صفحات ثقافية

“أمطار” أمجد ناصر ورواية المغاير

null
يوسف ضمرة
في رواية “حيث لا تسقط الأمطار” للشاعر أمجد ناصر، ربما ظل الشخص”يونس” بلا حكايات مهمة أو لافتة، بالقياس مع الشاعر”أدهم جابر” الذي فرضت عليه الظروف الموضوعية ألف حكاية وحكاية، وعرضته للموت والحصار، وشتتته في أقاصي الأرض، مخترقا أسوار الحامية التي ظل فيها يونس، إلى عالم غريب، كان عليه في مواجهته أن يتسلح بالصبر والحنين.
“أدهم جابر” اسم مفاجئ ليونس البدوي، ولكن هذه التعرية الأولى لهوية “يونس” الشخصية، كانت بداية حكاية أكبر، امتدت عشرين سنة في المنفى والغياب.
وبعد هذه العشرين سنة، يقرر”أدهم جابر” أن يعود إلى”الحامية” -البلد الذي غادره مضطرا أو مقتنعا- ولكن هذه العودة لن تكون مجانية أو عادية، حيث هنالك عدة استحقاقات في انتظاره. ليس أهمها هيئة الأمن الوطني أو وفاة الأب والأم بعد الجد الجدة، ولا زواج الحبيبة الأولى”رلى”، ولا وجود أطفال وأبناء لإخوته وأخواته. بل الأهم، هو ما يمكن تسميته “جردة حساب” مع الشخص الذي كأنه قبل عشرين سنة، أي مع يونس.
الفكرة فيها الكثير من التشتت والفانتازيا. فأن تنسلخ عن شخص كنته ثم تعود إليه، لا بد لك من مراجعة الرحلة التي طالت، وتقديم كل تلك التبريرات المقنعة وغير المقنعة، في سبيل إرضاء الشخص الأول. فهو لم يختف، ولم يمت، ولكنه صار ظلا خفيا إلا للشخص الجديد الذي انتحل اسما جديدا.
والفكرة وجودية تماما كما يقول أدهم جابر. فهل كان يونس موجودا حقا؟ وهل يطالبه بتفسيرات وتبريرات لما فعل به؟ وهل الشخص الآخر الذي اكتشف الشاعر في المنفى، الذي يكتب الشعر ويدعى”أدهم جابر” موجود أيضا أم لا؟
نحن أمام شخصية روائية مركبة.
فثمة شاب عشريني يدعى “يونس” يقرر الانضمام إلى تنظيم سياسي، وحين يبدو أنه سيكتشف يضطر إلى المغادرة نحو مدينة الحصار والبحر “بيروت”، ولئلا يُكشف أمره من قبل مخابرات الحامية التي غادرها، يتخذ له اسما جديدا هو “أدهم جابر”.
وهو يظن أن هذا الاسم كان عاديا كي يضيع في زحام مدينة الحصار والبحر. وهو اسم عادي حقا، لكنه لن يظل كذلك باللغة. واللغة هي التي تلعب اللعبة الكبرى في حياة هذا الرجل. منذ أن توقف عند معزوفات والده الخطّية، إلى أن كتب شعر التفعيلة وهو في المدرسة حين كان اسمه يونس الخطاط، إلى أن أصبح الشاعر المعروف عربيا وإلى حد ما عالميا باسم “أدهم جابر”.
تأويل وشك
يتوقف كل ما له علاقة بيونس عند مغادرته حدود الحامية. ومنذ هذه المغادرة، تبدأ رحلة شاب آخر شاعر يدعى”أدهم جابر”. فهل يمكن القول إنه فصام اختياري؟ ولكنه لن يظل كذلك. لأن الذي ابتدأت حياته في مدينة الحصار والبحر، كان شخصا آخر بحق، من حيث المكان وثقافته وعلاقاته الاجتماعية وطموحاته وهواجسه وأحلامه وحكاياته.
ولكنه في المقابل لم يتخلص بالمطلق من الشخص الأول الذي كان اسمه “يونس”. فمن الصعب أن تتخلى عن تاريخ وبنية سيكولوجية وأشخاص تجمعك بهم لغة الدم والقربى. وعليه يمكن تسمية ما قام به الثاني فعلا انتحاريا لآخر! ومهما حاولنا أن نشرح أو نفسر الأمر، فإنه سوف يظل ملتبسا وقابلا للتأويل والشك.
لا ترتب العودة إلى “الوطن” على الشاعر “أدهم جابر” ما ترتبه على الآخرين، من زيارة الأهل وإعادة وصل ما انقطع، وترجمة الحنين إلى واقع موضوعي له مذاق مر بمرور الزمن. فهنا تختلف الحكاية، ويجد الشاعر نفسه وجها لوجه أمام ذلك الظل الذي لم يكن يراه سواه. أصبح “يونس” في العودة كائنا حيا مرئيا وموجودا، ومن حقه على الشاعر أن يعرف كل ما حدث. وهذه هي المهمة الأكثر صعوبة في عودة الشاعر المغترب.
