ويكيليكس: الدول والأسرار والأمن… بعد جوليان أسانج
ياسين الحاج صالح
شرط إمكان الحرج الذي لحق بدول كثيرة نتيجة تسريبات موقع ويكيليكس هو الديبلوماسية السرية التي تلتزم بمبدئها دول العالم المعاصرة كلها، من ألفها ليائها. لدى الدول كلها ما تخفيه عن بعضها، وعن مواطنيها. ربما عن الأخيرين أكثر. النخب السياسة في العالم قد تتصارح في بعض شؤونها، وقد تتبادل أسراراً في ما بينها، لكنها لا تفعل الشيء ذاته أمام محكوميها. هذا ينطبق أكثر على ما تسرب بخصوص دول عربية. تبلغ شفافيتها أمام الأميركيين حدود الابتذال وتتعداها، بينما هي كتيمة كل الكتامة أمام المحكومين.
أميركياً وغربياً، تمثل رد الفعل الغالب في توبيخ الأميركيين على تهاونهم في حماية وثائقهم السرية، وفي دعوتهم إلى التشدد في ضمان سرية هذه الوثائق، بينما مضت جهات يمينية أميركية إلى حد اقتراح تصفية جوليان أسانج، صاحب الموقع. لم ترتفع في المقابل أصوات تدعو إلى طي أزمنة الديبلوماسية السرية، ووجوب إتاحة المعلومات لجميع الناس في كوكب يزداد ترابطاً. كانت دعوات كهذه مميزة للحركات اليسارية والديموقراطية في الغرب في وقت مضى. وقد نذكر أن من أول ما فعلته الحكومة البلشفية بعد ثورة 1917 في روسيا هو كشف المعاهدات السرية للدول الأمبريالية، ومن بينها روسيا القيصرية. وكان من بين ما كشف اتفاقية سايكس بيكو لتقاسم المشرق العربي بين البريطانيين والفرنسيين (والروس). غير أن روسيا السوفياتية تحولت بعد حين وجيز إلى واحدة من الدول الأكثر سرية وانغلاقاً حيال رعاياها كما حيال العالم الخارجي. واليوم يبدو أن الدول كلها، أكثر سرية وكتامة عما كانته من قبل، وأقل تعرضاً للرقابة من الجمهور العام. ولا يبدو أن السرية هذه إجرائية، كتمانٌ يستعان به تيسيراً لقضاء الحاجات أو اجتناباً لأخطار مرجحة.
إنها سرية مبدئية، تنبع من مفهوم السياسة الخاص بالدولة القومية الحديثة، بوصفها (السياسة) جهداً لتعظيم القوة الذاتية وحماية المصلحة القومية (الأنانية جوهرياً)، وما تقتضيه من إضعاف الخصوم وإبقائهم مكشوفين أمامنا. أي أن أصل السرية هو الطابع التنافسي الشديد للسياسة المعاصرة، وللبيئة الدولية المعاصرة. نظرية المؤامرة تنشأ في هذا العالم السياسي. إنها الظل الذي لا يفارقه. الدول بما هي ذلك لا تكف عن التآمر، على سكانها أولاً، وعلى بعضها ثانياً. نظرية المؤامرة تحول هذا الواقع الحقيقي إلى رواية خيالية.
تتناقض سرية الدولة، حيال مواطنيها بخاصة، مع مفهوم الدولة ذاته بوصفها المقر المفترض لما هو عام وعلني في مجتمعها. ولكن لعل اضطراد السرية هذه، وشمولها الدول كلها دون استثناء واحد، يشكك في صلاحية هذا المفهوم، ويتوافق مع مفهوم أكثر صراعية وجزئية للدولة، وأقرب إلى التصور الماركسي لها. لا نريد من ذلك أن الدول سواء في هذا الشأن، وأنه ما دامت الشفافية المطلقة غير محققة لأية دولة، فإن كل الشفافيات النسبية متساوية (وهو ضرب من المحاكمة شائع عربياً).
