يوسف عبدلكي كتاباً أبعد من التمثيل الصافي
محمد شرف
أقامت “أيام غاليري” معرضاً للفنان يوسف عبدلكي في دمشق خلال شهر كانون الاول الفائت، ضم أعمالاً تعود الى حقبات مختلفة من مسيرته الفنية، كما تم إصدار كتاب في هذه المناسبة تضمن في مقدمته قراءة معمقة ولافتة لأعمال عبدلكي انجزها الفنان إميل منعم. الغاية منها المساهمة في “دفع التذوق الى مرتبة أسمى وأعمق“.
لا يسعنا في البداية الاّ أن نؤكد كلمات اميل منعم، من حيث امكان تعدد القراءات وتنوعها، كما من حيث اختلاف الآراء في مواجهة العمل الفني. هذه الحالة لا تنطبق على يوسف عبدلكي تحديداً، بل يمكن أن تطاول كل عمل فني مهما يكن نوعه، فالقوالب الجاهزة في صناعة العمل، أو في التعامل معه، ليست من سمات الفن كما أن تعدد القراءات الفنية واختلافها لا يستبعدان كون الفن أحد البراهين على سعي الفرد الى تخطي العمل الفني، على اختلاف اساليبه، ليستخلص منه ما يمكّنه من بناء عالمه الخاص، الذي يتوجه من خلاله الى الآخرين.
لا بد أن نلحظ الصعوبة التي تواجهنا، في هذا الظرف الموضوعي المتأزم، لمعالجة بعض المسائل الذهنية، إذ سندرك حينها مدى الجهد الذي طالما بذله يوسف عبدلكي، المعتاد على صلافة الدهر، متخطياً لعنة الغربة وضيق المنفى الطوعي أو القسري، ليحوّل تلك الآفات آفاقاً فسيحة للعطاء، جاعلاً من الجماد “روحاً غير مرئية”، على قول الفيلسوف الاسكندراني بلوتين، الذي حدد هدف الفنان منذ القرن الثالث قبل بدء التاريخ الميلادي.
لا ندري ما الذي يشحذ همة عبدلكي، بالرغم مما يجول في نفوسنا من تخمينات تنسحب ايضاً على طريقة اختياره لموضوعاته. ثمة تساؤلات كثيرة، بديهية، تدور حول بساطة الموضوع، وحول ذاك السكن المريب، والمخادع ربما، الذي يعتمل في احشائه. كان قدر تلك الاشياء التي نراها كل يوم ونزيح نظرنا عنها لكينونتها المقتصرة على العادي، البسيط، والتي قد لا تحمل في طيات تجاعيدها، أو في شكلها الهندسي، سوى ذكريات حياة آفلة، نقول ان تلك الاشياء الغارقة في صمتها صارت هدفاً تشكيلياً في لوحة الفنان التي لم تزيّنها طمعاً ببعثها من جيد، وهو ما درج عليه آخرون، ولو من وجهة نظر فلسفية، أو تقنية عبر مفاعيل اللون.
أسود وأبيض. الشيء ونقيضه، أو الذي يتحد ويتفاعل معه، ومن ذاك التفاعل تتولّد المساحة الفاصلة بين كتلتين ليستا في الضرورة جسمين أو شيئين. قد ترى الحياة والموت، أو الموت دون سواه في اعتباره ملخصاً لما سبقه أو مرحلة من مراحله، “أن تولد فذلك يعني أن يبدأ موتنا”، يقول تيوفيل غوتييه. الموت في الطبيعة الجامدة، كي لا نقول الميتة، ليس هو نفسه في لوحة عبدلكي، فالزهرة قد تكون مقطوفة لتوّها، والعصفور الممدد على الطاولة أمام السكين المغروز في الخشب لم يتحلل بعد، والسمكة لا تزال تحتفظ بهيئتها إثر مغادرتها الماء والحياة معاً. لكن رأس السمكة المقطوع يضعها ضمن سياق آخر، وتالياً ضمن إيحاءات مختلفة.
