“ويكيليكس”: مع وضد من؟
د. وحيد عبد المجيد
قبل أن تهدأ الضجة التي آثارها نشر وثائق تتعلق بحربي أفغانستان والعراق، شرع موقع “ويكليكيس”، المتخصص في نشر وثائق سرية للدول والشركات، في كشف النقاب عن رسائل وبرقيات دبلوماسية حساسة تم تبادلها بين مسؤولين أميركيين كبار ونظرائهم في دول أخرى.
وإذا كان نشر وثائق بعضها شديد السرية والحساسية على هذا النحو يخلق نقاشاً حول محتواها، فهو يثير في الوقت نفسه جدلاً حول الموقع الذي ينشرها، وأهدافه الحقيقية، وما إذا كانت قوى معنية تقف وراءه أو تدعمه لتحقيق مصالح معينة. وقد بدأ هذا الجدل منذ آخر يوليو الماضي عندما شرع “ويكليكيس” في نشر وثائق خاصة بالحرب على أفغانستان، ثم صار أكثر إثارة حين نشر وثائق متعلقة بالحرب على العراق. واشتدت هذه الإثارة، وستشتد أكثر في الأيام القادمة، بعد نشر البرقيات الدبلوماسية السرية.
فقد كشفت بعض الوثائق التي نُشرت في الأشهر الأخيرة مواقف وألقت الضوء على علاقات وتحالفات، وأظهرت تواطؤاً هنا وهناك، على نحو يغير صوراً مرسومة لسياسيين وجماعات وحركات شتى. وأدى ذلك إلى ردود فعل متباينة، انطوى بعضها على إطلاق اتهامات نال موقع “ويكيليكس” منها نصيباً كبيراً. ويثير ذلك سؤالا سياسياً ومعرفياً مهماً هو: هل ينبغي أن يمتنع الباحثون عن الحقيقة إذا أدى بحثهم إلى نتائج تصب في مصلحة طرف أو آخر؟ وهل تكف الحقيقة عن أن تكون كذلك إذا دعَّم كشفها موقف فريق ضد آخر؟ وهل يمكن أن تكون الحقيقة مجردة ومتعالية على تناقضات الحياة وتعقيداتها؟
تكمن أهمية هذا السؤال المركب، والذي تتجاوز دلالاته حالة “ويكيليكس”، في أن النقد الأقوى والأكثر جدية هو أن بعض وثائق الموقع قد تدعم موقف جناح أو اتجاه في الإدارة الأميركية يسعى لتسريع الانسحاب من أفغانستان، وأن بعضاً آخر منها قد يقَّوي الموقف الذي يدفع باتجاه مواجهة حاسمة ضد إيران بعد أن كشفت بعض الوثائق المدى الذي بلغه نفوذها في العراق. ويستند هذا النقد، أيضاً، الى الغموض الذي يكتنف طريقة حصول العاملين في الموقع على أعداد هائلة من الوثائق السرية التي يرى البعض أنه يصعب الوصول إليها بدون مساعدة أشخاص نافذين في دول أو أجهزة استخبارات أو غيرها.
لذلك، ولغيره، يبدو السؤال عن علاقة بعض ما يُنشر تحت شعار البحث عن الحقيقة بمصالح أطراف معينة مثيراً لاهتمام حقيقي. ويطرح هذا السؤال قضية يمكن أن يساهم إجلاؤها في محاولة الإجابة عليه، هي مدى الأثر الذي يُحدثه كشف حقائق تتعلق بحدث مازال جارياً في اتجاهات صانعي القرار في البلد المعني به. غير أنه ليس متصوراً أن يؤدي كشف حقيقة ما، مهما كانت أهميتها، إلى مراجعة جوهرية لخط سياسي ما لم تكن مقومات هذه المراجعة متوفرة في الواقع. والمثال الأقرب في هذا المجال هو نشر أوراق البنتاجون في صحيفة “نيويورك تايمز” عام 1972 كاشفة الكثير من جوانب تاريخ حرب فيتنام السري. فكانت تلك الأوراق عبارة عن دراسة موسعة أُجريت بناء على طلب وزير الدفاع الأسبق ماكنمارا وأُرفقت بها وثائق كانت سرية في ذلك الوقت.
