ويكيليكس: حروب “دويلة” ويكيليكس
فاضل الربيعي
قد يبدو أكثر من مجرد لغز، وأكثر من مجرد جرأة مهنية وسياسية كذلك، أن يقوم موقع إلكتروني بفضح مواقف وسياسات الولايات المتحدة الأميركية من شخصيات سياسية ودول وقوى وأحزاب في الشرق الأوسط وأوروبا، وأن يكشف آراء دبلوماسيي واشنطن وجنرالاتها في زعماء وحكومات صديقة وحليفة، بل وأن يتجرأ أيضاً على فضح العالم السري لدبلوماسية جمع المعلومات والتصنت التي تقوم بها السفارات الأميركية!
ما حدث أن الموقع الإلكتروني تصرف “كدويلة” تمكنت من الحصول بطريقة ما على “أسلحة مخيفة” وراحت تهدد باستخدامها دون تردد. ولذلك استشاط أصدقاء وحلفاء واشنطن غضباًً. رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان كان الأكثر غضبا حين وصف تصرف ويكيليكس “بالحقير” لأن بعض الوثائق تشير إلى رصيده الضخم في بنوك سويسرا، بينما قال مستشار لرئيس الوزراء الكندي إن على أوباما أن يرسل طائرة دون طيار لقتل مؤسس الموقع جوليان أسانج.
وفي العراق يقول وزير الخارجية هوشيار زيباري إنه قلق من احتمال أن يؤدي تسريب المعلومات إلى “تسميم” حالة العراق المسممة أصلا. وفي بقية أرجاء العالم، لا يزال هناك من يتأهب للرد بغضب إذا جاءت الموجة الثانية من الوثائق على ذكر اسمه.
فعلياً، سدّد الموقع ودون أن تصطك ُركب العاملين فيه، ضربتين قاسيتين بالتتابع: مرة للبنتاغون من خلال نشر وثائق عن غزو العراق وأفغانستان، ومرة أخرى لوزارة الخارجية من خلال نشر برقيات ووثائق ورسائل الكثير من الدبلوماسيين الأميركيين.
فهل موقع ويكيليكس (ويعني ويا للمصادفة: التسريبات) أكثر بكثير من مجرد موقع على شبكة الإنترنت؟
وهل هو أداة قاسية وموجعة في صراع خفي ميدانه الحقيقي العالم بأسره، لا الولايات المتحدة وحدها؟ لكن، هل يكمن اللغز حقاً في تسريب الوثائق أم في دور ووظيفة الموقع؟
السؤال الأخير جوهري للغاية، والإجابة عنه بدقة وموضوعية ودون أوهام قد تفتح الطريق أمام معرفة الكثير من الحقائق والخفايا التي تتعلق بمستقبل العالم، وشكل التغيرات المتوقعة على خرائطه وعلاقات دوله وصراعات ثقافاته، فما قام به ويكيليكس ليس بكل تأكيد مجرد نشر لفضائح ذات طبيعة أميركية خالصة تتعلق بسلوك جنرالات البنتاغون في العراق وأفغانستان، أو بسلوك وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي طالبها مؤسس الموقع بالاستقالة.
والأدق، أنه قام بفضح عالم سري متشابك المصالح، خارج العلم الأميركي، وهو ما يعني بوضوح أنه ينطوي على أبعاد ونتائج وتداعيات دولية -دبلوماسية وسياسية وأمنية- ستتخطى الولايات المتحدة.. إنه عمل استثنائي وفي صلب سياسة زعزعة العالم كله.
واليوم، يتشكل بفعل هذا التسريب شعور على مستوى العالم بوجود خطر اسمه ويكيليكس.. إنه خطر شبيه بخطر إعصار أهوج قد يضرب في كل مكان، أي أن هذا الخطر لم يعد أميركيا يخص الدولة الأعظم، وأن الآخرين -ربما كل الآخرين- قد يصبحون في عين الإعصار في أي لحظة. لقد بات يهدد مصالح وأسرار دول وحكومات وزعماء على مستوى العالم كله، ولا أحد بمنجى من ضرباته. فهل المسألة مسألة وثائق أم تتعلق بدور هذا الموقع ووظيفته الحقيقية؟
لقد بات سلوكه تعبيراً عن عمل شبيه بالفعل “بحرب مصغرة” نموذجية وبلا حدود، تشنها دويلة إلكترونية ميدانها العالم كله. والنتائج المترتبة على هذه الحروب الصغيرة، تكاد تتجسد في هدف واحد غير معلن، هو أن تؤدي إلى زعزعة تدريجية لنظام العلاقات الدولية القديم تمهيداً لاستبداله بنظام جديد يتلاءم ومصالح وإستراتيجيات القوة الأعظم.