كأن الانتقال الى الدنيا الاخرى، الى حالة الجمود، لا يكفي بالنسبة الى السمكة، أو الى الجمجمة التي سارت شوطاً أكبر، وانتقلت الى مرحلة من الموت أكثر تقدماً. ان علاقتنا مع المرئي تتحدد ضمن أطر معينة، وحالة هذا المرئي، حياً أكان أم ميتاً، أو ما بين الاثنين، تحمل اشارات مختلفة وتؤدي الى تفاعلات متناقضة في درجة التلقي ونوعيته. رأس الحيوان المقطوع لتوّه، بخلاف السمكة، يحمل مدلولات تعبيرية أشد من صورة جمجمته العظمية، لكنه يفضي بنا الى عوالم أخرى، ذهنية وتشكيلية. لكن هذا الخيار يحمل توجهاً مباشراً وتبسيطياً ربما، في حين يصبح للجمجمة مكانة أشد وقعاً في خلاصها من مقومات التأثير المباشر، الذي قد يثيره مشهد الدم أو اللحم الممزق. فما بالك بهذه الجمجمة وقد التفّ حولها حبل في شكل خانق، وكيف يمكن فهم تصوير السمكة الميتة المحصورة بين مسمارين غُرزا في الخشب، لمنعها من القيام بحركة لم تعد في صلب حالتها الفيزيائية العادية إثر خروجها، أو اخراجها، من الماء.
موت واحد لا يكفي. يُخيَّل الينا ان حال الجمجمة والسمكة، في تعرضهما لأهوال ما بعد الموت، تشبه حال احدى شخصيات مظفر النواب في واحدة من قصائده حين يقول “- قالوا يُقتل يُنفى – يُقتل؟ لا يكفي القتل، لا بد يُعذّب بعد القتل ثلاث مرات”. صورة يوسف عبدلكي التشكيلية قد تكون عرضة لتأويلات شتى. تفسير واحد لا يكفي.
“العمل الفني يبقى شيئاً آخر غير الخطاب القابل للتفسير”، سبقنا شاليمو الى هذا القول، ونحن بدورنا نعي تماماً ان كل قراءة للعمل الفني ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، ومن الصعب أن تتوقف عند تفسير معيّن استناداً الى دلالات محددة. تفسيرنا، في حال قيامه بحسب المعنى المتداول للكلمة، كتفسير غيرنا ايضاً يبقى نسبياً ويرتبط بمفاهيم ومثاليات معينة. وبما ان الفن يشكّل عالماً مستقلاً تحكمه قوانينه الذاتية، الخاصة به، فهو يبدو، كما يقول هيوغ، فاعلية خلاقة تنشد مداها، وهو الجمال الذي يستعصي، في جوهره، على كل تفسير.
يثير اهتمامنا الدرب الذي سلكه عبدلكي والذي قد يؤدي، عملياً، الى مناقشة من هذا النوع. فإذا كان البعض يستسيغ التحوير وتشويه الشكل وتوخي الرمز، وهو شكل من اشكال التعاطي الممكن والمشروع مع فن التصوير، فإن عبدلكي يعتمد التمثيل الصافي وصولاً الى حدوده القصوى أحياناً، لتصبح اعماله ذات صبغة “توثيقية” تذكّرنا بدروس الرسم التي يتلقاها طلاب مادة الغرافيك في معاهد الفنون. ليس هذا الأمر بغريب على الفنان الذي كان درس هذه المادة تحديداً، لكن هذا الاسلوب “المحيّر” الذي يتماثل مع التمثيل الواقعي ولا يشبهه، يتساوى مع التجريد في استثارته لأسئلة جوهرية، وفي امكان إخضاعه لمختلف انواع التأويل. هنا، وفي هذا الموقع بالذات، تتحدد الاشكالية التي تولّدها اعمال الفنان التي تخدم اهدافاً تشكيلية ذاتية، نسمح لأنفسنا بتخمينها أحياناً من دون أن نكون واثقين تماماً من اجتهاداتنا، وذلك عبر تخطي مدلولاتها الواقعية، المباشرة، ما يجعلها عرضة ايضاً لدرجة متفاوتة من التلقي، تبعاً لثقافة العين التي تراها.
لا تمثل المقاييس التقليدية للوحة حاجزاً أمام عبدلكي، كما ان تخطيها وتحطيمها لا يشكلان في حد ذاتهما هدفاً، بقدر ما هما وسيلة شكلية لا تعود ذات اهمية حاسمة في السياق العام للعمل التشكيلي، الاّ من حيث تركيز مضمونه ضمن مساحة معينة، يفترض الفنان انها الأكثر تلبية لطموحاته التعبيرية. لا يعني هذا ان مقاييس اللوحة، ومدى طولها الى عرضها، تتناسب دائماً مع المضمون وتشكل الاطار الطبيعي، التقليدي، له، بحيث يتوزع “الفراغ” المحيط بالجسم الممثَّل على نحو حسابي. استعملنا هنا كلمة فراغ رغم انها لا تفي تماما بالغرض، لكنها تعبّر عن المساحة غير المشغولة نسبيا. اما بالنسبة الى مقياس اللوحة غير التقليدي، فاننا نتذكر، على سبيل المثال، بعض اعمال روفينو تامايو المفرطة في استطالتها بحيث كان يلجأ الى الواح عدة من المازونيت موضوعة جنباً الى جنب، كي يكوّن لوحة تمتد الى اكثر من ثمانية امتار، في حين لم يتجاوز عرضها العشرين في المئة من طولها، ليرسم طبيعة جامدة تتبعثر عناصرها على المساحة الكبيرة. واذا كان الفراغ – الحيز غير محسوس لدى تامايو، فانه يصبح مقصودا في اعمال عبدلكي مع تقشفه المبدئي الذي يحيله على خلفية حيادية، مع الاخذ في الاعتبار ان هذا الحيز هو “فضاء” في الدرجة الاولى، قبل ان يصبح، في الدرجة الثانية، مساحة تملأها خطوط ونقاط وضروب من التظليل (الحزّ).
