ظاهرة مظفر النواب الشعرية
علي حسن الفواز
الشاعر مظفر النواب ظاهرة ثقافية وسوسيوسياسية اكثر من كونه ظاهرة لشاعر يومي مباح للقراءات النقدية التقليدية. وهذا التوصيف كرسته عوامل تجاوزت ما هو شعري وما هو نقدي الى مرجعيات سياسية وايديولوجية وشعبوية وضعت النواب في سياق من الصعب استدعاء نصوصه خارج اغواءات توصيفاته.
واحسب ان التمظهر الوصفي الذي استكانت اليه تجربة النواب بكليتها خلال سنوات التمرد والنفي، هو الذي اسبغ على شعريته نوعا من الاحتفالية الاستعادية والقرائية، والتي كرسته كظاهرة دون ان تجد لنفسها فاصلا بين النواب الشعبي والنواب السياسي/ الايديولوجي والنواب الشاعر المشغول بكتابة القصيدة المغامرة بكل انشغالاتها في التجديد التفعيلي، والتجريب الشكلي والتي كتب مشروعها واسئلتها مع العديد من معاصريه.
صورة النواب الشعبي، هي الصورة الاكثر استعادة في الذاكرة العراقية السياسية والثقافية، وربما هي خزينها التعبيري الذي حوّل الامكنة / السجن / الهور/ الجنوب / الحزب / الوطن الى مصادر نفسية وحسية مسكونة بالاستيهامات اللذوّية، فضلا عن استغراقه في محمولات صور حيواته اليومية للمعاني الشعبية للنضال السياسي والايديولوجي المفتوحة على دلالاتها كمستويات تصورية زاخرة بنوع من التأويل العميق لمعاني الحياة والقوة والحلم، وربما وضع قاموسه العامّي وهو ابن المدينة في سياق اكثر اثارة واغواء على التداول، حتى بات هذا القاموس ذو النحت اللغوي / البلاغي هو الاجراء القرين بنظر الشاعر واستجابته لوظائف الاستعارات الشعرية والتوظيف التعبيري والدلالي في فضاءات القصيدة العامية.
كتاب الناقد والطبيب النفسي د.حسين سرمك حسن يضع مشروعه القرائي في سياق الظاهرة النوابية، ولعله يمنحها تفخيما تعبيريا حينما يضع عنوان كتابه (الثورة النوابية) قرينا بعنوان ثانوي (دراسة اسلوبية في الشعر العامي للمبدع مظفر النواب).
الكتاب صدر حديثا عن ‘دار الينابيع’ في دمشق/ 2010 وتضمن العديد من المحاور التي استبطن من خلالها الباحث عوالم النواب الشعرية، واشتغالاته الحسية والجمالية، اذ يضع هاجس النواب الجمالي والحسي بعيدا عن الظاهرة المكرسة للنواب السياسي والتعبوي، اذ يقول سرمك في مقدمة كتابه: ‘ان الاحتفاء بالدور السياسي والتعبوي لشعر الشاعر والمناضل الثائر مظفر النواب العامي والفصيح قد اربك كثيرا، وكثيرا جدا، عملية الامساك النقدي المقتدر بمنجزات الثورة الهائلة التي حققها النواب في بنية القصيدة العراقية والعربية ومضامينها’ (ص7).
هذا التوصيف هو تمهيد لاجراء مقترح قرائي لمشروع كتابة النواب للقصيدة العامية، والتي مثلّت طفرة مهمة في تاريخ هذه الكتابة، اذ اجدها الاكثر اثرا وحضورا من اشتغالاته في القصيدة التفعيلية، خاصة وان النواب قد اصطنع له في هذه الكتابة قاموسا وصورا وتراكيب شعرية واشتقاقات وعلاقات تجاور وتراكب طباقي واستعاري تجاوز فيها التاريخ النمطي الغنائي للقصيدة الشعبية التي قرأناها عند الشيخ زاير الدويج، وعند شعراء الجنوب وعن شعراء المدينة، والتي وضعته في سياق كتابة القصيدة ذات (النبرة الخافتة) كما تسميها فاطمة المحسن، هذه النبرة التي يستغور من خلالها عوالم المكان الشعبي، ويجترح لها بنيات صوتية تأملية، وبعضها اقرب الى الهمس الشعري.
يضع الباحث تصوره لما حملته (الثورة النوابية) في سياق حديثه عن التحولات الحادثة في البيئة الشعرية العراقية عند الجواهري وعند المجددين من الشعراء الرواد خاصة الشاعر بدر شاكر السياب، وهذه التحولات التي وضعها الباحث تحت عنوان(الحداثة الشعبية، هذا المركب العجيب) انطلقت من التجديد الذي عمد اليه النواب من خلال اضافاته التصويرية والبنائية، وتجاوزه الفني لموضوعات القصيدة العامية واغراضها التقليدية التي دأب على كتابتها الشعراء عبد الحسين الكصاد وعبد الامير الفتلاوي والحاج زاير وملا عبود الكرخي وغيرهم.
