العلمنة والتباساتها
جيروم شاهين
إن مصطلح العلمانية، وكما قال عنه أحد الاختصاصيّين في هذا الموضوع هو مصطلح يشبه إلى حدٍّ كبير الحرباء، أي أنه متقلّب ومتلوّن بمختلف ألوان محيطه البيئي. هذا يعني أن العلمانية، تختلف باختلاف الناظر إليها، وباختلاف الزاوية التي ينظر إليها، وباختلاف المقاربة التي يعتمدها الباحث في العلمانية.
من هنا، وإذا ما قلنا: إن العلمانية هي الفصل ما بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، فإن هذا القول هو صحيح جزئياً، وبالتالي يطال فقط مستوى من مستويات العلمانية. فمن جهة، العلمانية لا تُختَزل بصراع ما بين سلطتين سياسية ودينية. إنها موقف شمولي في كيفية وجوب تنظيم الناس، أفراداً وبخاصة جماعات، حياتهم في كافة مستوياتها. وهكذا لا يصح أن نطلق في تحديد العلمانية تعميمات غالباً ما تكون مجتزئة لها وعلى الأخص ممارِسةً عليها ما يسمّى التحويلية أي جعل جزء منها، أو مستوى منها، مفسراً، لوحده، كل أجزائها وجميع مستوياتها. كأن يقال مثلاً : العلمانية هي فلسفة إلحادية، أو هي معاداة للدين، أو هي معاداة للإكليروسية، أو هي سيادة العلمويّة في تنظيم الحياة، أو هي المادّية، وإلى ما هنالك من مواقف شائعة وتتردّد في الأدبيات، خاصة العربية، التي تتناول ظاهرة العلمانية واصفة إياها بالظاهرة الغربية الغريبة عن تراثنا والمعادية له. من جهة ثانية، ليس هناك، تاريخياً، وبخاصة في القرنين الأخيرين الماضيين، من شكل واحد للعلمانية. فالنماذج الغربية للعلمانية تختلف من بلد إلى آخر، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى. العلمانية الأنغلوساكسونية ـ البريطانية والأميركية ـ تختلف عن العلمانية الفرنسية. ولعلّ هذه الأخيرة هي التي جاءت أكثر راديكالية في نقدها الدين وفي محاربتها الإكليروسية.
من جهة ثالثة، المسار التاريخي لعلمانية البلدان الغربية لم يكن مساراً خطيّاً تصاعدياً. بل عرف إلتواءات وتعرّجات وتراجعات. إن فصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية لم يتمّ، في الغرب، إلاّ منذ وقت قصير، ومدّ وجزر. لا بل نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إن فصل السلطتين ليس نهائياً، وليس محكماً، حتى أيامنا هذه. فهناك، اليوم، جيوب طائفية ما زالت تعشش في قلب المجتمعات الغربية الحديثة.
وإن الاستقلالية المزعومة للتشريع هي غير ناجزة. كما أن استقلالية المجتمع العلماني في صياغة القيم الأخلاقية والأدبية والفكرية، بمعزل عن تأثيرات الدين، هي أيضاً أسطورة.
خلاصة القول: هناك وجه آخر من العلمانية الغربية هو وجه عطوب. والعلمانية ليست ـ كما يتوهّم بعضهم ـ نظام متكامل، مترابط، يقف شاهراً سيفه على الدين باسم الإلحاد، أو باسم الإنسان المعاصر الذي نصّب نفسه مشرِّعاً وحيداً في الكون. مع ذلك، فالعلمانية تحمل العديد من القيم التي أصبحت اليوم قيماً شمولية لم يعد بوسع أي مجتمع، إذا أراد أن يكون حديثاً، وأن يطبّق شرعة حقوق الإنسان، وأن يؤسس انتماء جميع أبنائه على المواطنة الواحدة، وأن يطبّق قيم الديمقراطية، إلاّ أن يعتمدها في تنظيمه وإدارته.
كيف نخرج من الثنائية المتعارضة ما بين الدين كمؤسسة وسلطة شاملة، والعلمانية كسلطة شاملة سياسية وتشريعية؟ كيف نخرج من هذه الثنائية التي تحتّم على المجتمع أن يكون إما قسراً متديّناً، أو حكماً معلمناً ؟
لربما أن الحل يكمن في موقف جدلي، ديالكتي، ما بين الدين والعلمانية بحيث نعيد النظر في تحديد وظيفة الدين الأساسية ووظيفة العلمانية الأساسية.
وهكذا، يمكن اعتبار الدين على أنه يقوم، أساساً، في المجتمعات، بوظيفة إرشاد الناس حول مستوى المعنى في حياتهم الفردية والجماعية. واعتبار العلمانية على أنها تنظّم ، عقلانياً، المستوى التقني في حياة الجماعات.
إلاّ أن الدين، ولكي يقوم بوظيفته هذه، ولئلا تختزله المؤسسة التي تجسّده ـ وليس من دين بدون مؤسسة ـ عليه أن يميّز ـ لا أن يفصل ـ ما بين الإيمان والدين. فالإيمان يمكن اعتباره هذا النزوع نحو المطلق، أي الله. أما الدين، فهو التعبير الثقافي عن الإيمان. ولما كان الدين تعبيراً ثقافياً عن الإيمان فهو بالتالي متحوّل. وإذا لم يعتبر ذاته هكذا فسرعان ما يطوّع الإيمان، لا بل يستلبه.
أما العلمانية، فعليها، هي أيضاً بدورها، ألاّ تتنطّح إلى اختزال مستوى المعنى واستلابه. فإن فعلت ذلك لم تعد علمانية بل “علمانوية “.
فالحلّ، كما قلنا، ليس إلاّ في الموقف الجدلي ما بين “الواقع” و”المعنى”. فالواقع، أو المستوى التقني للحياة ـ الفردية والجماعية ـ هو من شأن العقل، أو العقلانية، ومن مهام العلمانية. أما المعنى فهو من شأن الإيمان الذي يعبّر عن ذاته، ثقافياً، بالأنظومات الدينية. لكن المستويين، والشأنين، يجب ألاّ يتناقضا ويتعارضا، وألاّ يمتزجا ويتماهيا، بل أن يقيما ما بينهما علاقة جدلية. فالعلم والتقنية عندما يسيطران على “الواقع” إنما يسعيان للوصول إلى “المعنى” المحقَّق أو الظاهر في الواقع. وما نفع المثال الخلقي إن لم يُربط بضرورات الواقع.
اذن، النظرة الجدلية الضرورية للدين والعلمانية، العقل والإيمان، تقتضي، من جهة، نقد الدين دون القضاء على الإيمان. كما تقتضي، من جهة أخرى، ألاّ تَختزل العقلانيةُ بكل تجلّياتها، والتي تنمو في المجتمعات الحديثة نموّاً حثيثاً ومتسارعاً ومدهشاً وتتزامن مع عبثية متسارعة أيضاً كلَّ مستويات الحياة، وأهمّها مستوى المعنى والحلم والمجانية… بحيث أصبح من الملحّ أن ينكبّ إنسان اليوم على البحث في الـ “لماذا”، بعد أن أصبح كلّي القدرة في الـ “كيف”.
المستقبل