تجتاز الخطوط الافقية اللوحة من طرف الى طرف، لكنها لا تفسح المجال للمضمون ولا تتوقف عند حدوده. ان حلا من هذا النوع يسهل الامور، ويصنع المضمون من قماشة اخرى هي غير قماشة الخلفية فيبرزه، ويصبح ذلك اشبه بإلصاق صفحة على اخرى. هذا المؤثر البصري، المبني على التعاكس، لا يتوخاه الفنان، واذ اراد تمييز موضوعه، وهي نية واضحة عمليا، فهو يلجأ الى التظليل كاستجابة منطقية لمتطلبات المضمون وطبيعته، ولتأكيد نظامه الذاتي ضمن التأليف العام للوحة. لكن الظل الذاتي لذاك المضمون هو اساس في تبيان الحجم، حتى من وجهة نظر هندسية، وهو احد مقوماته البصرية، اما الضوء فيجيء في اعمال عبدلكي كعنصر طارىء وبديهي، يؤدي دورا مفصليا في بناء الكتلة من جهة، وفي تركيز موقعها وتفاعلاتها البصرية من جهة اخرى، وهو يومض على سطح تلك الكتلة – الموضوع، كي ينظم عملية التوازن في لوحة يخرج تأليفها على الاطار التقليدي.
هذه المداخل والمقاربات الذاتية تقودنا الى ملاحظة اسس بناء اللوحة ومكامن الاختلاف والتميز في مفهومها. درجت العادة لدى رسامي الطبيعة الجامدة، او لدى جزء كبير منهم على الاقل، على تنظيم طبيعتهم تلك وتوزيع عناصرها في شكل مدروس، عبر انتقاء هذا الغرض دون ذاك او هذا الاناء دون سواه، في محاولة لتشييد اسس المنظومة العامة موضوعيا قبل نقلها الى اللوحة. لا يعتمد عبدلكي هذا المبدأ، ولا ندري إن كانت مواد طبيعته الجامدة قائمة موضوعيا، كما انها، في حال وجودها، لا يأخذ الفنان منها سوى بعض من هيئتها، وهذا البعض قد يكبر او يصغر تبعا للموضوع، ثم يعيد تنظيم العلاقة بين عناصرها على اسس محض ذاتية.
نحن اذا امام عملية اعادة نظر في المرئي. ان مجرد رسم رأس عملاق لسمكة بعيدا من حجمه الطبيعي يتضمن تجاوزا لقواعد التمثيل المعروفة، مع علمنا بما يمكن ان يتضمنه هذا القرار من اشارات، ومن تأويلات لدى المتلقي. من ناحية اخرى، يلجأ الفنان الى التلاعب بالمنظور، مما يؤدي احيانا الى انطباع بتموضع الاشياء على انخفاض واضح من افق النظر، فتتسع فسحاتها، حين تكون صحنا او فنجانا، وتنفرج تقعراتها وتتحور احجامها نسبيا، من دون ان تفقد صلتها بالواقع (يذكرنا هذا بأوضاع موديلات ايغون شيل، الذي كان، كما يقال، يرتقي سلّما لدى رسمها). اضافة الى ذلك لا يتوانى عبدلكي، وبحسب هذا المنظور، عن تجسيد عناصر الموضوع على خط عمودي فتتداخل حدودها العليا والسفلى في مخالفة صريحة لأصول التأليف الاكاديمية، ناهيك بموقعها الذاتي ضمن الصفحة وكأننا نشهد عملية نزاع بين الكتلة والفراغ، برغم الاختلال، الواضح والمقصود، بين احجامهما.