هكذا نجد أنفسنا أمام مذاق مختلف للحب الأول، وللأمكنة الأولى، وللأشخاص الآخرين. وهكذا نكتشف أن الحنين لم يكن عاديا مثل حنين أي مغترب آخر، فهو هنا مقرون بشخصية أخرى ظلت في المكان. وإذا كان “يونس” يريد تفسيرا ومبررات لما قام به الشاعر المغترب، فإن الشاعر أيضا يريد أن يعرف كيف سارت حياة “يونس” في غيابه.
هذه الرواية لا تشبه الرواية التي نعرفها، ولا يمكن التعامل معها كسيرة ذاتية للشاعر أمجد ناصر، لأن ما عاشه “يونس” قبل خلع اسم جديد عليه، ومغادرته الحامية، لن يعود مهما أو ذا قيمة أمام معضلة الثنائية التي قامت عليها الرواية: يونس وأدهم.
تسديد حساب، أو دفع دين قديم لم يسقط بالتقادم، حتى لو استمر الشتات ألف سنة أخرى. فسوف يظل “يونس” موجودا، قابعا في ذلك المدى الصحراوي، مجردا من أي طموح أو علامات فارقة.
ويمكن تشبيه ما جرى بالصوت والصدى. ولكن لكل من يعرف أحدا من الاثنين الحق في اعتبار أي منهما الصوت وأي منهما الصدى. فالمثقفون والشعراء ورفاق العمل السياسي في الخارج، يعتبرون “أدهم جابر” هو الصوت، بينما الأوراق والمعاملات الرسمية لا تعرف إلا “يونس”، ولا تتعامل مع “أدهم جابر” إلا كاسم ظل.
الصدى والصوت
ولكن الأخطر من ذلك هو ما يسكن الشاعر نفسه. حيث لا أحد يعرف من في أعماقه الصوت ومن الصدى، لأنه هو لا يعرف ذلك أصلا. ورلى، الحبيبة الأولى، تعرف “يونس”، ولكنها تعرف أن “يونس” هو الذي رأته في الصحف والمجلات وأحيانا على الشاشات الفضية. أي أن “يونس” هو الصوت، و”أدهم” الصدى، على الرغم من تلازم الصورة باسم “أدهم”.
هكذا نصل إلى مسألة جديدة في الرواية، وهي المكان. فلولا عودة الشاعر إلى الحامية، وإلى الميدان الذي كان يوما ملعب يونس، لما كان لهذه المواجهة بين الاثنين أن تحصل. فقد انتقل الشاعر عبر مدن عدة، شبيهة ومغايرة للحامية. قريبة منها جغرافيا وبعيدة. ولكن المواجهة لم تتم، لأن المكان لم يكن ملائما لتلك المواجهة.
ففي ترحال الشاعر، كان هو المسيطر والقائد للاثنين معا. ذلك أن الحواضن الاجتماعية والثقافية والسياسية الجديدة خارج الحامية، فرضت شخوصا وقضايا واهتمامات وأفكارا وحكايات تخص الشاعر، حيث كان “يونس” مجهولا لتلك الحواضن، ولم يكن على صلة إلا بالشاعر “أدهم جابر”.
وهذا يعني أن الشاعر لم يجد نفسه يوما مطالبا بكشف حساب عن تلك السنوات التي قضاها بعيدا، وعن مبررات كل ما فعل، وخصوصا انتزاعه المكون الرئيس في هوية “يونس” الشخصية، وهو الاسم بالطبع.
وبعودة الشاعر إلى الحامية.. الحاضنة الاجتماعية الأم ليونس، تمكن “يونس” من البروز علنا، لأن كل ما كان يخص الحواضن الاجتماعية الغريبة، التي لا تعرف إلا الشاعر “أدهم جابر” قد اختفت. ولأن الشاعر “أدهم” أصبح وحيدا في الميدان الأول، بل وبدا مضطربا ومرتبكا، حيث يدرك الآن في هذا المكان تحديدا، بشخوصه وعلاقاته وثقافته، أن لا مفر من الاعتراف بما اقترفه قبل عشرين سنة، ويدرك أيضا أن الاعتراف لم يعد كافيا، إذ عليه أن يجد المبررات التي تحمل في طياتها أكبر مقدار من الإقناع والوجاهة.
هنا نضع أنفسنا على بطولة جديدة بحق، وهي بطولة المكان. فبينما يظن الكثيرون أن مجرد ذكر المكان في النص، يمنح المكان أهميته، إلا أن هذا وحده ليس له أي قيمة فنية أو موضوعية. فأهمية المكان، تتأتى من دوره الطالع من إدراك الكاتب لكل ما يختص به المكان من متغيرات ثقافية وسياسية واجتماعية. وبكل قدرته -أي المكان- على حفر بصمته كالوشم على شغاف القلب.