لقد اصطنع النواب لقصيدته حضورا ديناميا من خلال صياغة مستويات نفسية وتركيبة للقصيدة، اذ ادخل النواب الزمن النفسي في القصيدة، وادمج هذا الزمن داخل بنية درامية تتراكب فيها الافعال كدلالة للاصوات، اذ (يستولد مظفر عادة الافعال من مسميات مكوناتها وليس العكس، فيشتق الفعل اشمس من مفردة الشمس) (ص52) واحسب ان توظيف النواب للبنية الدرامية الصراعية هو تعبير عن خاصية التوتر الذي ظلت تعصف بحياته، مثلما تعصف بلغته الشعرية التي اعاد صناعتها بنوع من التوصيف البلاغي، والتوصيف الصوري الذي يناسب البيئة الانسانية والصوتية التي تعزز زخم وجوده، مثلما تعبر عن حرفيته في توظيف البنية الصوتية كمؤثر ايقاعي وتخيلي يعبر عن طبيعة وعيه لأزمة التحولات السياسية، وخاصية الصراعات مع الاستبداد والظلم ورموزه في امكنة القاع، وفي العلاقات اليومية الضاجة بالاحتجاج، فضلا عن وعيه لأزمة ابطال قصائده الخاضعين الى ما يمكن ان نسمية بسرديات الحكاية الشعرية اليومية، فقصيدة النواب واستخداماته المثيرة للفعل (تخلو من المقدمات، يهيمن / الفعل / بصورة شديدة عدديا وصوريا، وكلها افعال حركة وصراع واقدام وتوتر واحتدام) (ص102).
يضع الباحث مجموعة الشاعر النواب الوحيدة ‘الريل وحمد’ وعدداً من القصائد الاخرى امام مقترحه القرائي المنبهر بالتجربة النوابية، وبما يجعل هذه القراءة اشبه بـ (الحفر) النفسي الذي يستعير لها الباحث توصيفات نقدية وتركيبية، لا تضع النواب في سياق تاريخ تحولات القصيدة العامية بقدر ما تعيد انتاجه داخلياً كصوت متفرد ظاهرته الشعرية الكبرى، تمثلا ليقين يشهد على ان النواب هو (من صنف الشعراء الذين يحولون الارز الى نبيذ والى خمرة كونية تجعل الحزين سعيدا في كل حال)، وهذا التحديد يجعل النواب مسكونا بالقصيدة الموقف، والقصيدة الغناء، والقصيدة الرؤيا، اذ يبدو هذا المركب المجال الاستثنائي الذي وضع النواب نفسه فيه، ورسم لقصيدته من خلالها ما يجعلها اشبه بـ (الشفرة) التي يدخل في اغوائها الاغنية مع الاهزوجة مع الانفعال والتوتر الجنسي والهم السياسي.
يقول الباحث حسين سرمك حسن (مع النواب دشّنت القصيدة العامية بدء مرحلة المعالجة الفنية الباهرة جماليا ورمزيا وحسيا، وكانت الخطوة الاولى في هذه القصيدة، قصيدة (للريل وحمد) التي صدمت المرتكزات التقليدية / الباردة / لذائقة المتلقي العراقي ) (ص188).
هذا التوصيف وضع قصيدة النواب امام مستوى تحليلي يفترض وجود الادوات التي يعتمدها الباحث في اعادة القراءة، وفي فحص النص، لكن الباحث المتماهي مع شفرة انبهاره بالتجربة النوابية، وضع قصيدة ‘الريل وحمد’ بمستوى القصيدة القياسية، اذ يملي النظر اليها نقديا اسقاط الجانب التشريحي المفترض لقراءتها، مقابل تكريسها كوثيقة للحلم الانساني العاشق، وحلم المرأة الجنوبية وهي تكشف من خلال صوتها وبوحها عوالمها الاغترابية في الامكنة / المحطات، واستشراف روحها اللجوجة المسكونة باستحضار العاشق / البطل / المناضل. فضلا عن النواب وكما يرى ذلك الباحث قد توافر على كتابة القصيدة العامية بكل تجديداتها المتأثرة باتجاهات الحداثة الشعرية على مستوى البناء التفعيلي والصوتي، وعلى المستوى الوظائفي الذي استعان له بالضمائر كأصوات، والبنية الدرامية كفضاء نفسي للصراع النفسي العميق في الامكنة، حيث يرى الباحث (الانفتاح التأويلي ـ دلاليا وصوريا ورمزيا – في القصيدة العامية مع النواب، وقد قام بذلك بصورة مدروسة وقصدية، ولم تكن صرعة شعرية عابرة) (ص 193).
احسب ان الباحث حسين سرمك قد استعاد النواب من خلال هذه القراءة، وهذه الاستعادة هي ابراز لظاهرة التجديد الذي لم تألفه القراءات النقدية مع القصيدة العامية، اذ ظل التجديد كمنظومة مفاهيم واجراءات نقدية قرينا بظاهرة القصيدة الجديدة التي كتبها الرواد ومن بعدهم، وهذا الاجراء اجده بحاجة الى مراجعة سوسيوثقافية، باعتبار ان القصيدة التي كتبها النواب هي وثيقة حسية وبلاغية لمحنة الانسان العراقي وهو يواجه عوامل اغترابه، واقصائه ونفيه، فضلا عن كونه كتابة (بكراً) وتحتاج الى مراجعة اسلوبية قد تسهم في اعادة توصيف القصيدة العامية التي تحولت في مراحل لاحقة الى قصيدة اشاعة وقصيدة عدوى من الصعب اعادة توصيفها.
‘ كاتب من سورية
القدس العربي