السمكة والزهرة والصندوق الفارغ والفنجان والعصفور والسكين واليد المقطوعة، لا تخرج عن كونها عناصر واقعية في عالم محسوس تحولت مفردات تشكيلية غير عادية في اعمال يوسف عبدلكي وشكلا فنيا، يرى البعض فيه سكونا وصمتا، في حين يرى آخرون حركة و”روحاً غير مرئية”. ان تاريخ العمل الفني هو تاريخ اشكاله، يقول هاينريش فولفين، ان ما يهمنا من العمل الفني ليس الموضوع، بل طرق معالجته والوسائل المتبعة في بنائه، وهذه الناحية الجوهرية تقع في صلب عالم يوسف عبدلكي التشكيلي ¶
كتاب يوسف عبدلكي تـبـجـيـل الـفـحـم والـيـد الـتـي لا تـنـفـعــل
نزيه خاطر
ضخم على كثافة كتاب “عبدلكي” ومكثف بأناقة. وبمحتوياته يختزن ذاكرة محترف من خلال نماذج تختزل تحولات عين وقلق يد. كتاب يحكي من دون ثرثرة. كراهب متقشف او كدرويش معتزل في حال الرؤية. تكفيه كسرة خبز ليغرق في فضاء من ورق وبياض. او في سمكة او في صدفة، تفاحة، مسمار… الخ. اي انه بالقليل يرحل بعيداً وقد يشي قليله ببخل من عرف القلة ولم يشف. لذا هو يترك لغده المؤونة والحلم. وهو ككتاب، مضغوط على مفردات منتقاة بصرامة تلي عمليات الغاء عدة ابتغت ابقاء المميز في قول المعنى، والمشع في إلباسه رداء من ضوء.
وللبياض فخاحه. انه المكان، وقد يراوح طبيعته. وهو مؤهل في الوقت عينه لقنص حتى اصغر الاشارات التي تستدعيه، الى الاستعارات التي تخصّبه وتخصب هذه الاشارات في آن واحد. انه لون في الانتظار. ساكن في مساحته، الى ان تحط عليه نقطة توقظ فيه نبضاً. مستنفر على خشية، كأن قدره ان يخصَّب، فيما تراوده بين مد وجذر رغبات مجنونة تتلاطم ولا تكنّ. بياض يحلم بفقدان عذريته على يد مغامرة اقتحامية لماعة ومتوّجة بالنشوات. بياض يشرق بعد حجب. ولو انه حجب جزئي يطفو عليه التواطؤ مع دخيل اسود يأتي اليه بما يهبه المعنى والفضاء والمدى.
هذا يؤكده لنا كتاب “عبدلكي” الصادر عن “ايام غاليري” المتوطنة دمشق، من خلال سطوة الغشاءات السود على سطوح الاعمال الثمانين التي تضع له متناً صلباً ومضغوطاً بنيةً ومتراصا تشكيلا. وهو كتاب ذو حضور ذوقي وقامة ثقافية وطلة زخرفية تضعه باستحقاق مميز في واجهة المحتويات الثمينة للمكتبة العربية: يسد فراغاً نظرا الى معالجته تجربة فريدة في التشكيل العربي لفنان سوري، عميق على مقتصد، ومتقشف غير فقير، ولبق في تفتيش مادته رغم اعتزاله كل تعاطٍ بليغ مع “اغراض” تصادر لنفسها مكان وجودها، مساحةً وفضاء. يقتحم المعاجم شبه المهملة لأشكال وادوات ومواد وظّفت طويلاً، سوى في مجال المبادرات الاستثنائية في دور الكماليات التي عند الحاجة اليها تركّز المتن الرئيسي للنص التشكيلي. يقترح الحلول ولا يردعه ضيق المعنى وتشابه الطرح وحصر الوسيلة. ففي المخزون المهني ليوسف عبدلكي (من مواليد القامشلي، 1951) من الخبرات المتراكمة تحت جناحي التجريب والموهبة، ومن التخصيب المكثف للمشاعر والملامس، ومن القدرات المتحولة والمشحونة عند التفاصيل الصغيرة في باب الموضوع، الحميمة جهة الفنان، ما لا يشي دوما بحماوة هذا المخزون. لكنه وبمفردات تدل على اليد التي شكلته، يبصم السطح وحياكته، “الغرض” ومنطق ترسيمه، والفضاء وتحريره للعين ما دامت تساكنه.
قراءة اولى فرجوية ولكن!
لكلٍّ من “الغرض” والسطح والفضاء اثر مخصّب في قراءة الصورة العبدلكية، كما في الكتاب، قراءة تستشف روافدها من ثقافة الصورة لدى المتصفح، في زمن تعيش الصورة سلسلة من عمليات التحول والخطف والمصادرة، تثري حضورها وتوسّع اطر دورها. كمن يقول في هذه القراءة انها محاصرة بجدل يستمد تلاوينه من وضع المعرفة في بدايات القرن الحادي والعشرين. نقطة الانطلاق العين الطبيعية: تنظر، ترى، تفهم، وتستخلص، وفي كتاب يوسف عبدلكي مادة متقبلة لـ”قراءة فرجوية” تتلذذ بالخبريات الناطقة التي ترسمها كما هي في الحياة للاشياء العادية التي نادرا ما يتوقف عندها مصورو هذه الايام. ينتبه لحظتها هذا القارئ الى الملامح الأكثر من واقعية لأغراض او اوان او فاكهة او حصاد بحري، فتدهشه براعات اليد والشطارات التقنية وقدرات الرسام السوري المهاجر الى باريس في جعل الصورة اكثر طبيعية من الاصل: “أنطق” قال لتمثاله النحات الايطالي النهضوي.
