بغداد ليست قندهار
شاكر الأنباري
رُفع ذلك الشعار في تظاهرة احتجاجية دعت اليها مؤسسة المدى ضد قرار مجلس محافظة بغداد بغلق النوادي الاجتماعية والليلية، والعائلية، والمطاعم التي تقدم الخمور، بما في ذلك نادي اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين. وقد قامت قوة من الشرطة باقتحام النادي وطلبت من الشاعر الفريد سمعان، وهو الأمين العام للاتحاد، بالتوقيع على ورقة الغلق. وفي الوقت ذاته أغلقت عشرات الحانات، والمطاعم، والملاهي الليلية، والاجتماعية، التي تقدم الخمور في مناطق بغداد كلها، بحجة عدم الترخيص، أو بحجة أن مالكيها مسلمون. وهناك اليوم صراع حاد بين الأحزاب (الإسلاموية) الماسكة بالسلطة والقوى الليبرالية داخل المجتمع، ليس حول الخمور فقط، بل في مظاهر أساسية أخرى في الحياة العامة كالحجاب، والحفلات الراقصة، والغناء، والانفتاح على الغرب، وغير ذلك.
تظاهرة شارع المتنبي احتشد فيها مئات من الكتاب والفنانين والمثقفين وأعضاء في البرلمان ومهتمين بالشأن الديموقراطي في البلاد. ولمكان التظاهر رمزية واضحة فشارع المتنبي هو شارع الكتب، والمطابع، واللقاءات الثقافية في المقاهي المطلة على نهر دجلة. وتكلم في التظاهرة الناقد فاضل ثامر رئيس اتحاد الأدباء والكتاب، واسماعيل زاير رئيس تحرير جريدة الصباح الجديد، والخبير القانوني طارق حرب، وآخرون من مؤسسة المدى، ورفضوا عبر كلماتهم الغاضبة ما اسموه بـ”الخمينية والطالبانية”، وهو ما تريد الأحزاب الشيعية الحاكمة إشاعته، حسب رأيهم، في حياة البلاد، وكان شعار “بغداد ليست قندهار” مكتوباً على لافتة تتصدر المتظاهرين.
كما قامت مؤسسة المدى بكتابة مئات اللافتات في مناطق بغداد ترفع شعارات ضد مصادرة الحريات الشخصية، وقمع حرية التعبير، والتعسف في تطبيق مثل هكذا قرارات. وكرست جريدة المدى بضعة أيام من إصدارها للتنديد بهذا الإجراء عبر مقالات افتتاحية كتبها الصحافي علي حسين تحت عنوان (فارزة)، متوعدة مجلس المحافظة بمعركة مفتوحة معه لكشف ملفات فساد، وسرقات للمال العام، وتضييق على الحريات المكفولة دستورياً. ونشرت أيضاً استطلاعات للرأي مع برلمانيين، ومفكرين، وسياسيين، تدين هكذا قرارات وتعتبرها تصرفات غير قانونية، وتعتمد على رؤية فردية، ومزاجية، من قبل مجلس المحافظة ورئيسه كامل الزيدي الذي ينتمي الى أحد الأحزاب الإسلاموية التي تحكم العراق.
وفي اليوم الثاني اعتصم مئات الكتاب في مبنى الاتحاد لرفض وضع وزارة الثقافة ضمن المحاصصة الحكومية في إدارة شؤون العراق، واقترحوا أن ينتخب المثقفون وزيراً من بينهم، ودعوا مجلس المحافظة الى إعادة النظر بقرار غلق نادي الاتحاد، ورفضوا أي قرارات غير قانونية تمس بالحريات العامة. وكان كل ذلك انعكس في الصحافة العراقية، والعربية، وفي القنوات الفضائية من خلال استطلاعات، ومقالات، وكاريكاتيرات، تقف ضد قمع الحريات. واعتبروا قرارات مجلس محافظة بغداد بغلق النوادي الليلية، والبارات، مقدمة لممارسات أوسع قادمة تقوم بها الأحزاب الإسلاموية لضرب الحريات. والحريات في العراق أصبحت هاجساً للمثقفين والفنانين، كرس ذلك الهاجس وجود أحزاب ترفع راية الدين في برامجها ونشاطاتها، ولا تخفي اعجابها بالتجربة الإيرانية في هذا المجال.