وكشفت تلك الأوراق، مثلها مثل وثائق حربي أفغانستان والعراق التي نشرها “ويكيليكس” أخيراً، أخطاء سياسية وعسكرية كبيرة. وقيل وقتها، مثلما يقال الآن، إنها بددت الأوهام المتعلقة بإمكان شن حرب محكمة تقل فيها إراقة الدماء إلى أدنى حد ممكن.
لكن “أوراق البنتاجون” أثبتت أيضاً أن الحرب لم تكن ضرورية أصلاً، سواء على المستوى الثنائي بين شطري فيتنام أو على صعيد التدخل الأميركي، وأنها لم تكن لتندلع لو التزمت الولايات المتحدة اتفاق جنيف 1954 الذي دعا إلى انتخابات تحقق الوحدة بين الشمال والجنوب.
كما كشفت “أوراق البنتاجون” معلومات كانت جديدة تماماً، بل صادمة بشدة، حين نشرتها “نيويورك تايمز”، بخلاف وثائق حربي أفغانستان والعراق التي لم تأت بجديد صادم نوعياً بل جاءت بتفاصيل كثيرة وربما دقيقة بشأن أحداث كانت المعرفة العامة بها قائمة قبل نشر هذه الوثائق. وليس صعباً استنتاج أن رقابة ذاتية صارمة فُرضت على كثير من المعلومات عن حرب العراق بصفة خاصة. وطالت هذه الرقابة أسماء أشخاص سعياً لتحصين عملية النشر قانونياً.
ورغم أن “أوراق البنتاجون” كانت لهذين السببين أقوى في حينها من وثائق ويكيليكس الآن، فما كان لها أن تساهم في دعم الاتجاه المعارض لحرب فيتنام إلا لأنها نُشرت في وقت كان هذا الاتجاه قد تنامى وأصبح قادراً على التأثير في عملية صنع القرار واستثمار وثائق سلبَ نشرُها ألبابَ الكثيرين في ذلك الوقت.
وما قد يجوز استنتاجه من هذه المقارنة هو أن وثائق “ويكيليكس” لن تقدم بالضرورة دعماً حاسماً لطرف أو آخر في الإدارة الأميركية، وقد لا تترك بالتالي أثراً جوهرياً في مسار الخلاف القائم في الساحة السياسية في واشنطن بشأن استراتيجية الولايات المتحدة في الفترة القادمة.
ولا يعني ذلك أن هذه الوثائق لن تصب في مصلحة فريق أو آخر في هذه الإدارة وخارجها، أو أن طرفاً أو آخر لن يجد فيها ما يفيده. فلا تعارض بين البحث عن الحقيقة ومحاولة البعض استثمار هذه الحقيقة لمصلحته. لكن هذا الاستثمار لا يكفي ما لم يكن القائم به قادراً على تغيير ميزان القوى في مصلحته، وبغض النظر عن نشر وثائق تدعم موقفه من عدمه.
كما أن البحث عن الحقيقة ليس موقفاً مجرداً ومتعالياً وخالياً من الانحياز. فهذا البحث منحاز فعلاً إلى اتجاه يتوسع تدريجياً في العالم اليوم. ويؤمن بضرورة الشفافية. ومن الطبيعي أن يصطدم هذا الاتجاه بمن تؤذيهم الشفافية ويفيدهم حجب حقائق تشينهم أو تتعارض مع مصالحهم.
وقد نشأ موقع “ويكيليكس” عام 2007 باعتباره ساحة للحوار بين مجموعة من الناشطين على الإنترنت في بلاد عدة مدفوعين بسعي إلى إتاحة حق المعرفة.
غير أنه لم يكن أول الساعين إلى كشف حقائق عن حربي أفغانستان والعراق، إذ سبقه جنود أميركيون استخدم كل منهم كاميرا هاتفه النقَّال في تغطية فردية لبعض مشاهد هاتين الحربين.
وهكذا يندرج “ويكيليكس” ضمن تيار الشفافية الذي يضعه في صف من يفيدهم كشف حقائق هنا وهناك وضد من يضيرهم ذلك.
ولا يعني ذلك بالضرورة أنه لا علاقة له بهؤلاء أو أولئك. فالعاملون فيه بشر لهم مصالحهم، وقد يكون لبعض هذه المصالح أثر سلبي في عملهم. لذلك فالمهم هو أن تبقى المصالح في حدود لا تتعارض جوهرياً مع مبدأ البحث عن الحقيقة.
الاتحاد