انها بداية، وجلي مما في اعمال الكتاب ان قراءة كهذه وإن كانت الأكثر انتشاراً في عالمنا العربي، ليست هي المحرك الفعلي لتفاعلات من الطينة التي تُعجَن فيها الهواجس العبدلكية. كأن لتراكم تجربة عبدلكي، كما لميله الى الاحتكاك الحي المستمر بالموجات الفكرية الاقوى تحريضاً لفنان من عالمنا، صداهما الحيويين في عملية بناء الاسئلة المعنية في نظره بالمواجهة مع العصر والصدامات الوحشية لانسانه الجديد. الى كون الرسوم تخلو من المفاتيح الى قراءات معمقة لكل منها. فهو يصف، يقص، يدل، ولا يذهب الى ابعد. كمن يكتفي تاركاً للزائر طلاقة العين والاذن وحرية التأويل. ذلك ان سرّ محتويات الكتاب هنا، اي في طاقة متصفحه على مقاربة رسومه من زوايا عدة، وبعيون عدة، اذا جاز القول. اي من زاوية ان مخزون الصورة يتجاوز المظاهر الى البواطن، فالمنظر يرتاح مطمئناً داخل المساحة التي تؤمن له كل الشروط للتوازن الطبيعي. فالسمكة في صحن على طاولة. او مسمّرة. أو داخل علبة على طاولة. والجمجمة مربوطة، أو تتربع بكل تفاصيلها العظمية فوق سطح يتمدد طولا ولا ينتهي… ومجموعة من الاواني من كل وظيفة وكل شكل، تفترش سطح طاولة كأنها في انتظار خدمة ما. وليس على المشاهد سوى اخذ العلم او التنبه الى ان لصاحب هذه الرسوم مراداً اكثر تطلبا، ومن ثم عليه ان يحاول معرفة فحوى هذا المراد.
ثمة علامات اليفة لمن يتذوق، هوايةً او احترافا، التجاربَ اللافتة لبعض الرسامين، تومئ بذكاء مهني مضبوط علنا ضمن الضوابط الاكاديمية في اعمال يوسف عبدلكي الى وجود دوافع خفية وراء هذا التأكيد الوقح على الملامح الأكثر من واقعية لعناصر الفضاء والسطوح والأشياء. من هذه العلامات الاهتمام المبالغ فيه اولا بالغلاف الفضائي الذي يهب محتويات الرسمة الاطار الفيزيائي الذي يؤكد حقيقة تموضعها في مكان ثلاثي البعد. والتشدد ثانياً، في ابراز الطبيعة المجسّمة والتي تكاد تلامسها عين المشاهد، لسطوعٍ في دور همزة الوصل بين فضاء هوائي والاشياء التي تبدو هي المدار الرئيسي لمبتغى يوسف عبدلكي. لكأن هواجس الرسام كيفما اختار المتلقي تصفح رسومه، تصب في ما يجوز تصويره، بتتويج تشكيلي لاشكال اعتبرت طويلا من التفاصيل المضافة للخدمة عند الحاجة اليها فقط. ولا يتم الحدث التشكيلي سوى لحظة تلاحم هذه العناصر الثلاثة في نص يجد كماله في اختراقه لمعجم لا من باب نقضه انما من طريق الغوص في مقوماته الموروثة، محترفا من محترف، الى حيث التقليدي والهامشي والمحجب يتربع ملكا كالاصل الاصيل بعدما كان الفرع وملحقاته.