وكان كاريكاتير مجلة الأسبوعية العراقية حمل دلالة واضحة على نتائج هذه الحملة. فثمة مصباح كهربائي، وهو رمز للنور والتنوير، يحزم حقائبه ويهاجر بسبب مطاردة الميليشيات، والفساد، والفقر، والإرهاب، ورمزية الكاريكاتير تومئ الى هجرة خيرة عقول البلاد في السنوات الماضية. ومن الجهات الإعلامية التي اهتمت بهذا الموضوع جريدة العالم العراقية، والصباح الجديد، والمدى، وايلاف، والشرق الأوسط السعودية، وجريدة الأخبار اللبنانية، كما كرست قناة العراقية للموضوع، وهي تُدار من قبل الحكومة، حلقة كاملة لمناقشة قرارات مجلس المحافظة تلك. كان هذا البرنامج لافتاً، فالعراقية تنطق تقريباً باسم الحكومة، وكان المتحاورون هم فاضل ثامر رئيس الاتحاد، وطارق حرب الخبير القانوني، وكامل الزيدي رئيس مجلس المحافظة، وطرح الموضوع من زاوية قانونية وسياسية وأخلاقية. فالمجلس استند الى قانون أقره صدام حسين أثناء حملته الايمانية بغلق البارات والملاهي الليلية، لأن الدستور العراقي اليوم لا يبيح سن أي قانون أو اتخاذ أي قرار يتعارض مع الحريات الإنسانية والفردية التي أقرتها الأمم المتحدة وشرائع حقوق الإنسان. ولكي يجد مجلس محافظة بغداد تبريراً لقراره رجع الى قوانين الحملة الايمانية التي حدثت في تسعينات القرن الماضي. وكانت تبريرات رئيس مجلس المحافظة تذكّر المشاهد بالنيات المبيتة لخنق الحريات الشخصية، وإشاعة التشريعات الإسلامية في فصل الذكور عن الاناث في المدارس، وغلق الحانات، وتكريس الطقوسية الدينية، والتضييق على الغناء والرقص، خضوعاً كما قال الزيدي لرأي الأكثرية، باعتبار أن العراق بلد إسلامي، وهي ذريعة تتذرع بها معظم الدول التي تطبق الشريعة الإسلامية بما في ذلك إيران.
كانت تلك التبريرات، والمسوغات، شبيهة بما قام به مجلس محافظة البصرة قبل أشهر، حين منع سيرك (مونت كارلو) الذي دعي من باريس الى البصرة، من مواصلة فعالياته على أرض البصرة، بحجج مشابهة، وكما حدث في مهرجان بابل حين منع مجلس المحافظة الفرق الفنية والغنائية من عرض فعالياتها في المهرجان، فتم تفريغه من مضامينه الثقافية، والفنية، والحضارية، وانتهى بكارثة ثقافية على مرأى ومسمع الجميع. وقتها كانت الحجة أن بابل أصبحت موئلاً للحزن بسبب المقابر الجماعية، والاضطهاد، فكيف يمكن قبول هكذا نشاطات غنائية؟ وكان فاضل ثامر قد أشار الى محاولات البعض، ويقصد القوى المتأسلمة، في إشاعة ثقافة احادية، تذكّر بممارسات طالبان في أفغانستان، وما قامت به من قصف وتهديم للتماثيل البوذية ومحاربة الانفتاح الاجتماعي والثقافي. كل ذلك في مجتمع يفترض أنه تجاوز هذه الأطر منذ أن أسقط نظام الحزب الواحد، والقائد الأوحد. التضييق على النوادي الاجتماعية، وفرق الرقص، والمنتديات الثقافية، سيضر بسياحة البلد، حيث ستقتصر على السياحة الدينية فقط، وهو ما تريده الأحزاب الحاكمة. اليوم ثمة موجة من السياحة تسمى بـ(السياحة الدينية)، وهي تعني فتح الباب للزوار الشيعة من إيران ودول الخليج لزيارة المراقد الدينية، وأصبحت تدر أموالاً طائلة على البلاد عبر شبكات الفنادق وشركات النقل، والمتعهدين، وقطاعات النقل الخاص، ويتم تسهيل منح الفيزة والإقامة لهم، في حين تصعّب، من جهة أخرى، الزيارات العادية، ولا تمنح الإقامات للعرب إلا بصعوبة خارج ذلك الإطار.
لكن اللافت في هذه المواجهة بين الليبراليين، والمتدينين، أنها ظلت لحد الآن منحصرة في إطار ضيق. المثقفون ومجلس محافظة بغداد، ولم تمتد الى قطاعين واسعين في البلاد هما القطاع الشعبي، الذي يعاني من وطأة الفساد الإداري والمالي، والمحاصصة، والبطالة، والأمية، ودمار البنية التحتية، والتضييق على راحته من خلال العطل الدينية، وغلق الشوارع، والإرهاب طبعاً، بحيث لا يجد فسحة للمتعة أو الترويح عن النفس. والقطاع الآخر هو البرلمان، ونحن نعرف أن هناك نسبة قد تتجاوز النصف من الأعضاء الليبراليين والعلمانيين، ممن يؤمنون بالحريات الشخصية، واستنكر بعضهم قرارات مجلس محافظة بغداد، وقسم منهم كان عضواً في ائتلاف دولة القانون ذاته. لكن القضية لحد الآن لم تتحرك داخل قبة البرلمان، ولم تُناقش على المستوى الرسمي.
وهنا يعتقد المعارضون لقرار مجلس المحافظة أن المجلس استغل انشغال البرلمان بقضية الحكومة الجديدة، ونظامه الداخلي، وتشكيل لجانه للمرحلة القادمة، وكذلك القوى السياسية وصراعها على الوزارات، لكي يمرر مثل هكذا قرارات تعسفية تمس حرية المواطنين. فمجالس المحافظات كما هو معروف لا يمكن لها أن تتخذ قرارات مصيرية مثل تلك من دون أن يوافق عليها البرلمان. ولكن في الفوضى الحاصلة اليوم في إدارة الدولة، وفي القضاء، والسلطة التشريعية، يتم تجاوز الدستور في كثير من الأحيان من قبل مجالس المحافظات. وهي تستغل مبدأ استقلاليتها النسبية لكي تقود المحافظات أحياناً بشكل تعسفي، وتبعاً لمزاج الأحزاب المسيطرة على مجالس تلك المحافظات. وهناك آراء ثانية تستغرب سلوك مجلس محافظة بغداد ذاك، وتفسره على أنه قنابل دخانية تبعد الأنظار عن إخفاقات كارثية في ملفات الخدمات الاجتماعية، وإعادة الإعمار، والسرقات الكبيرة لأموال المشاريع التي لا تنفذ سوى على الورق، والأجندات الطائفية في التعامل مع مناطق بغداد المتنوعة مذهبياً، ودينياً، وقومياً. ويعتقدون أن منع النوادي الليلية والحانات والخمور عامة سيشجع على التوجه نحو المخدرات، كما هو حاصل في مناطق جنوبية تمارس هذا النمط من التضييق. انتشار المخدرات، والحبوب، والكبسلة، أصبح ظاهرة في الناصرية، والعمارة، والبصرة، وكربلاء، ولحد قليل بغداد، ومن هنا يعتبر تنظيم عمل أماكن الترفيه ومراقبتها أفضل بكثير من منع الخمور بحجج دينية، وأخلاقية واهية.
إنها معركة بكل ما تعنيه الكلمة. بدأ صداها يتردد في شوارع العاصمة، وفي المحافظات. معركة بين التنوير، والثقافة، والليبرالية، والحياة المدنية، وبين الظلامية، والانغلاق، والطائفية، والتقاليد البائدة، وهي ستستمر بشراسة في المستقبل، وستستقطب فئات واسعة من المجتمع. كما ستستخدم فيها الأسلحة كافة، الفتاوى، الصحافة والإعلام، المال، والجماهير، ولا أحد يتكهن بما تحمله من مفاجآت. والمواجهة ستكون مفتوحة، كما أشار الى ذلك الصحافي علي حسين في فارزته المنشورة بجريدة المدى. وقد بدأت فروع الاتحاد في المحافظات تتحرك هي الأخرى، لمواجهة هذا المد الظلامي المتستر بأهاب الدين، ولن تلبث طويلاً حتى تفجر قنبلتها داخل البرلمان، لكي تدخل في صلب الصراع السياسي الدائر حالياً.
المستقبل