لا أحد يعرف متى يصبح هذا الزعيم أو ذاك، هو أو حكومته أو بلده، طرفاً في هذه الحرب. فماذا يعني ذلك؟ ولماذا يجري تفكيك شفرة العالم السري للدولة الأعظم، وبحيث يهدد بحدوث زعزعة شاملة وغير مسبوقة للأسس التاريخية والتقليدية التي نشأ عليها هذا النظام منذ نهاية الحرب الباردة؟
ما يبدو لنا حروباً داخلية بين وكالة الاستخبارات الأميركية والبنتاغون ووزارة الخارجية تخاض بوسائل وأدوات مسيطراً عليها بإحكام، هو تعبير من تعبيرات عدّة عن إستراتيجية “الحروب الصغيرة” غير المكلفة لزعزعة العالم، وهي حروب خارجية يجري تنفيذها بواسطة دويلة إلكترونية أنشأتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية
لفحص وتحليل ردود الفعل، واختبار النتائج الأولية لهذا النوع من الزعزعة تمهيداً لمعرفة أعمق بطبيعة وحدود التغييرات التي ستحدث على مستوى العالم.
إن الصراع بين المجمّع العسكري الصناعي أي الجنرالات والعلماء، وبين وكالة الاستخبارات ووزارة الخارجية، ليس صراعاً خيالياً، بل هو صراع يستند إلى ركائز حقيقية تتصل بمسألة تغيير خرائط العالم. ومن قلب هذا الصراع تأتي الرجات الأولى لزلزال التغيير العالمي.
لقد “اخترعوا” دويلة افتراضية، لكنها قادرة على الهجوم متى تشاء وأين تشاء وضد من تشاء. ولذا فهي تشن حروبها العلنية عبر إعلانات حرب واضحة وصريحة، ولكن ضرباتها المعلوماتية تبدو محسوبة بدقة، فهي من نوع لا يؤدي -في هذه اللحظة فقط- إلى أضرار حقيقية في بنية النظام العالمي للعلاقات السياسية، بمقدار ما يجب أن يؤدي مع استمرار التسريبات إلى نشر الهلع على مستوى العالم من خطر سلاح مخيف اسمه المعلومات السرية.
ومن الواضح أن التسريبات الجديدة جاءت لتمس الصميم وعلى وجه التحديد وزارة الخارجية وأطقمها الدبلوماسية في أوروبا والشرق الأوسط. وهذه نقلة مأساوية مثيرة وحساسة في شكل الصراع، يجري فيها شبك الفضائح الداخلية بالفضائح الخارجية، ويصبح بموجبها حلفاء وشركاء وأصدقاء موضع شبهة، مثلما تصبح أسرارهم وخدماتهم مادة فضائحية.
وللتدليل على أن حرب المعلومات السرية هذه محسوبة بدقة، فإن كل ما سرّبه الموقع حتى الآن وعبر نحو ربع مليون وثيقة، لا يساوي ثمن الضجيج. وهذا يؤكد أيضا أن الموجات الأولى من التسريب ذات طبيعة تحذيرية غرضها نشر الخوف من “عدوان دويلة ويكيليكس”، وأن موجات أخرى متتابعة قد تكون أشد ضرراً.
ماذا نفهم ممّا تسرّب؟ إليكم بعض أهم ما قالته الوثائق مثلاً، إن إياد السامرائي رئيس البرلمان العراقي ونائب الأمين العام للحزب الإسلامي في العراق قام بزيارات سرية لطهران، وأنه على صلة من نوع ما مع قاسم سليماني رجل المخابرات الإيرانية القوي.. ما أهمية هذا الاكتشاف العظيم وما قيمته فعليا؟ لا شيء.
أما ساركوزي الرئيس الفرنسي فهو شخص فظ، بينما يبدو وزير الخارجية الألماني غير بناء في نقده للسياسة الأميركية، لكن مبارك الرئيس المصري هو من نصح ديك تشيني نائب الرئيس بوش بعدم غزو العراق، كما أن ملك البحرين لا يزال قلقا من البرنامج النووي الإيراني.
ومع هذا، وبرغم أن المعلومات تبدو غير ذات قيمة فقد ساد هلع في العالم كله, وهذا يعني أن دويلة ويكيليكس الافتراضية تمكنت من المساهمة بقوة في “صناعة الخوف”، فارتعدت فرائص واصطكت ركب في كل مكان.
المسألة المركزية في هذا الصراع تدور حول طرق زعزعة العالم. ولم يعد سرا أن أهم فصول هذا الصراع تدور حول أدوات ووسائل السيطرة. ولذلك يدور نقاش حقيقي في الأوساط العسكرية والأكاديمية حول ظروف تحول الولايات المتحدة إلى دولة فاشية، وهناك من يرتئي أن العقيدة الفاشية هي العقيدة الوحيدة التي تناسب القوة الأعظم (وأن التاريخ البشري أخطأ حين وضع هذه العقيدة في يد دولة مثل إيطاليا بدلاً من وضعها في يد الولايات المتحدة).