لا حركة يد خارج السيطرة
في اللحظة التي يلتئم فيها هذا التلاحم بين عناصر الرسمة، يقع الحدث التشكيلي. لكأن الفنان يكتسب شرعيته من طاقته على الذهاب بالموروث الى ابعد. اما المحور والركيزة فهما “الغرض” المضاف، حتى ولو كان مسماراً. للاضافة هنا معنى من يأتي ليتصدّر الورقة البيضاء بعد تأهيل المكان. بدءاً من شكل هذه الورقة، وفي اختياره تحضير فيزيائي للارضية المتخيلة سلفاً لحدث تشكيلي قيد الانجاز. يلفت اعتناء عبدلكي بالملامح الهندسية لمساحة تشي مسبقاً ومن بعيد بالشيء (وصفاته) المرشح للتفاعل الخصب مع مقاييس سطحها. يخطّط واعياً لما سيلي مبادرته الاولى هذه، حيث ان لعملية الرسم عنده الطابع الممنهج المنطقي البارد، فلا حركة خارج السيطرة، والنماذج عديدة في الكتاب، لكل اشارة دور مخصّب لمحتويات رسمة تحت التصرّف، ويد الفنان، لخبرات جلية تصف مداخلاتها، هي القرار والتنفيذ. أما التعميم والتفاصيل المستهلكة فممنوعان، ذلك ان الهاجس الكمالي المتحكم في سلوك الرسام يمنعه حتى من الارتجال لطبيعة مزاولته التصوير بمادة الفحم المتحولة واللعوبة والمعرّضة مع كل انفعال لليد.
يشعر زائر الكتاب بثقل هذه العلاقة المختمرة بالخبرات والمعرّضة دوماً للاشتعال السريع بضغط من موهبة فوق الشبهات. علاقة باردة بمعنى منطقية، وحارة لرعشات حميمة تلامس الزائر هنا وهناك، رغم انها نادراً ما تبوح بسرّها ليس لقمع يمحو ملامسها الفحمية، أو لسطوة تقنية تقلّل من انفلات اليد، أو ليس لرغبة طارئة تدفع بالفحمة الى هذيان وإن عابراً، انما لرغبة عند يوسف عبدلكي في قول ما يريد بالشكل الذي يريد وضمن الغلاف التشكيلي الذي يريد. لا عجب بعد ذلك من تزيّن كتابه بأعمال من كل شكل وحجم تنتمي جميعها الى تبجيل الفحم وتمليك الغرض مهما كان معناه ورتبته وثراء جلده وملامح بنيته. فالهاجش التشكيلي لعبدلكي ذو مبررات اكثر تعقيداً لتعدّد ركائزه وتنوع طموحاته وكثافة مكان تبلوره بعد مسيرة طويلة صعبة تتوازن ضمنها عقلانية التصوّر ومنهجية التصميم ومهنية التنفيذ. تؤكد طابع المسيرة هذه، التجارب المركزة دوماً على الرسم كاداة للتنفيذ، الرسم كوسيلة للقص، للوصف، لبناء الحكاية، وعلى الكاريكاتور كاداة لابراز تفصيل من كل، بعد نفخه الى اكثر مما تحمله طبيعته. الاداتان تتكاملان في رسوم الكتاب وإن كان يوسف عبدلكي يوظفهما على نحو ثالث يخترق به الارث المتراكم، مدة عصور ومواهب، للرسمة التي تهتم بكل عنصر مفيد في مجتمع يتصفح جمعاً وتفصيلاً الاصول والنوافل.
¶¶¶
شيء لدى يوسف عبدلكي يذكّر، تصوراً وتنفيذاً مع أخذ العلم بالفروق بين الازمنة والثقافات والتقنيات، بتجربة الرسام الفرنسي جان باتيست ساردان (1699 – 1779) في محاكاة الاغراض الهامشية في اللوحة الملوكية، يوم ابتكر في اواسط القرن الثامن عشر الاهتمام الكلي المحصور بالاشكال المعروفة يومئذ بالميتة، والتي اصبح يدل عليها بعدئذ بالاشكال الصامتة (انجز رسومه بالباستيل على ورق)، اشكال تجذب اليها اليوم وإن بدوافع تحت تأويل يوسف عبدلكي في صوغ مسمكته، حذائه، ثماره، مسماره، اوانيه… الخ… بالفحم على ورق.
كتاب ذكي ومبني تحت عناوين الذوق والاناقة والثقافة، فيه المعلومة المفيدة والشاهد المقنع والنموذج المضيء لمراحل عاشها الفنان خلال مسيرة عقلانية تحت السيطرة وثراء في العطاء نما متماسكاً وتشكّل صلباً مشعاً وتطوّر مضبوطاً بيد خبيرة مجرّبة وتحت اشراف عين ترى ولا تسامح.
أي أنه كتاب في محل معرض وضمان لذاكرة من فحم وورق كأنها لم تكتف بتجسيد الاشكال العادية لكنها ترفعها الى واجهة الحياة بفضل قلم مخترق مضيء يهب الاشياء عرق الايام.