هذا غير صحيح. لكن غير صحيح بالمثل أن هناك دولاً تصلح معياراً عالمياً للشفافية. المعيار غير محقق في أي مكان، فإذا كنا نتطلع إلى عالم أكثر شفافية، فهذا يوجب المثابرة على إدانة السرية والدفاع عن العلنية وممارستها، بطريقة أسانج أو غيرها، وليس الدفاع عن هذه الدولة أو تلك الكتلة الدولية الأكثر علنية من غيرها (هذه المحاكمة المعاكسة لسابقتها شائعة عربياً أيضاً). دول العالم ليست مثل بعضها، ولكن ليست بينها دول مثالية. هذه النقطة مهمة لاعتبار نظري: عالمنا مترابط، ولا توجد مناطق إنارتها وعتمتها منفصلتان عن بعضهما، بل لعل «إعادة إنتاج» الشفافية فيه هناك موصولة بدرجة ما مع إعادة إنتاج الكتامة والسرية هنا. هذا على كل حال هو معنى الكلام على عالم واحد مترابط. وهي مهمة بعدُ لاعتبار عملي: نتشكك في جدوى العمل من أجل الانفتاح محلياً ضمن عالم منتهٍ أو مغلق.
في بريطانيا يجرى الكشف عن بعض وثائق الدولة السرية بعد ربع قرن، وعن بعض آخر منها بعد زمن أطول، ويترك تقدير ذلك للحكومات. وفي أميركا تكشف الوثائق المماثلة بعد 35 سنة. الفضل في ذلك لتاريخ من الكفاح الديموقراطي استقر بمحصلته على أن الأصل في المعلومات هو العلانية، وأن تكون مكشوفة ومتاحة للجميع، وجعل نفاذ جميع السكان إلى كل المعلومات التي تؤثر على حياتهم بصورة ما حقاً أساسياً.
لم تكفّ النخب الحاكمة في الغرب يوماً عن محاولة الالتفاف على هذا الحق، ولقد كانت ناجحة في الغالب بفضل الذريعة الذهبية الخاصة بالأمن القومي. لكن من يضمن أن حجب بعض المعلومات بذريعة الأمن القومي لن ينقلب إلى اصطناع الأخطار القومية من أجل حجب أكثر المعلومات، ومن ثم التلاعب بالسكان؟ ليس هذا احتمالاً بعيداً. هو ممارسة مبتذلة في بلادنا بالذات. لكنها ليست فريدة في هذا الباب. معظم الحكومات عموماً أخبث بكثير من إبليس. وهي لا تصلح قليلاً إلا مضطرة، وبفعل جهود إصلاحية يقوم بها عدد أكبر من أناس أصلح في ظروف مخصوصة. فإن استرخى هؤلاء أو خفت رقابتهم لم تتأخر الدول عن الفساد والخبث. أما الحكم الصالح كلياً ونهائياً فغير موجود إلا كطوبى، يمكنها أن تلهم كفاحاً تحررياً متجدداً، أو تستولي عليها سلطات ونخب لتسويغ هيمنتها وتسلطها على ما شهد القرن العشرون.
في بلداننا لا تكشف الحكومات الوثائق السرية أبداً، ولا تقدم كشف حساب لأحد (اللهم إلا لناخبيها الحقيقيين، في المركز). هذا لأنها مهما طالت بها «الدولة»، تشعر في أعماقها أنها عابرة، وأن «مواطنيها» المفترضين هم الأعداء الذين يجب مراقبتهم والتحكم بهم وتفريقهم وحجب المعلومات عنهم، مع إبقائهم هم مكشوفين تماماً، شفافين تماماً، مرئيين من داخلهم وخارجهم، ومحرومين من الخصوصية والأسرار. الدولة في بلداننا هي المنظمة الأشد سرية (والأكثر تطرفاً عنفاً وفئوية). فماذا لو انكشفت أسرارها، والأرجح أن بعضها أسرار أساسية، تتصل بقيام الدول وأمنها ودوامها، وليست مجرد أسرار سياسية تتصل بكيفية الحكم. ماذا لو وقع ذلك؟ من المحتمل جداً أننا «سنضحك… سنضحك كثيراً»، وفق عنوان قصة لزكريا تامر. لكنه ضَحِكٌ كالبُكاء!
الحياة