في معرض المنافسة مع العربية السعودية.
مهما يكن، يبدو التناقض فاضحاً بين مواقف القادة العرب من تسلّح إيران النووي وبين الرأي السائد لدى شعوبهم. في استطلاع أخير نظمته مؤسسة جيمس زغبي الأميركية بالتعاون مع جامعة ماريلاند، لدى عينة واسعة من مواطني العربية السعودية ومصر والأردن يتبيّن أن 88% من المستجوبين عيّنوا إسرائيل على أنها الدولة التي تتهدد أمنهم و77% الولايات المتحدة و10% منهم فقط ذكروا إيران.
هذا رسم بياني للتعاكس الصارخ بين مزاج الشعوب العربية وسياسات الحكّام ومواقفهم. وهذه مجرد عيّنة عن الهوة النامية في الأولويات بينهما، حري أن يوجّه طعنة نجلاء لأصحاب النظريات الاثنية ـ الطائفية ـ المذهبية ـ الهووية (نسبة إلى هوية) ورد واشنطن التي تريد إقناعنا بأن الطاغي على هموم أهل المنطقة ومشاعرهم هو النزاع السني ـ الشيعي والنزاع الإيراني ـ العربي!
في الأيام الأخيرة، صوّت الكنيست الإسرائيلي على قرار يقضي بإحالة الانسحاب الإسرائيلي من القدس والجولان إلى الاستفتاء الشعبي. القرار الذي اقترحته حكومة بنيامين نتنياهو، يعبّر عن مزاج حقيقي لدى قطاع أكثري من الإسرائيليين.
هل يستطيع حاكم مصر أو مليك الأردن إحالة اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة إلى الاستفتاء الشعبي؟ هل يتجرّأ أي من الحكّام العرب أن يطرحوا «مبادرة السلام العربية» على استفتاء شعبي عربي؟
نتحداهم أن يفعلوا!
هنا تنعقد الصلة بين الوطني ـ القومي والديموقراطي. وهناك المحك وكل المسألة.
السفير