الكتابة في اللحظة العربية الراهنة(*)
بول شاوول
اللحظة العربية الراهنة، كيف نحددها. وهل يمكن أن نتبنى تسمية اللحظة بالعربية. وأي عربية. وأي غير عربية. وإذا كان لنا، افتراضاً، مقاربة عربية هذه اللحظة، برغم عدم دقة التعبير، ويمكن القول، واصطلاحاً، إن هذه اللحظة، تعيش ما تعيشه اللحظة العالمية بكل تناقضاتها وامتزاجاتها واختلافاتها. لحظة نهايات. ولحظة بدايات. لحظة إخفاق ورماد ولحظة استشراف. فكل شيء متداخل في كل شيء: القديم في الجديد، الحديث في ما بعد الحديث، الأصوليات الحداثية في الأصوليات الأتنية والدينية، الديموقراطية في التوتاليتارية، الاشتراكية في الليبرالية، المدنية في الجمهورية، الجمهورية بالعائلية، الثورية بالتقنية، والتقنية بالتخلّف، العنف والحرية، الحرية والتقاليد، الأوليغارشية بالمدنية… العولمة بالعالمية وبالفلكلور وبالتخلف، النمطية في الاستهلاك، الاستهلاك في الثوابت. كل شيء في كل شيء: لحظة الشيء في اللاشيء: لحظة الما قبل في الما بعد، لحظة الما بعد في الافتراض. الصورة بالعابر، الشعر بما بعد، المسرح بما بعده. الفلسفة بما بعد، الشيء بما بعد، الرأسمال بما بعد، الدين بما بعد، القيم بما بعد، العولمة في الالتباس العمومي.
نحن هنا، في هذا الخضم: اللحظة المجهولة في المعلوم. المعلومة في المجهول.
لكن هذه الامتزاجيات في المفاهيم والأزمنة والأمكنة لا تخفي مخاوف أو مشاعر توحي أننا، وفي بداية هذه الألفية، كأننا نفقد ما امتلكناه أو ما حسبنا أننا حققناه على امتداد التنوير والحداثة وما بينهما من ثورات واتجاهات وإنجازات، ونظن أن هذه الإحساسات والتفكيرات (وهي مختلطة أيضاً في سديم عميق)، ناتجة عن أننا في زمن تبدد فيه أو يبدو أنه تبدد فيه أو يُراد لنا أن يكون تبدد فيه كل الإرث الذي تحقق في القرنين السابقين وربما امتداداً الى العصور القديمة لا سيما المضيئة منها في العصر العباسي. ويكفي أن “يبتكر” الغرب وبسذاجة أو تدبير شعارات اندرجت ضمن أطر فكرية ـ سياسية ـ حضارية لكي نرى أن الأرض تنسحب من تحت أقدامنا: من هذه الإطلاقات “نهاية التاريخ” وصدمة الحضارات، وصراع الحضارات، التي لا تعني في عمقها سوى انتزاع كل تميّزات عالمنا العربي والثالثي وكل مواقعه في المساهمة في صنع التاريخ، ونسبها الى العالم الغربي الرأسمالي ـ الأميركي. وعندما يُحكى عن صراع الحضارات والأديان، يُحكى في العمق عن أن الغرب تفرد في صنع الحضارة الحديثة، وأن التاريخ الذي شاركت الأمم الأخرى في صنعه “اختتم”، لكن المسألة ليست في أن يحاول الغرب “امتلاك” الحضارات الحديثة، ومصادرة القديمة (بالعولمة)، ولكن في أننا، نحن العرب، وقعنا في الفخ وبنينا هذه النظرة الأحادية التي تجردنا من كل شيء: صراع الحضارات! وكأننا نوافق وبمنطق “إيديولوجي” ضيّق على تلك المقولة، قافزين فوق الحقائق التاريخية بأن الحضارات ليست وليدة الأمس، ولا القرن العشرين، ولا التاسع عشر، إنها نتاج ألوف السنوات. أي ليست ابنة ساعة “الغرب” أو أميركا، أو أوروبا أو العرب… بقدر ما هي من صنع العالم كله؛ وأن التاريخ ليس قطعاً منفصلة، أو مجزوؤة، أو مصادرة، بقدر ما هو سيرورة وصيرورة لا تنتهيان. فالعرب شاركوا في صنع هذا التاريخ وفي مختلف الحقول الأدبية، والفلسفية، والعلمية، والرياضية… إلخ. ولولا هذه “الصناعات” لما وصلت الحضارة الى ما وصلت إليه اليوم.
ونظن أن تخلينا، تحت الشغف بالشعارات، وردود الفعل، عن دورنا الريادي القديم، قادنا أيضاً الى شعور غريب بأن علينا التخلي عما هو حديث مما ساهمنا في بنائه: لحظة الخيبة أحياناً هي لحظة الارتداد، ولحظة الهزيمة أحياناً هي لحظة التنكر، لحظة اليأس تؤدي الى الإمحاء.