لا أحد يعرف كم ميلا قطع الحوت سابحا بيونس النبي في أحشائه. ولكن الحوت في نهاية المطاف عاد إلى الشاطئ، وقذف بيونس، وأعاده إلى مكانه الأول. وهذه ليست مصادفة هنا، فالكاتب يذكر هذه القصة، وهو يتساءل عن مبررات والده في اختيار “يونس” اسما له.
معالجة الجرح
واللافت، هو أن المكان تغير، كما تتغير الأشياء كلها في الكون. ولكن “يونس” الذي قد تغير أيضا، كما تغيرت “رلى” و”خلف” والآخرون، لا يزال يحمل جرحا ظل ينزف طوال عشرين سنة.
ولا أحد في هذا العالم قادر على معالجة الجرح في الكون كله أيضا، سوى شخص واحد فقط، هو الشخص الذي جرد “يونس” من اسمه، ومن هويته، وطاف أصقاع الأرض، حاملا ملامح يونس، وذكرياته وطفولته، وقدم نفسه للعالم الآخر خارج الحامية بوصفه شخصا آخر.
أي أن هنالك شخصا سرق الآخر. والآن، وفي المكان الأليف ليونس.. مكان الطفولة والصبا والحب الأول والأحلام الأولى والرغبات المفاجئة، يجد السارق نفسه وجها لوجه أمام الأول، من دون حصانة الشاعر، ومن دون حصانة الحواضن الثقافية والسياسية  التي كانت تحصنه، وتمنع “يونس” من مساءلته.
هذه الرواية المليئة أسى وشجن وألم، هي امتداد لكتاب أمجد ناصر السابق “فرصة ثانية”. أو -للدقة ربما- تفسير لذلك الكتاب. وهي مصادفة غريبة، أن أقرأ هذه الرواية التفسيرية لنص سابق، بعد قراءتي رواية “عشيق الصين الشمالية” للكاتبة الفرنسية “مارغريت دوراس”، التي تعتبر تفسيرية لرواية “العشيق” السابقة. مع التنويه إلى غياب أي علاقة بين رواية أمجد ناصر ورواية مارغريت دوراس.
فالعلاقة الوحيدة فقط، هي أن كلا من الكاتبين كتب نصا جديدا يفسر من خلاله نصا سابقا، أو يستكمله، أو يملأ الفراغات فيه. ولا أنسى في السياق نفسه ما باح به ماركيز ذات يوم، حين قال، إنه كتب روايته العظيمة “مائة عام من العزلة” لكي يفسر روايته الصغيرة “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”.
يتبع الشاعر أمجد ناصر في هذه الرواية، تقنية السرد غير المستقيم، ويبتعد عن الالتزام بالمفهوم الكرونولوجي للزمن. ذلك أن النص الروائي ليس حكاية من الحكايات الشعبية، يبدأ ويسير مستقيما في صعود وهبوط إلى أن ينتهي. فالزمن كما يدرك أمجد ناصر ليس له شكل محدد، وهو من صنعنا نحن، مع الأخذ في الاعتبار تلك التغيرات التي تحدث لنا ولكل ما حولنا من بشر وأشياء. ولأن الزمن كذلك، فإن أهميته لا تطلع من كرونولوجيته على الإطلاق، إلا عند المؤرخين ربما. لكن الزمن عند الروائي مختلف تماما.
ولذلك نرى الروائي هنا يتنقل من مرحلة إلى أخرى، وفقا لأهمية الحالة التي ينوي التطرق إليها، ووفقا لارتباطها بالحكاية الأساسية. وليست هذه التقنية تهربا من كتابة السيرة الذاتية، لأن الرواية هنا لا تشبه السيرة الذاتية، ولكنها تشبهها في مكان ما، لأن القارئ العربي بات يعرف أن الشاعر أمجد ناصر تناول اسمه من على قارعة الطريق، وتخلى عن اسمه الحقيقي، بسبب قضايا سياسية كان يعيشها.
وليس أسهل على القارئ من القول إن الرواية الفلانية هي سيرة ذاتية، لأن في ذلك تسطيحا وتيسيرا على القارئ في فهم النص، وتبرئة للنفس من محاولة النفاذ إلى ما وراء اللغة وما بين الكلمات من مفاهيم وأفكار ومعالجات ثقافية وفكرية وفلسفية وسياسية أيضا.
ومهما قيل، فإن هذه الرواية التي تشبه الرواية، تعد من أهم الروايات العربية التي كتبت في العقد الأخير. وهذا ليس غريبا على كاتب مثل أمجد ناصر، المسكون بالمختلف والجديد والمغاير، وغير المألوف في الكتابة العربية من قبل.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى