“العلمانية الأمية”: في المحصلات المحتملة للفصل بين العلمانية والدولة
ياسين الحاج صالح
خلافا لعقيدة شائعة، سوريا وعربيا، لا تفضي العلمانية إلى معالجة فعالة للطائفية إلا في إطار بنية سياسية وقانونية وطنية، تقوم على المساواة الحقوقية والسياسية بين “المواطنين” المفترضين، وفي سياق سياسة فعالة للدمج الوطني. بعبارة أخرى، لا يكون الطرح العلماني مثمرا دون إطار للنضال العلماني ولمقاومة الطائفية هو الإطار الوطني الذي يوفر، وحده، “هوية” عليا إيجابية، تتيح تجاوزا إيجابيا للهويات الدنيا، الفئوية. فإن لم تكن الدولة الوطنية فاعلا علمانيا كما يقتضيها مفهومها ذاته، كان من المرجح ألا يثمر النشاط العلماني رغم ذلك. وهنا يغدو لزاما على النضال العلماني أن يدرج نفسه في سياق النضال من أجل بناء الدولة الوطنية، دولة المساواة بين المواطنين المختلفين دينيا ومذهبيا.
على هذا الأساس، نعرف العلمانية بدلالة الدولة الوطنية إيجابيا، وبدلالة الهويات الدينية سلبيا، أو لنقل بدلالة الدين والدولة. أليست العلمانية في تعريفها الإجرائي المشهور هي الفصل بين الدين والدولة؟
1
إن صح ذلك، وهو بديهي حقا، فإن من شأن طرح علماني يَغْفَل عن مبدأ الدولة الوطنية، الموحّدة والمسويّة، في مجتمع متعدد الأديان والمذاهب، أن يؤدي بالأحرى إلى تعزيز الطائفية، وليس إلى إضعافها. أو لنقل إلى الاندراج في لعبة التجاذبات الطائفية والعمل كشاهد زور في منازعات الطوائف.
هذا تقريبا ما يجري في سورية منذ سنوات.
بقيادة علمانيين عالمين (جورج طرابيشي، أدونيس، عزيز العظمة في تآليفه السجالية..)، يجري تعريف العلمانية بدلالة الدين حصرا. ولما كان “الدين” الحامل لمطامح سياسية معلنة هو الإسلام (السني)، فسوف يجري تسخير العلمانية حصرا لمواجهة الإسلاميين. ولن يلزم من أجل أن يكون المرء علمانيا إلا أن يكون ضد الإسلاميين، الأمر الذي إن لم يتوافق مع مزيد من الارتباط بمواريث دينية ومذهبية مجايلة للموروث الإسلامي، فإنه لن يجد ما يأخذه على هذا الارتباط. بالمقابل تنفك روابط العلمانية بالمساواة والمواطنة، وقد تجدها مدافعة عن أوضاع امتيازية أو ساكتة عليها.
وإنما بهذا المعنى نتكلم على علمانية أمية: موقف سياسي ديني يجد حوافزه ومحركاته المحتملة في الروابط الأولية الموروثة (“تربية الأم” على قول عبدالله العروي في كتابه الأخير “من ديوان السياسة”). وسيسهل علمانيون عالمون، أصحاب أسماء مكرسة، انتشار صيغة “أمية” للعلمانية، تفصلها عن منطق الدولة الوطنية الحديثة، ولا تجد كلمة واحدة تقولها عن الصيغة الواقعية لهذه الدولة.
هذا مفهوم لا يوفر أية ضمانات ضد تسخير العلمانية لأغراض طائفية. بالعكس، بعيدا عن أن تنصب أية حواجز في وجه الطائفية، العلمانية هذه بمثابة صلاة لراحة الضمير الطائفي. أو ببساطة كفالة لعلمنة الطائفية، أعني لنقل سندها من أية تعاليم دينية خاصة وماضوية إلى معان فكرية وسياسية وعامة ومستقبلية وكونية. بهذا تمسي العلمانية الإيديولوجية العضوية للطائفية، عقيدة تثبيت وإعادة إنتاج الانقسامات والخصومات الدينية والمذهبية. الدولة هامشية أو غائبة تماما. ومثلها الرابطة الوطنية، السورية في سياقنا هذا. وتفحص نصوص تنسب نفسها إلى هذا الضرب من العلمانية، وهي وفيرة منذ اليوم، لا يترك مجالا للشك في ذلك.