هذه المشاعر تعتري الإنسان العربي، أكان مثقفاً أو سياسياً أو مفكراً أو أديباً أو شاعراً أو فناناً! بل أكثر: نجد أنفسنا أمام إحساسات متناقضة: الشعور بالذنب بأننا دمرنا ما بنيناه، أو أن ما بنيناه لم يكن ذا أهمية، وأن سقوط المشروع الحداثي (هذا إذا سقط) يعني تبني الاختيارات المضادة: الارتداد الى الماضي ارتداداً “سلبياً” بمعنى العودة إليه كخشبة خلاص أو كحل إزاء اختياراتنا “الحداثية” المجهضة؛ فإذا كان الغرب قد نعى الحداثة والتنوير (منذ أيام شوبنهور ونيتشه وهايدغر)، فعلينا أن نختار نقيضها. هكذا من دون إعمال نقدي استرجاعي للمعطيات والشروط والإنجازات. وإذا كان الغرب قد أساء إلينا سياسياً في قضايانا الكبرى، فعلينا رفضه، بكل إنجازاته التقنية والفكرية والثقافية من باب أخذ الجزء بالكل، والكل بالجزء، فنختار الحلول السهلة: العودة الى الموروث والأصولي والثابت والناجز والكامل والجاهز… وبهذه الطريقة، نزداد عزلة في الحاضر، وذوباناً في السالف: فلا نجد في الحاضر ما يجعلنا ننخرط فيه، ونتوهم المعجزة في القيم الميتة، وفي الأحوال النافذة. فلا الحاضر لنا ولا الماضي لنا (لاختزاله) ولا المستقبل. أو عندما نتناول هذه الأمور وهذه الإحساسات و”الحدسيات” والتفكيرات، من هذا المنطلق، فليس لأننا نقفز فوق الخيبات، والهزائم، والظواهر السياسية والثقافية والإيديولوجية التي كان علينا، ربما، أن نتعامل معها، بطرق أخرى (تماماً مثل الغرب)، وإنما نتبنى بكل بساطة نوعاً من التدمير الذاتي أو العقاب الجماعي والتاريخي أو الخطاب الاعتذاري.
إنها اللحظة النقدية المفقودة التي تحوّلنا مجرد ردات فعل. لحظة الاسترجاع. ولحظة افتقاد مقوّمات المقاومة، إزاء الضغوط، والعوامل، والوقائع، التي واجهها المثقف العربي، في علاقته بالآخر وفي علاقته بنفسه، وكذلك في المنظومات السياسية التي شكلت الأطر الحاكمة سواء في مراحل التحرر من الاستعمار أم في المراحل ما بعد الاستقلال:
1 ـ في هذه اللحظة المشوشة تتبدى لنا، أو يمكن أن تتبدى لنا بوضوح أدوار الأنظمة السياسية، والأطر الايديولوجية والفكرية والحزبية، والظواهر التاريخية.
وهي أدوار متباينة تلتقي وتنفصل. لكن إذا اتخذنا فترة المرحلة ما بعد الاستقلالية، فنجد أن هذه المنظومات التي حكمتنا ارتقت إلى السلطة بشعارات الحداثة أو الحرية أو التحرير أو الديموقراطية أو العروبة أو الاشتراكية أو الدينية أو العلمانية… ولكنها استبقت الشعارات كذريعة لتمارس نقيضها: تحدثت عن الديموقراطية وقمعتها باسمها. وتحدثت عن الحرية وخنقتها باسمها. تحدثت عن العروبة الحضارية وضربتها كمشروع ومنظومة قيم وتحديث وطليعية، تحدثت عن الاشتراكية ونهبت باسمها. تبنت الثقافة كواجهة وخلعتها كفعل تغييري اجتماعي وسياسي وفكري وفني، قالت بالجماهير لتحولها قطعاناً 99.99 في المئة، تكلمت عن الحياة السياسية وألغتها: فصارت السلطة هي التي تنتخب الشعب، لا الشعب هو الذي ينتخب السلطة، وصارت السلطة هي التي تنتخب المثقف والشاعر والكاتب وليس هو الذي ينتخبها، جاعلة من المجتمع قطيعاً بالعصا، وليس مجموعة أفراد وتنوعاً وتعدداً: جعلت المجتمع على صورتها، بدلاً من أن تكون على صورة المجتمع، وقمعت الحساسيات والاتجاهات والأفكار، أي تحدثت بلسان اليسار ونفته، وتحدثت بلسان اليمين ونفته أيضاً، بحيث حلت هي محل اليمين واليسار، أي اختزلت الصراع السياسي في السلطة نفسها.
فهذه الأنظمة “الحديثة” العصرية والغربية عموماً (باعتبارها ثورية أو حتى محافظة). في طمسها الصراعات الفكرية، وبؤر التوتر الاجتماعي، والتنوع، والاختلاف، أعدمت كل وريث ديموقراطي لها، وكل وريث حداثي، فساهمت في ذلك باستنبات الأصولية من رحم الحداثة. وهنا أشير إلى أن الحداثة الغربية نفسها هي مجموعة أصوليات ايديولوجية ودينية وإثنية وعنصرية: ألم تطلع النازية والفاشية والستالينية والصهيونية، من صُلب الحداثة الغربية ومن رحمها؟. عندنا، ولأن الأنظمة السياسية التي حكمت بالحديد والقمع والاغتيال والنفي والسجن والإرهاب… فقد أنجبت من دون أن تدري عدوها الأصولي: وها هو يهدد بناها، ويزعزع أركانها: هو باعتباره “الحل” البديل من “الحداثة” السياسية، ومن “الاستعمار الغربي“.