يقترح مايكل ليدين الموظف في
American Enterprise Institute ومؤلف كتاب “الفاشية العالمية” أن تتحول الولايات المتحدة رسمياً إلى دولة فاشية، وهو لا يتردد في اكتشاف مزايا هذا التحول، ويدعو في دراساته الموسعة إلى تأسيس حركة فاشية جديدة على مستوى كوني، وفقط من أجل تحرير العالم من الأفكار القديمة. وهذا ما يدعو إليه مارفن أولاسكي مؤلف كتاب “حرب باردة للقرن الحادي والعشرين” والذي يقترح أن تضرب واشنطن عرض الحائط بمعاهدة ستارت، وأن تعود إلى سباق تسلح جديد لفرض التغيير في العالم.
وهذا هو بالضبط مغزى تحذير الرئيس الروسي ميدفيديف -بعد 24 ساعة فقط من نشر وثائق ويكيليكس- من خطر العودة إلى سباق التسلح في حال فشل خيار التقارب مع الغرب، وهو ذاته ما حذر منه رئيس الوزراء بوتين الذي هدد بنشر قوة ضاربة لحماية مصالح روسيا.
أما في أوروبا، فمن غير شك أن باريس وبرلين وروما باتت جميعاً تدرك أن تغيير العالم قد يبدأ من أوروبا وليس من الشرق الأوسط، فواشنطن تطرح أمامهم خيار القبول بوجود غرب واحد لا غربيْن. وهذه بالضبط هي إستراتيجية دمج الغرب الأوروبي بالغرب الأميركي، أي إلحاق أوروبا بالسياسة الأميركية نهائياً.
إن نظرية “الغرب الواحد” بجوهرها الفاشي تقوم على فرضية أن انقسام الغرب جغرافياً على ضفتي الأطلسي، خلق -بسبب نتائج الحرب العالمية الثانية- حقائق سياسية لا ينبغي الاستمرار في قبولها، فأوروبا تسعى إلى تمييز نفسها عن الغرب الأميركي بانتهاج سياسة أكثر استقلالية، وهو ما فشلت فيه حتى اللحظة.
ولنتذكر أن شعار الرئيس الفرنسي الراحل ديغول، القائل بخلق عالم أوراسي جديد تتشابك فيه مصالح أوروبا مع روسيا، أصبح اليوم من ذكريات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان طموح أوروبا المتحررة من النازية أن تخلق فضاء اقتصادياً وسياسياً يساهم في وجودها كقوة مستقلة، لكنها تجد نفسها اليوم في قلب خطر “دمجها” بفضاء الغرب الأميركي. لم تعد أوروبا مستقلة رغم نجاحها في بناء الاتحاد الأوروبي، وزعماؤها يشعرون اليوم -تماماً كما يشعر زعماء وقادة الشرق الأوسط- بقوة ضغط السياسات الأميركية.
ولعل لغز الطرود الملغمة القادمة من اليمن واليونان إلى قلب أوروبا، والتدابير فائقة الحساسية التي اتخذتها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا لمواجهة هجمات إرهابية محتملة، ونشر الفزع الشامل في مجتمعات أوروبا كلها من هجمات القاعدة، هي الجزء المرئي والمكشوف وحسب من صناعة الخوف على مستوى كوني.
العالم كله لا الشرق الأوسط يعيش خلال هذه الأوقات في قلب زلزال قد يغير وجه العالم، وليست التغيّرات المناخية والكوارث الطبيعية فيه سوى إشاراته التحذيرية وحسب. إن الذعر العالمي من “معلومات ويكيليكس”، والخوف من الكوارث الطبيعية القادمة، والفزع من ضربات القاعدة، هي الأعمدة الكبرى التي تقوم عليها صناعة الخوف الجديدة.
ما فعله موقع ويكيليكس شبيه بما فعله الطفل في حكاية الإمبراطور الروماني أثناء الاحتفالات، حين هتف صارخاً: إن الإمبراطور عار. صحيح أن “طفل ويكيليكس” يصرخ الآن أمامنا ويجاهر بالحقيقة عن عري الإمبراطور، ولكن الصحيح كذلك أنه يزعق قائلا إن العالم كله، الحاشية والضيوف، الأصدقاء والحلفاء، جميعاً لا يرتدون الثياب.
ليس الإمبراطور وحده منْ يبدو عارياً أمامنا، ولكن العالم كله يبدو عاريا أيضا، وهو يحث الخطى نحو عصر التغيير الشامل في خرائطه ودوله وثقافاته. انتظروا الرجّات الزلزالية القادمة قبل أن تحكموا على صدقية حكايات ويكيليكس.
الجزيرة نت