أشياء يوسف عبدلكي: “إنما أحدثك لترى فإن رأيت فلا حديث”
علي جازو
إن (أشياء) يوسف عبدلكي ليست أبداً نسبية ولا معلقة. ثمة من يغلقها بالمنفى والاغتراب شبه القسريين، ثمة من يفتحها ـ بمناسبة أو بدونها ـ إلى خطاب سياسي مباشر. الفن لا يغتني من هكذا نسب، بل ربما إنه ينحرف عما هوعليه، فيغدو إشارة من خارجه لا تعود إليه قدر ما تسقط عليه. الأحذية وحبة الموز والمسمار والفجلات الثلاث والغصن والأسماك، كلها منفردة ومحصنة باكتفاء سري. اكتفاؤها من قوة احتفالها بذاتها واختفائها الصميمي داخل حدود حادة، من كونها تجاوزت القناع وحلّت، بمهارة الفن وعصيانه المرح، الوجه المخفيَّ محله. الرسوم الفحمية ذات الأحجام الضخمة، تخلصت من نسب المكان ودواعي الرسالة العامة ونسبة الطبيعة الكلية. تكثفت في الحجم واللحظة، في اللون والهيئة، مطلقة من صغرها وهامشيتها متانة باهرة وتلوناً حاداً بارعاً. أشياء وكائنات لم تعد داخل سياق الطبيعة الصامتة. إنها الآن، مع فرادة أعمال عبدلكي الأخيرة (رسوم بقلم الفحم، عرضت في صالة الأيام بدمشق حتى الأسبوع الأخير من العام الفائت)، تعززت وترقّت، في إعادة الشيء إلى كونه على ماهو عليه، إلى التشابه الحي، بتواصل حميم وحوار عميق من ذواتها المحروسة بفراغ اللاشيء. اللاشيء، هنا، ليس الأجوف ولا الفارغ ولا الخاوي! إنه الأعرق، البداية البريئة من أثر الوقت، والجهل الكامل! من هنا لا يمكننا نسبتها بسهولة إلى خطاب محدد، أو عطفها كيفما كان. نحن ـ من هم خارج اللوحات كمن هو خارج مصيره ـ نبحث عن ترابط بين الأشياء تلك وبيننا. إنها الآن، عبر عيوننا وفكرنا، تنتسب إلينا أكثر مما تعود إلى صانعها! نحن بالمقابل مرهونون إليها، لأننا مازلنا ننظر ونفكر، باللوحات نفسها. إنها أيضاً نسبنا اللحظي وفكرتنا الحالية.
اللوحة، مثل عين فتحت عقلها الداخلي، تنظر إلينا أيضاً؛ تنتظرنا وتتفتح مثل برعم أمام أعيننا. لكن أشياء عبدلكي لا تتكلم. الصمت أيضاً لا يتكلم كلامنا المعتاد ولا الآلهة التي أنجبت الصمت! الرسوم لا تتكلم؛ لأنها تحولت من لا مرئية الفكر الكلامي إلى سطوع الفكر البصري. البصري العيني الذاتي، هنا، يدخر كلاماً مرجأً أو كلاماً سابقاً نظن أننا سمعناه مرة! نحن من يتكلم في اللوحات الآن، في أشيائها، لها وبها وفيها بالآن ذاته. الشيء كذلك يصغي، ونحن نسمع إصغاءه لنا. بقدر ما يكون إصغاؤنا السابق الضائع دقيقاً وحذراً بقدر ما نمتلك القدرة على تلقي الحوار وبيانه الجديدين.
لكن من يجرؤ فيعرف الكلام السابق على اللوحة؛ الكلام الذي امتصته الأشياء وادخرته وخبأته في ثناياها وجوفها المتفجر! سنضطر مجدداً إلى العودة إلى الأشياء وقد غدت بفعل كلامها في الصمت أشياء أخرى. سننظر في اللوحات كما لو أننا نتكلم، كما لو أنها تتكلم. سنتذكر عبارة نقلها الشاعر الفرنسي برنار نويل عن الرسام البلجيكي ماغريت: (الكتابة وصفٌ لا مرئي للفكر، والرسم هو الوصف المرئي له).الوجود هو كل ماهو مرئي. لكن ماجريت يذكر أيضاً أن: (اللامرئي مرئي أيضاً، لأنه ليس سوى مرئي مخفي..). أشياء يوسف، من رأس السمكة إلى المسمار ذي الرأس المخطط اللامع بتوهج بارد، مرئية تخفي الكثير من اللامرئي. لكنها كيانات موجودة ملموسة حية كاملة. هنا، الآن ثمة ما يتفتح أمام العين المفكرة، يحتلها ويسكنها جاعلة من مكانها في اللوحة لا امتداداً حسياً باهراً فحسب، بل اشتراكاً فاعلاً وعضوياً عصيين مع العين التي ترى، مع الفكر الذي لا يرى بسهولة! وهنا نتذكر عبارة أحد المتصوفة) إنما أحدثك لترى، فإن رأيت فلا حديث!!).