ونظن أن النظام العربي، عموماً، ما بعد الاستقلال ـ لم يكن في صورته السلطوية وفي آلياته، وفي صيغه الفوقية، سوى تعبير “أصولي” أيضاً: إنها الأصولية المتحكّمة الأحادية، أصولية المخابرات والأجهزة، والجيوش خاصة (غير المقاتلة)، وفرض الصوت الواحد، والرأي الواحد، وتدوير كل الزوايا، وتمليس كل عملية نقدية، أو معارضة، أو احتجاجية: أصولية حزبية تحولت أصولية مناطقية ثم أصولية عائلية: الأنظمة الثورية التي قامت باسم الجماهير، وإرادة الجماهير، ومن أجل الجماهير، تحولت إلى أنظمة بيولوجية ـ إلهية ـ وراثية ـ عائلية، اختصرت الجماهير بالعائلة أو ببطون العائلة أو القرابة: بحيث صفت كل عملية ديموقراطية اختبارية في إرادة طبقة عائلية تتحكم بالسلطة، تحكمها بالقوانين والسلطات والميزات والثورات والناس: تحولت الدولة مع هؤلاء إلى ملكية خاصة، بحيث يمكن تسميتها “الجمهوريات العربية العائلية”، وتحولت الحكومات (عموماً) مجرد شركات خاصة تتعامل مع ناسها باعتبارهم زبائن أو سياحاً أو مجرد عبيد… أو قطيع. وهذا بالذات ما أضعف الدولة العربية: من أصولية سياسية مخابراتية متسلطة، إلى نظام حزبي فوقي، فإلى نظام عائلي محصور: من أصولية الدولة البوليسية إلى أصولية الدولة ـ الحزبية المغلقة، إلى أصولية الدولة ـ العائلة. وقد نتج عن كل ذلك نوع من التوتاليتاريات الايديولوجية كذرائع، والبوليسية كأداة، والعائلية كبنية من دون أن ننسى تداخل العوامل الطائفية أو المذهبية بالعائلي والبوليسي والاقتصادي والسياسي.
2 ـ وعليه فإن الدولة العربية صارت على تخوم اللادولة، عصر تدويل الدولة العربية، أو خصخصتها بالعائلة وما سواها، أو بالزبائنية، وكذلك بتداخل سلطاتها ومؤسساتها وفسادها، وتناهشها، ونهبها.
وفي هذه اللحظات بالذات ظهرت عناصر أخرى على هامش الدولة ومن صنيعتها، وهي الأصوليات الدينية: بدأت مفاعيلها في أفغانستان مع ما ركبته الأجهزة الأميركية من مقاومة دينية أصولية لمحاربة السوفيات ضمن الحرب الباردة، ومن ضمنها طالبان… وبن لادن… امتداداً، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وجدار برلين إلى العالم وإلى العالم العربي خصوصاً.
هذه الأصوليات المجتمعية (في لبنان ظهرت مبكراً ضمن الميليشيات الطائفية المسيحية والإسلامية)، ركزت بعد “جهادها” كحليفة الأميركيين في أفغانستان على تدمير الدولة العربية، والمجتمع العربي ربيب المجتمعات الغربية “الملحدة”، والعروبة والعلمانية، والأفكار الاشتراكية، والديموقراطية والسياسية، والحريات الفردية باعتبارها من مخلفات استعمارية وتقاليد غربية: أصولية انقلابية (الأنظمة العربية الثورية انقلابية) تعود إلى الماضي كمصدر ايمان وتشريع ورؤيا وطريقة حياة وتفكير وطقوس وتأويل… وصولاً إلى الفتاوى الكريمة: إنه عصر رجال الدين والعلماء نجوماً على الأرض وفي الفضائيات وربما في الكواكب. والظاهرة اللافتة أن هذه “الأصوليات” وبسبب ممارسات الأنظمة وقمعها وفسادها وضربها المجتمع المدني وأدواته ونهبها وهزائمها العسكرية والسياسية والاقتصادية، قد اخترقت نسيج المجتمعات العربية نفسها: هذه المجتمعات التي وفرت للنهضويين والتنوير ما وفرته من انفتاح وجهوزية للخروج من الواقع على امتداد أكثر من قرنين، ها هي، ترتد على ذلك وتسلك طريق العودة الى “الماضي” أو السلف الطيب، المرجع، والأساس: هربت من أصولية النظام العربي المغلقة، الاستبدادية الى أصولية دينية ـ مجتمعية ـ مغلقة استبدادية وعنيفة. ومن لم ينزع الى أصولية ـ أو مذهبية أو تطرف ديني لجأ الى العائلة أو القبيلة أو الجغرافيا: كملاذ أو كحماية، أو كحل بعد ذلك الشعور العميق بالخيبة من العروبة والماركسية والاشتراكية والأنظمة (الجماهيرية) والحرية والديموقراطية: لا شيء! ولكن هؤلاء يقولون لا شيء من كل ذلك: فهذه أوصلتنا الى خسارة فلسطين وهزيمة في 48، وهزيمة 67 والحروب الطائفية في لبنان، واستنبات دكتاتوريات رهيبة هنا وهناك، وفقر وعوز وهجرة ونفي وسجون وتواطؤ: إذاً الى المقلب الآخر. وإذا رصدنا ما كان مفترضاً أنها أدوات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات ومؤسسات نكتشف مع هؤلاء أن هذه الأحزاب والنقابات إما استوعبت من الأنظمة الأحادية أو تواطأت أو زالت: إذاً فلا السلطة الفوقية مؤمل بها، ولا ما يمكن أن يواجهها مؤمل به: فالحل إذن في “الكتب” وفي الماضي لاستنهاض الحاضر. وكما اعتمدت الأنظمة العلمانية والجمهورية سياسة “التخوين” (خيانة الشعب والوطن)، اعتمدت “الأصولية” سياسة التكفير: هناك المرجع شعبي ـ ايديولوجي هنا ديني. وهكذا تم انتقال واقعي من زمن الى زمن، ومن ثقافة الى ثقافة، ومن جمهور الى جمهور.
3 ـ الأنظمة الثورية التي اعتنقت “العائلية” البيولوجية بعدها صادرت “الجماهير” كقطيع (99.99) وتخلت عن إرثها المدني والعروبي وبعض القيم العالمية كالاشتراكية والديموقراطية والدستورية ها هي اليوم على تنافس مع أنظمة توتاليتارية (أممية أو محلية) أصولية دينية لا تعترف بالدولة الحديثة ولا بأهلها ولا بثقافتها ولا بحرياتها ولا بمرجعيتاتها: رفض الدولة المدنية الحديثة وبديلها “دولة” الهية: من دولة من تحت (الجماهير) الى دولة من فوق (الآلهة)، من دولة قوانين الى دولة فقهاء، ومن دولة كانت تنتخب “الشعب” باسمه الى دولة تنتخب الشعب باسم القدرية الإلهية: فهنا وهناك أثر “إلهي”: القائد البطل كان على متون الآلهة بصفته مصدر السلطات والقوانين والأحكام والقرارات المصيرية، وهنا “الفقيه” الإلهي حامل الحقيقة الواحدة ومفسرها، ووارث السلطة “الإلهية” المتمثلة بالنصوص والكتب والسير والأحاديث: من عصر الآلهة باسم الجماهير (الملغاة أصلاً) الأرضية الى عصر “آلهة” باسم “الجماهير” المؤمنة، هنا كان الشعب المرجع (افتراضاً وذريعة)، وهناك بات الله المرجع (افتراضاً وذريعة)؛ هناك توتاليتارية 99.99 وهنا توتاليتارية فكرة الإجماع، هناك القطيع (المشترك وهو لا يشترك) وهنا القطيع المناسب بآمال الجنة والآخرة.
هذه الازدواجية في تقاسم الساحة والنفوذ بين الدولة وبين بعض القوى الدينية والأصولية، أصابت مرجعية القرار وأحادية التوجه ودكتاتورية الحزب الواحد الذي صار “العائلة الواحدة المقدسة” وتكاد تقضي على ما تبقى من الدولة الحديثة. وقد برز هذا “التنازع” على حساب النظام نفسه، وعلى حساب الوحدة الجغرافية والتاريخية والدينية، ليدرك الثقافة نفسها، بمستوياتها الفكرية والإبداعية والأدبية والفنية. أي كينونة الثقافة نفسها. إذ أن ثقافة إلغاء الثقافة كمشروع إنمائي وتغييري ونقدي الذي اعتمده النظام العربي الراهن (أو معظمه) قابلتها ثقافة مضادة ومغايرة وشمولية وعمومية: تصادم ثقافتين “توتاليتاريتين استبداديتين” تلغيان المختلف، والمقابل، والمواجه شكلتا أدوات ضغط مباشرة على حرية التفكير، والأداء والبحث (حتى العلمي) والتفسير والتأويل وصولاً الى التراث نفسه، القديم والحديث الموصول المتصل بالتنوير والحداثات النهضوية المتعاقبة على امتداد قرنين.
وعندما كنا نتظاهر أو نحتج في السبعينات كنا مثلاً، نهتف أو نرفع شعارات “لا لقمع السلطة”! أو “لا لقمع النظام” أي كان ثمة سلطة واحدة نحتج إليها أو نلوذ بها.
أما اليوم وعلى امتداد عقدين وأكثر فقد تعددت سلطات القمع وتمددت الى قوى وعصابات وفرق ونحل ومجموعات إرهابية وترهيبية لم تخترف السلطة الرسمية فحسب بل المجتمعات العربية كشرائح ومجاميع وأفراد.
4 ـ وهذا يعني أن جزءاً من المجتمع الذي كان في طور الخروج من الذات “المتقوقعة” و”التقليدية” و”المكتفية” الى رحاب التغيير والتطوير والنهوض ها هو يعتكف بداية (مع أنظمة القسرية) ثم يتراجع القهقرى في حركات عنيفة ضد ما يتوافق أحياناً مع إملاءات المجموعات الأصولية والمحافظة الطالعة في غياهب العصور ومن الكهوف. وهنا مكمن الخطر الجديد: إن الرقابة لم تعد “مقتصرة” على السلطة الرسمية بل انتقل جزء منها الى شرائح من المجتمع نفسه. المجتمع الذي كان ينضوي تحت أدواته السياسية والنقابية أي تحت إلزاماته المدنية، ها هو في حركته الارتدادية يرتد على كل ما أنجز على مستوى الدولة الحديثة منذ الطهطاوي ومحمد عبده وفرح أنطوان والكواكبي ومصطفى عبد الخالق… وطه حسين وقاسم أمين وصولاً الى الأحزاب اليسارية واليمينية والليبرالية وحتى الى الظواهر الأدبية والنقدية والفلسفية من البنيوية الى الوجودية وقبلها الاشتراكية فالى الفنون نفسها: السينما، الغناء، الشعر… الحرية نفسها. وأفرزت هذه الظواهر أدواتها وفقهاءها ومطلقي فتاويها كأدوات أخرى للقمع والمصادرة والمعاقبة خارج إطار القوانين والدولة. وهكذا بات على الثقافة والمثقفين والكتاب أن يكونوا محاصرين برقابات السلطة الرسمية من جهة وبرقابات “المجتمعات” الخاصة من جهة أخرى. وهذا يعني أن الدولة ما عادت وحدها تمتلك السلطة وتنفيذ القوانين بل صار هناك مرجعيات أخرى لها سلطتها الخاصة وقوانينها الخاصة وحتى محاكمها الخاصة وشروطها الخاصة وبلطجيتها. إنه ابتسار آخر للدولة بعد مجمل الابتسارات التي قام بها أهل الدولة أنفسهم، أو أهل النظام. وهذا ما يفسر اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ في مصر والحكم على نصر حامد أبو زيد بالإعدام وبفصله عن زوجته مما أدى الى هروبه الى المنفى، وهذا ما يجري حالياً في الفتاوى والأحكام التي يتعرض لها أحمد عبد المعطي حجازي وحلمي سالم وجابر عصفور. وهذا ما يفسر سلسلة الاغتيالات التي نفذها أصوليون بحق المسرحي عبد القادر علولة في الجزائر… وهذا ما جرى على امتداد الحروب في لبنان ما بين السبعينات والتسعينات حتى سادت شريعة الميليشيات الطائفية في ظل انحسار الدولة، وتم اغتيال العديد من الكتاب والمفكرين أمثال مصطفى جحا وحسين مروة ومهدي عامل وسهيل طويلة.
إذاً، بين الدويلات اللاشرعية أو المذهبية أو بين ما تسمح به القوانين من اختراقات للفتاوى، وبين تدخل السياسة والمرجعيات الدينية والمذهبية، يقع رأس المثقف العربي اليوم، وهو لا يعرف من أين يأتيه القمع: من دولة القانون والمؤسسات المصادرة من أهلها، أم من الدويلات “الناشئة والفيتوات” المتغلغلة داخل النسائج الاجتماعية وحتى في صلب السلطة والنظام.
كأنه الدين أو الطائفة أو المذهب، اليوم، تشكل الممانعات الجديدة إزاء مصير الدولة نفسها. تماماً كما كانت الايديولوجيات الانقلابية على امتداد خمسين عاماً والتي في ادعائها بناء الدولة الديموقراطية العادلة هدمت مقوماتها بأنظمتها البوليسية والقمعية وبمناهجها الاستغلالية والفاسدة: من دولة عربية قوية بأجهزتها وضعيفة بقوانينها وعدالتها وديموقراطيتها، إلى “دويلات” شبه دينية تنمو وتنحو منحى من سبقها، بحيث تتعدل النبرة ويستبدل قاموس بقاموس، ليتم التعادل بينهما. ولكن المفارقة أن هذه “المنظومات” الدينية والطائفية تتقاطع أحياناً كثيرة مع الدولة القائمة هنا وهناك، لتستخدم الأدوات لقمع المعارضة أو خصوم السلطة: هذا ما جرى في لبنان في بداية الحروب، وهذا ما جرى في مصر أيام السادات الذي وضع قانون الحسبة الذي ما زال جارياً حتى الآن، وقد وضع بعض المجموعات الدينية لضرب الاحزاب اليسارية والقومية والناصرية، فدفع في النهاية الثمن.
ومما يزيد الأمور تفاقماً أن هذه المجموعات الدينية والطائفية، وبسبب ضعف الدولة وفشلها وفسادها وهزائمها، حفرت عميقاً في الجمهور، وباتت لها مواقع شعبية متقدمة، ومتينة ومنظمة، تؤثر على مجرى الانتخابات وتتقدم أحياناً لتكتسح مواقع جديدة. هذه المواقع الشعبية يبدو أنها صادرت الأمكنة نفسها، في شبه كانتونات فرضت فيها قوانين التحليل والتحريم والأحكام، والفتاوى والتعاملات خارج إدارة السلطة الرسمية، وهذه الامتدادات الشعبية والفئوية فرضت تقاليدها على كل المظاهر الاجتماعية من أعراس وأفراح وزواج وعقود: دويلات داخل الدولة: فصار لدينا سلطة من فوق غائبة في صراعاتها الخاصة الضيّقة مستمرة في قمعها وسلطات من تحت تنهشها وتنهش معها ما تبقى من حريات وديموقراطية وهوامش ثقافية وسياسية وفكرية.
6 ـ في ظل هذا التضعضع بين أنظمة مهترئة ودويلات طامعة، تتحرك الثقافة بثقل. وإذا أضفنا ما يشاع عن عولمة لازمة بدأ الكلام عنها عندنا، بكثير من العدائية، وبدأ الانخراط فيها بكثير من “الود” والرضى والقبول، ها نحن إزاء ظواهر جديدة قوية علينا باعتبار الوهن الذي أصاب المؤسسات والناس والأفراد والثقافة. والغريب أن المجتمعات العربية الغارق بعضها في الاستهلاك الديني والمذهبي والأصولي، وبعضها الآخر في ما تبقى من ايديولوجيات تغييرية، تتداخل فيه تأثيرات العولمة بتقنياتها وحداثياتها وبرمجاتها ومناخاتها وشروطها وطغيانها، بحيث باتت الأكثرية في كافة الاتجاهات، وكأنها كائنات معلبة أو معولمة أو مسوقة كالقطعان، حتى في طرق تعاملها مع اللاهوت والدين والفروض: النمذجة هنا طاولت قدامى المناضلين ضد الامبريالية وحتى المناضلين الجدد ضد العولمة والغرب.. كأن نعلن الحرب على العولمة، نحن نتعولم، وندعو إلى مقاطعة بضائعها ونحن نستهلكها، ونسعى إلى “بناء” هوية تحمينها منها، فنتقاطع مع ما تفرضه من أنماط وسلوك وتفكير ومناخ أحادية سواء في وسائط الميديا أو الإعلام أو الشركات الكبرى أو التلفزة أو الانترنت والسينما؟
كأننا، وسط ضعف الدفاعات، وفي ظل الانهيارات الفكرية والايديولوجية والسياسية والعلمية والثقافية المتلاحقة، نسلم (ونحن نصرخ رافضين) ما تبقى من حرياتنا ومن إرادتنا ومما تبقى من تعددنا وهوامشنا لهذه العولمة: إذاً تضافرت هذه العوامل لتضعنا في لحظة ملتبسة جداً: ضعف النظام العربي المتناهش، تنامي القوى الكنتونية داخل السلطة وخارجها، وتفكك المجتمع أو انغلاقه أو ارتداده، أو تحويله طاقة ضد الحرية والمكتسبات النهضوية، والعقلانية، تراجع قوى التغيير والديموقراطية، انحسار الثقافة، الحية المستقلة، وأخيراً لا آخراً العولمة بوسائلها ووسائلها وابتكاراتها وقوانينها ومرجعياتها، لتكتمل دائرة الحصار على الثقافة النقدية والإبداعية.
6 ـ أين محط المثقف الطليعي المتقدم، الهامشي المستقل، والحالم، والتغييري، والصدامي، والمبدع، والمجترح، والخارج على المألوف، والإلزامات الفوقية، والمتمرد على السائد: أين موقعه في هذه أشكال الحصار المطبقة؟ فلا الدولة باتت تحميه وهي تقمعه، ولا المجتمع يرتاح إليه، ولا الزمن الجديد المعولم يستأنسه: إذ كيف يتمكن المثقف أن يتحرك بحيوية في ظل هذه الإحباطات والمخاوف المتوالية من جميع الجهات بل كيف يمكن أن يثق هو بكتابته وأفكاره وإبداعاته إذا باتت الكتابة نفسها والأفكار والإبداعات مستوعبة في نماذج (السلطة) أو الأصوليات أو العولمة.
بل كيف يتمكن المثقف أن يؤمن بأي مستقبل إذا كان يشهد أمامه “زوال” الإنجازات النهضوية الكبرى، شرقاً وغرباً، واضمحلال الريادات والأفكار التي صنعته وصنعت أحلامه وطموحاته ومغامراته: بل ماذا يمكن أن يفعل المثقف اليوم في ظل التدجين المؤسساتي، أو الإرهاب العربي، أو التكييف العولمي. هؤلاء رواد النهضة مثلاً كمحمد عبده يُخوّنون ويُتهَمون بالعمالة للغرب لأنهم مفكرو الدولة الحديثة، ونجيب محفوظ يتعرض لمحاولة اغتيال ويصادر “نبي” جبران بعد 8 عقود من صدوره. هذا من دون أن نغفل واقع الثقافة نفسها: تراجع في المسرح وفي السينما.وانحطاط في التلفزيونات واستغراق مجهول في الانترنت قد يؤدي إلى عزلة اخرى أو امتصاص لحيوية الشباب، شبه انقراض للأفكار والايديولوجيات والقيم التغييرية والأدبية والفلسفية، إلى درجة يمكننا القول فيها إن العالم العربي اليوم خالٍ من الأفكار (الجديدة)، وهذا ما لم نشهده على امتداد قرن ونصف القرن من النهضة والتنوير: ذهبت الأفكار والاتجاهات والنزعات التي صنعت الثقافة العربية، القومية، الفلسفية، اليسارية، اليمينية، الليبرالية، من دون أن نتلمس بدائل أو حتى امتدادات فكأننا نعود اليوم من تاريخنا الثقافي الحديث الحافل بالمغامرات والاختراعات صفر الأيدي، وصفر الوجوه، وصفر النفوس.