وعلى هذا النحو، بدل أن ينشغل التفكير والنشاط العلمانيين بمسألة الفصل بين الدين والدولة ضمانا للمساواة بين المختلفين دينيا، ينقاد، عبر الفصل بين العلمانية والدولة، والوصل الحصري لمفهوم العلمانية بالدين، إلى تعزيز الطائفية.
لماذا هذا خطير جدا؟ لأن الطائفية حاملة إمكانيا على الدوام لانقسام البلد المبتلى بها إلى كيانات دينية صافية أو يغريها الصفاء الديني. وبقدر ما إن العلمانية الأمية تعرف العلمانية بدلالة الدين حصرا، وتمارسها كسياسة مناهضة الإسلاميين حصرا، فإنها لا توفر أية موانع ضد الانقسام. فإذا تحقق فصل الدين (الإسلام) عن الدولة بهذه الطريقة، كان ذلك غير مرفوض، كيلا نقول إنه مرغوب وعز الطلب.
2
قد تسير المحاكمة الضمنية للعلماني السوري النمطي على النحو التالي: إن هناك “هجمة أصولية” تهدد بأسلمة الحياة العامة، ما يوجب الوقوف ضدها والتأكيد على العلمانية. والحال إن أول ما تخفق فيه هذه العقيدة المبسطة هو فهم الجذور الاجتماعية والفكرية والسياسية لـ”الهجمة الأصولية”، إن في طورها السياسي العنفي القديم، أو طورها الاجتماعي الثقافي الراهن. لا نجد شيئا ذا قيمة عن التمايزات الاجتماعية الجارية بنشاط في المجتمع السوري (تتبلور أكثر وأكثر “أمتان”، معرفتان بلغة اجتماعية ثقافية)، ولا حتى محاولات أو إدراكا للحاجة إلى تتبع هذه التمايزات. ولا نجد بالمثل شيئا مهما في وصف الحياة الدينية أو تفكيرا نظريا متجددا في الدين، هذا فوق المثابرة العنيدة على إغفال البعد السياسي للعمليات الاجتماعية والثقافية في بلد لطالما كان كل شيء فيه مشحونا بالسياسة. هل هذا معقول؟
والإخفاق في الفهم هو منبع إخفاق أصحاب أطروحة “الهجمة الأصولية” في تطوير سياسة وطنية تعزل الأصولية اجتماعيا وتعزز فرص العلمنة. لماذا؟ بالضبط بسبب الامتناع النظري والعملي عن وضع المسألة في سياق عام، يربطها بقضايا الديمقراطية والتنمية والتعليم الوطني والحريات العامة. ثمة إصرار غريب على عزل مسألة الأصولية عن قضايا السياسة والدولة والاقتصاد والمجتمع والطبقات…، وعلى جعلها وحدها قضية القضايا. كيف لا يشجع ذلك في مجتمع هش الاندماج على تمرير الطائفية من وراء ستار مواجهة الأصولية؟ وأية ضمانة في أن لا يسوغ أيضا ضربا من الهيمنة الطائفية (منطلقا من رفض ضرب آخر لها) أو يشجع الانقسام وتكون دول طائفية؟ هل يكفي هنا الدفع بحسن النية في شأن بالغ الحساسية، قلما تستقر فيه النيات على حال، بخاصة حين يعاند علمانيون عالمون ويصرون على إدخال النيات في الحساب السياسي (عزيز العظمة)؟ نتحفظ من جهتنا على محاسبة النيات لأن تعميم هذه المحاسبة (وهي لا تكون شرعية إن لم تكن حقا عاما للجميع في الشك في نيات الجميع) يقوض السياسة من أصلها، فضلا عن كونه غير موثوق معرفيا، وغير سليم أخلاقيا. بدلا من ذلك نفضل مناقشة الإشكاليات، وهي “نيات” مفاهيمنا ومناهجنا، أو ما تتضمنه هذه من رهانات غير ظاهرة أو احتمالات واردة. ومن هذه الرهانات والاحتمالات أن العلمانية الأمية، المعرفة بدلالة الدين وحده، تتواطؤ مع الهيمنة الطائفية، ومع ما هو أسوأ منها.
3
يبدو فصل الأصولية عن قضايا الدولة والاقتصاد والمجتمع.. وفصل العلمانية عن قضايا الديمقراطية والحريات والعدل الاجتماعي مناسبا جدا لنخبة السلطة. فبقدر ما تعتبر الدولة إطارا سلبيا للصراع بين مبدئين: “الإسلام” أو “الأصولية” من جهة، و”الحداثة” و”العلمانية” من جهة ثانية، سيجري تحييدها سياسيا وتُخرَج من إطار السياسة والتدبر البشري. ولن تقتصر محصلة هذا الطرح على تعالي الدولة وتطبيع الاستبداد، بل بخاصة تعالي الأصولية ذاتها واستحالة التقدم خطوة واحدة في فهمها وفي سياستها. سوف تبدو الأصولية قدرا ثابتا لا يتزحزح، شيئا مبهما غير معقول ولا سبيل إلى التخلص منه، ربما يكون نابعا من صميم بنية مجتمعاتنا. هذا فوق أننا سوف نحرم من الجهة الأفضل تأهيلا لمقاومة الأصولية، سياسيا وثقافيا وقانونيا، أي الدولة ذاتها.
بيد أن تعالي الأصولية على الفهم والعمل علامة على فقر العقيدة العلمانية، في الصيغتين العالمة والأمية معا، أكثر من أي شيء آخر.
الواقع أن تثبتهما على تعريف العلمانية بدلالة الدين يقودهما إلى التخلي عن الطرح العلماني المبدئي، هذا الذي يعرِّف العلمانية بالدولة الوطنية اللادينية أو المحايدة دينيا، لمصلحة طرح تعبوي قصير النظر، ربما يوفر للعلمانية قاعدة اجتماعية مضمونة، لكن ليس قبل أن تخسر روحها المضادة للطائفية. المحصلة علمانية ظلامية، راسخة في الأمية، تتعايش مع قصور الدولة الوطنية الذي لا يتظاهر تسلطا واستبدادا فقط، ولا حرمانا من المساواة السياسية والقانونية بين “المواطنين” فقط، وإنما كذلك تراجعا للاندماج الوطني وتبلورا أصلب للتكوينات الطائفية. ومع تغييب الإطار الوطني لطرح المشكلة والتفكير فيها والعمل على معالجتها، يجري تجنب أي نقاش جدي حول بنية العلاقة بين المجموعات الدينية والنظام السياسي، ولا يطرح أي تساؤل بصدد ما إذا كان هناك علاقة بين صيغة الحكم المؤبد وبين تقاسم السيادة بين الدين والدولة، ولا يتمادى التفكير إلى أية أمداء تاريخية تتجاوز الشريحة الرقيقة من الراهن العابر. ولما كان الإطار الوطني هو السند الإيجابي الوحيد لتجاوز الانقسامات الدينية والمذهبية، تبدى لنا بمزيد من الجلاء لماذا تشكل هذه المقاربة العلمانية المزعومة مساهمة سخية في سد آفاقنا السياسية والفكرية، وفي ترسيخ (لا في حلحلة) الاستقطاب الجامد بين “الأصولية” و”الاستبدادية”. وبالطبع في الحيلولة دون أي تراكم فكري أو قيمي حداثي حقيقي.
4
لكن ما الذي يدفع علمانيين عالمين، لهم أثر عظيم غير مشكور في انتشار هذه الصيغة المبتذلة من العلمانية، إلى الإصرار على تعريف هذه بدلالة الدين حصرا؟ أليس هذا تقليصا مفرطا للعلمانية؟ وهل يخفى أن هذا الطرح لا يحمل أية ضمانات ضد توظيفه تعبويا في معركة إيديولوجية يحتمل جدا أن يغلب الخاص والفئوي فيها على العام والوطني؟ وكيف يفوتهم أنه يفضي إلى تدعيم الطائفية حين تكون البنية الوطنية للدولة هشة، والمجتمع منقسما، والهويات الفئوية نشطة أو سهلة التنشيط؟ أليست هذه حصيلة مرجحة حين يفصل الصراع ضد الدين السياسي عن سياق بناء الدولة الوطنية؟ ما الذي يحول في هذه الحالة دون انزلاقه إلى صراع أديان ضد أديان أو مذاهب ضد مذاهب؟
الأمر يتصل باعتقادي بالشروط المحلية والدولية لعمل النخبة وللانتماء إليها في ربع القرن الأخير، وبخاصة بعد 11 أيلول 2001. العلمانية الأمية طبق رئيسي على مائدة ثقافة ما بعد 11 أيلول، بل يكاد يكون الوجبة كلها. والطلب المحلي والدولي على صيغها العالمة لا يشكو من الفتور.
على أن السؤال الأهم يتصل بكيفية إبعاد العلمانية من هذا التوظيف المغرض الذي يقلبها ضد نفسها، وإعادة ربطها بقضية البناء الوطني. هذا ضروري لأنه وحده يتيح مقاومة فعالة على المدى الأبعد لأسلمة المجال العام، فيما تتعايش العلمانية الأمية (الطائفية) واقعيا مع الأسلمة، بل تتطفل عليها فتنموان معا. مزيد من هذه يقود إلى مزيد من تلك، خلافا لما يفضل أن يعتقد عموم العلمانيين الأميين (والعالمين).
التفكير في محو أمية العلمانية وإدراجها في سياق عملية بناء الدولة الوطنية ضروري أيضا في مواجهة الرفض التام للعلمانية على يد إسلاميين، أشد منازعة بعد لمبدأ الدولة الوطنية المحتكرة للسيادة. في أحسن أحوالها الدولة الإسلامية دولة مِلل (في أسوئها دولة تفرض “الإسلام” على محكوميها)، لكن فصل العلمانية عن الدولة على غرار ما تفعل العلمانية الأمية لا يفضي إلى شيء مختلف كثيرا: دولة استبدادية فوقية تهيمن على مجتمع أهلي مجزأ، تتفوق التفاعلات الداخلية لكل مجموعة فيه (جهوية أو قرابية أو دينية أو لغوية..) على تفاعلاتها مع غيرها، وتخضع تفاعلاتها الأخيرة لرقابة المركز السياسي المتعالي. قد لا يكون الاستبداد تولد من هذه الصيغة، لكنها كفيلة بتوليده ودوامه، ولا سبيل إلى التخلص منه دون التخلص منها.
5
العلمانية الأمية مؤهلة لأن تكون اليوم الإيديولوجية العضوية للبرجوازية الجديدة في سورية، الطبقة التي تكونت في الربع الأخير من القرن العشرين من محاسيب النظام وزبائنه وأهل ثقته، والتي لها الكلمة العليا اليوم في الاقتصاد والإعلام، والثقافة، فضلا عن السياسة والدولة. عمى العلمانية الأمية عن الدولة مناسب لطبقة نشأت في كنف الدولة، ولا تستطيع قطع حبل سرتها عن النظام ومشاريعه وعقوده وامتيازاته..؛ أما تركز بصر العلمانية هذه على مخاطر “الإسلام السياسي” فمناسب لتلك الطبقة أيضا لأنه المنافس الأقوى لـ”الدولة”، وفي بعض صيغه هو خصم طبيعي لنمط حياة البرجوازية الجديدة الامتيازية هذه. أرجح أخيرا أن العلمانية الأمية هي الإيديولوجية المناسبة للمركب السياسي الأمني السوري الذي يختزن في صميم تكوينه خبرة الصراع مع الإسلاميين، أو الذي يشكل هذا الصراع تجربته المكوِّنة.
6
مؤدى هذا التحليل أن إنقاذ مبدأ العلمانية وفرصها العملية يقتضي نقد العلمانية العالمة الشائعة (وفيها خطوط أمية وفيرة)، وبالطبع نقد الإسلامية التي تجعل الدين سياسة والسياسة دينا، ولكن أيضا وأساسا نقد التشكل الراهن للدولة، بالخصوص قصورها في مجال احتكار السيادة ونزعها من يد من التشكيلات الدينية والأهلية، وتفضيلها سلطة مؤبدة على سيادة موحدة. حجر الزاوية في النقد هو مفهوم الدولة الوطنية السيدة، الدامِجة، الموحِّدة، الضامنة للمساواة.