لكن الفكر لا يهتم بأن يكون حديثاً، مرة أخرى ننقل عبارات برنار نويل من كتابه عن ماجريت، لأنه كذلك قسراً. فن التصوير (الرسم بالنسبة لعبدلكي) هو فن التفكير، الذي يؤكد أهمية الدور الذي تلعبه في الحياة عينا الجسد الإنساني.. وهدف التصوير (الرسم هنا)، أن يجعل تشغيل البصر كاملاً، بفضل إدراك بصري خالص للعالم الخارجي بفعل حاسة النظر وحدها. ولوحةٌ مدركة بهذا الهدف هي وسيلة لاستبدال مشاهد الطبيعة، التي لا تستثير عموماً سوى العمل الآلي للعينين، بفعل التعود الذي يخفي هذه المشاهد الطبيعية المتشابهة دائماً أو المتوقعة مسبقاً دائماً.
عمل الرسام:
إن من يرسم لا يهتم بموضوع الرسم كانفعال. لا نقصد أن الرسام لا ينفعل، لكنه حين يرسم، لا يحرص بالدرجة الأولى على إبراز انفعاله فقط. إنه يخرج الرسم من الهمود إلى الفعل، من الغُفْل إلى الوجود. الرسام يعرفنا على العالم من خلال ماهو موجود في العالم.الرسام، أساساً، يرسم ماهو موجود. وما هو موجود هو العالم الظاهري. والعالم الظاهري بشكل معروف هو كل ما هو مرئي. الرسام يهتم بالظاهر فقط. لذلك ينبغي ألا نخلط بين عمل الرسام وعمل المصور التشكيلي. المصور ينشئ عوالم جديدة. الرسام لا يتخيل، لأن خياله أمامه تماماً. لكن عمله على المرئي أصعب من خياله المرئي! أحب من جديد العودة إلى كتاب برنار نويل: “بول نوجيه الذي ظل طويلاً شريك ماجريت، كتب يقول: المصورون مصورون، أي أن التفكير في الشيء ينحصر لديهم في التفكير في استغلال هذا الشيء لصالح رسمهم”. عمل يوسف عبدلكي على النقيض. إنه لا يفكر في إظهار الشيء لصالح رسمه، بل يدفع برسمه كله لأجل إظهار ظاهر الشيء المرئي. وعوض أن يفكر في الشيء لصالح يديه وعينيه، سيسخرهما لإثبات الشيء إلى العالم. أي إظهار ماهو موجود في العالم إلى العالم. إظهاره كأنه يرى للمرة الأولى. إنه يدفعنا إلى التفكير به عبر رؤيته الآن؛ كأنما نستعيد معه ما تأملناه سابقاً وتركناه، رأيناه لحظة ونسيناه. التفكير هنا سؤال في الشيء، في دلالته البصرية التي تسبغ على البسيط اليومي عمقاً غير متوقع وغموضاً مغرياً! الفكر الذي يظهر عبر مرئيات يوسف عبدلكي يحوّل طاقة الإحساس البصرية إلى اشتغال ذهني. إنها رسومات تؤكد على تشابهها مع الواقع، لكنها بالآن ترفعه إلى غموض عاطفي ودقة صارمة في المساحة واللون والشكل. العالم المرئي المحيط يرى في ضوء جديد ولمسة أخرى.الرسام يفكر عبر المرئي الذي مُنِحناهُ على يديه. وعوض أن نكتفي ببساطته وواقعيته، تنزاح دهشتنا إلى السؤال فيه عما دفعه إلى هذا الظهور الضخم وهذه الإحالة المفاجئة. هل من أحد تأمل رأس مسمار؟ رأس مسمار لامع مغروز معظمه كأنما في اللحم والجسد والعاطفة والفكر معاً!! الرسم في الفكر، أحدهما يستدعي الآخر ويستنطقه. لكننا تحت ضغط التعود اليومي والنظرة العابرة، اعتدنا الأشياء محض أشياء. قدرة عبدلكي هنا أنه رفع عن عيوننا عاديتها وخمولها ونسيانها. لم نعد قادرين، بعد مشاهدة هذه التحف الفنية، على الخروج بإحساس الألفة المشتركة والقرابة البسيطة. البسيط يخفي الصعب، والألفة تتستر على الجهل، مثلما أن المرئي يخفي اللامرئي! الألفة كسرت، لكن الحميمية عادت وإن في إهابٍ من الفزع والرقة والألم. لقد طُعِنَ جهلُنا إزاء المرئيات المحيطة بنا، مما جعل منها طريقة جديدة للنظر في أنفسنا كما لو أننا أيضاً نراها للمرة الأولى.