وعندما نتطلع حولنا، في العالم، لا نجد نصيراً أو معيناً، أو ملجأ: فهناك أيضاً في الغرب والشرق جنازات متتابعة لكل ما صنع الديموقراطيات، والاتجاهات، والفلسفات، والمدارس النقدية، والفكرية: كل يوم نطالع بجنازة أو بنعي (في الغرب): موت المسرح، موت الشعر، موت السينما، نهاية التاريخ، موت الحداثة، صدام الحضارات، موت الجغرافيا، موت الرأسمالية، موت الاشتراكية، موت الله، موت الانسان، موت الوجود، موت الجسد. موت الطبيعة، موت العالم: كل شيء كأنه في عداد الموتى: إنها الآلة الاستهلاكية المعولمة التي، وبقوة زمنها العابر، والعاقر، واللحظوي، تبشر بهذه الميتات لاستبدالها “بضائع” جديدة: تعامل التاريخ كبضاعة وزبائن، وتحول العالم مستهلكاً وزبوناً، والأدب والشعر والفنون والآثار وخيرات الشعوب وصولاً إلى الموت وحتى الاعضاء البشرية والمأكل والمشرب والملبس والهواء! إذ كيف يمكن أن نبقى أحياء ككتّاب وشعراء ومفكرين وسط هذه الجنازات اليومية وكأننا ما إن نفكر في الكتابة حتى نشهد جنازتنا أمامنا: كأننا موتى برسم الجنازة، أو أحياء برسم الموت. الغرب يشيع نفسه كل يوم، ويعيش كل موته وموتاه، ونحن بين مطارق الدولة القمعية المتداعية، والأصوليات المستنقرة، والثقافات الشاحبة، والعولمة المقولبة، نتحرك كالمروبصين، نكاد لا نفرق بين أن نكون نياماً نحلم باليقظة، أو مستيقظين نحلم في نومنا!
ولكن إلى هذا الحد يمكن أن يجرفنا ما نشهده هنا، وفي العالم، نحو اليأس، والاستسلام والهروب، والخوف، والاكتفاء، والقناعة، وترك الساحة للتخلف والقمع والجهل والعنف والإرهاب والاستهلاك؟
إن في كل ما أوردنا من نقاط “ضعف” أو ضغوط أو سلبيات، ما يشير أيضاً، وما يدل على هوامش ما زالت حية، في الثقافة عموماً، وفي العلوم، وفي الكتابة.
صحيح أن الايديولوجيات التاريخية التي صنعت القرن العشرين بسلبياته وإيجابياته قد تفسخت، إلا أن الآفكار ما زالت موجودة وهي كانت موجودة قبل الايديولوجيات. بل يمكن القول إن تفكك المدارس الأدبية والفلسفية والفنية ساهم في تحرير الكاتب والشاعر والفنان والمفكر من “الجواهر”، و”البنى الجاهزة” والإلزام القبلي، وجعله، ربما لأول مرة منذ أكثر من قرن حراً في فرديته، وفي صوغه نصاً بلا واجبات ولا بيانات: نصاً حياً لا يتأثر بنظرية أو بايديولوجيا. بمعنى آخر يكتب نصاً تمليه التجربة حتى التجريب. التجربة التي يأتي كل تفسير لها، وكل تنظير بعد نصها. وإذا كانت الايديولوجيات والمدارس والتنظيرات تشكل نوعاً من الأوليات و”الجواهر”، تماماً كما هي الأصوليات و”العولمات” فإن تجاوزها يؤدي إلى تحرير النصوص من أي مستندات برانية. ونظن، أن الكتابة اليوم تعيش عصرها الذهبي (لا سيما الشعر) لأنها خرجت من القماقم والوظائف الميدانية والتبشرية إلى صلب “شعريتها” المتفجرة بلا تقنين ولا توجيه. أوليس هذا ما نلمسه عند كثيرين من كتّاب وشعراء التسعينات: تحرروا من إرث الروّاد وتنظيراتهم ومن إلزامات الأفكار الجاهزة، وها هم يكتبون تجاربهم بتجاربهم، أي بحرياتهم الثقافية والفكرية. ونظن أن تنوع “اللغات الشعرية” مثلاً، حتى التناقض والتنافر من المغرب الكبير إلى المشرق، خير دليل على نفض كثير من الشعراء الجدد كل هذه الأعباء التاريخية عنهم وعن الشعر نفسه: فلتذهب المومياءات المطيبة من شعرية وغير شعرية الى حيث يجب ان تذهب بعدما تحولت بعقمها واثقالها عقبات أمام الأجيال الجديدة. وعندما نقول ذلك لا نقصد أن تنفصل الأجيال الجديدة عمّا قبلها: على العكس، وإنما تنظر إليها وتقرأها قراءة نقدية، لا طوباوية، ولا مقدسة. ولا نهائية ولا “منزلة”. وما يجري على الشعر والأدب لا بدّ أن يجري على سائر القطاعات السياسية والفكرية والفلسفية وإذا كانت مشكلة التيارات الايديولوجية والسياسية أنها بقيت كنصوص نظرية من نتاج الغرب أو الشرق في حدود القبول، والتقبل، فإننا نرى احتمال أن تأتي الأفكار كلها ايضاً بعد التجربة: أو تخضع كلها للتجريب. هنا المحك سواء بما يتعلق بالديمقراطية أو بالحرية أو بالنظم، أو بالانماء، أو بالجامعات، أو حتى بالاقتصاد. كانت النظرية تهبط من فوق، وعلينا، الآن، أن نجعلها تطلع من تحت: من الواقع والحياة والبحث والنقد والاختبار. أو اذا كانت الثقافة وامتداداتها العامة لقيت ما لقيت من عسف وقمع وابتسار وارهاب وما زالت، من قبل أهل الأنظمة الاستبدادية وما أنجبته من أصوليات، فعلينا ان نعرف ان الكتابة الخطرة هي التي تكتب محاطة بالخطر، وبالمجازفة (في الحياة والسجن)، وأنها آخر الحصون المقاومة، لكل أشكال الاستيعاب والنماذج والقهر والاستتباع والاستفهام والدكتاتوريات والتخلف. واذا كان علينا ان ندفع ثمن كل ما نفعله فيعني ان تعرف لكل شيء ثمنه: من الحرية الى الابداع الى العدالة الى الديموقراطية. فالاستكانة والاستسلام والخنوع والخضوع لاغراءات السلطة والمال والجاه والترف، والأمان والدعة والخوف، لا تؤدي الا الى موت الكاتب والكتابة، عندما يصبحان ذريعة لالغاء وجودهما نفسه.
وعندما نتكلم بهذه “النبرة” فليس لأننا متفائلون أو متشائمون، وانما لأن الكتابة لم تكن مقاومة للواقع بكل جوانبه، ورفضاً للتسليع، والتزويق، والاستتباع، والتنميط حتى على صعيد المغامرة في الشكل المضمون، فانها لا تكون كتابة. واذا كانت الهوامش الحية هي التي صنعت الابداعات العربية الكبيرة، على امتداد اكثر من قرن، من فكر ومسرح وشعر وسينما ونقد، فإن ما نحاول ان نفعله اليوم، هو توسيع هذه الهوامش خارج الأطر الثابتة وخارج مرمى القمع، وفي مقابل التوتاليتاريات المتقاطعة: من الأنظمة الاستبدادية الراهنة، الى الأصوليات وفقهاء الظلام، فإلى العولمة. ونظن انه بالتجريب ضمن هذه الهوامش المتحررة، يمكن الافلات وقد تم الافلات فعلاً، من هذه الظواهر التي تلتقي بقدر ما تفترق، وتتقاطع بقدر ما تتواصل، وان بدا انها متفقة على إلغاء معاني الحرية، والفردية، والاستقلالية، والابداعية غير المسلعة او المصادرة… انه زمن عربي آخر. وعندما نقول باللحظة العربية الراهنة، فلكي نحررها ايضاً من عروبة الأنظمة، والحزبيات، والشوفينية، الي مشروع ديموقراطي وفكري وحضاري متفتح على المقابل، متجاوزا ما يسمى الكتل التاريخية من أقليات او اتنيات او عنصريات او أديان او طوائف. نقصد عروبة تنفي نفسها باستمرار لتكتشف نفسها باستمرار، تنافس لتتجاوز نفسها، بحيث تكون افكارها المفتوحة امامها وليس وراءها: في ماضوية مغلقة نهائية ميتة مفتتة، او في أحضان دكتاتوريات صادرتها وحولتها شعارات لتحكم استبداداً باسمها، وتبرر هزائمها السياسية وتسلطها ونهبها وقتلها الصوت الآخر، وخنقها كل تنوع. اللحظة العربية اليوم كما كانت في الأيام الذهبية للنهضويين والتنويريين، ليست عربية بالمعنى الصافي. وليس هناك عروبة بالمعنى الصافي، ولا اسلام بالمعنى الصافي. ولا مسيحية بالمعنى الصافي. ولا شرق بالمعنى الصافي ولا غرب بالمعنى الصافي: التهجين صنع الحضارات، والعروبة بتلاقحها على المقابل والمختلف صنعت نفسها، وصنعت تاريخاً من الابداعات والاجتراحات فلا عروبة من دون الآخر. ولا عروبة بلا مراجعة. ولا عروبة بلا نقد. ولا عروبة بلا تحرر من المنطق التبريري. ولا عروبة بأفكار أبدية ثابتة. ولا عروبة تستنمي نفسها: العروبة لكي تنجب عروبة أكثر تقدماً عليها ان تتجاوز ذاتها الى “الآخر”… فالذات لا تطور الذات. (وهذا هو منطق الأصولية في أن الهوية الأحادية، والذات المغلقة والأنا المريضة، والنرجسية العرقية أو الدينية او الايديولوجية تنتج نفسها، والواقع انها تؤسس في نفسها، وتحتضر في نفسها، وتستنقع في نفسها).
اذاً في هذه اللحظة العربية الخاصة، نكتب ما نكتب، محاطين بالقمع والتخلف والاستبداد والاقطاعات الطائفية والمذهبية، والأنظمة المتهالكة، والامتزاجات الغرائبية، ومع هذا، نكتب ما نكتب لأنها الكتابة ليست ترفاً أو أقنعة خنوع. بقدر ما هي مقاومة! الكتابة اليوم هي الحصن الأخير للابداع!
(*) قدمت اول من أمس في الندوة الفكرية التي تعقد على هامش معرض الكتاب في الدار البيضاء تحت عنوان “الكتاب والتفكير في اللحظة العربية الراهنة“.
(*) تقدم اليوم في الندوة الفكرية التي تعقد على هامش معرض الكتاب في الدار البيضاء تحت عنوان “الكتاب والتفكير في اللحظة العربية الراهنة“.
المستقبل