كلمة السر السورية: التعددية الاستراتيجية
سركيس أبو زيد
لا شك أن سورية عرفت ضغوطا كبيرة جدا وهجوما وعزلة غير مسبوقين خلال السنوات الخمس الأخيرة، أي منذ أعلنت واشنطن «الحرب الدبلوماسية» عليها وكانت شراراتها اجبار الجيش السوري على الخروج من لبنان بعد 30 عاما. وقد تعرضت للضغوط والعقوبات الاقتصادية، وقاطعتها أوروبا والدول العربية الحليفة لواشنطن، وتلقت سهاما مؤذية جدا من الداخل اللبناني على يد قوى 14 آذار بتهمة التدخل في لبنان ومحاولات فرض الوصاية.
فجأة، تم توقيع اتفاق الدوحة، وفك الحصار الدبلوماسي عن سورية، وبدأ الغزل بين اوروبا وتحديدا باريس وبين دمشق، وتوجه السوريون الى طاولة المفاوضات برفقة تل أبيب ولو بدأت بطريقة غير مباشرة.
فما الذي حدث؟ وكيف استطاعت سورية مواجهة هذه الضغوطات الكبيرة طيلة سنوات؟ وكيف خرجت منها سالمة؟ ببساطة، كلمة السر السورية هي «التعددية الاستراتيجية»، أي تعدد الاستراتيجيات التي تستخدمها دمشق لـ «تنفيس» الضغوط والتخلص منها وايجاد عدة جبهات للدعم والمساعدة حين تجد نفسها محرجة ومحاصرة.
سورية تلتزم بالتضامن العربي
من المعروف ان سورية دعت دائما الى التضامن العربي قبل وبعد ترؤسها الجامعة العربية، وقد حاولت دائما المحافظة على علاقات طيبة ومتينة بباقي الدول العربية وعلى الحد الادنى من العلاقات مع الرياض، وسعت الى تجنب الأزمات حين حاول بعض العرب محاربتها بعدم حضور القمة العربية، بل أصرت على انعقاد القمة واطلقت عليها اسم «قمة التضامن العربي». ولعل جولة الرئيس بشار الأسد الخليجية هي خير دليل على حرص سورية على التضامن العربي.
…وتدعم قوى الممانعة والمقاومة
كذلك لا يخفى على احد الدعم السوري لكل قوى المقاومة والممانعة في الشرق الأوسط من حزب الله في لبنان الى حماس في فلسطين (واحتضان قادة حماس والجهاد في دمشق) والمقاومة العراقية في العراق. وقد أثبتت سورية هذا الدعم في جلسات مجلس الأمن الدولي خلال حرب تموز وخلال حصار غزة، ورفضت توجيه اللوم للمقاومة في بيان القمة العربية التي انعقدت بعد حرب تموز.
وهنا لا بد من الاشارة الى العلاقات المميزة والمتينة، بل الحلف الاستراتيجي الذي يجمع سورية وايران والذي يحرص البلدان على التأكيد عليه، ولا حاجة للاستفاضة في الحديث عن التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي وكافة المجالات الاخرى بين كل من طهران ودمشق، ما دفع بواشنطن وعرب الاعتدال الى وضع الخطط لمحاولة فك ارتباط سورية بايران وابعادها عما تسميه «الحضن الايراني» واعادتها الى الحضن العربي المعتدل.
…وتفتح بواباتها مع الغرب
يبدو ان اتفاق الدوحة فتح صفحة جديدة بين سورية والدول الاوروبية، وان سورية في طريقها الى الخروج من شبه العزلة الدولية التي عانتها في السنوات الماضية وذلك نتيجة تطورين:
– الأول يتعلق بالمفاوضات الجدية غير المباشرة التي باشرتها مع اسرائيل، مع ما يعنيه ذلك من انخراط في مسار التسوية مجددا بعد ان توقفت على أثر مؤتمر مدريد ووديعة رابين.
– الثاني يتعلق بدورها المساعد في تسهيل واتمام عملية انتخاب رئيس جديد للبنان.
ومن المتوقع أن يبدأ الانفراج الأوروبي باتجاه سورية خاصة فرنسا التي ميزت موقفها عن الموقف الأميركي تجاه الأزمة السياسية والأمنية الأخيرة في لبنان، ما يوحي أن تحسناً قد يطرأ على العلاقات الفرنسية – السورية قريباً، وخصوصاً مع بدء نضج فكرة الاتحاد المتوسطي التي تروج لها فرنسا، والتي دعي الرئيس بشار الأسد الى حضور القمة التي ستنعقد حولها في باريس في الثالث عشر من تموز هذا العام.
كذلك وفي خطوة تؤشر لاعادة قنوات الاتصال بين باريس ودمشق بعد أيام من انتخاب الرئيس ميشال سليمان، أجرى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي اتصالا بالرئيس السوري بشار الاسد، وهو الاتصال الأول من نوعه بعدما قرر ساركوزي وقف الاتصالات مع الاسد.
ولعل باريس تجد مصلحة اليوم في تطبيع العلاقة مع سورية من أجل العودة الى الساحة اللبنانية من جهة، وسعيا الى تسهيل انجاح القمة الاورو – متوسطية من جهة أخرى. وفي هذا المجال يرى ساركوزي ان مشاركة دمشق وتحديدا الاسد في هذا المؤتمر ضرورية لانجاح مشروعه. لذلك فإن العلاقات بين باريس ودمشق ستأخذ مسارا جديدا عبر الاتصالات وخصوصا طوال الفترة الفاصلة عن موعد المؤتمر، وخصوصا ان «اللغم» الكبير الذي يعقد هذا الانجاز هو العلاقات السورية – الاسرائيلية، وطالما المفاوضات قد تقدمت وتتقدم، فإن التحفظ السوري سيتراجع. وبذلك فإن «الاتحاد المتوسطي» يمكن ان يتحقق مستقبلا. ولعل آخر وأبرز مؤشر على الغزل الباريسي الدمشقي هو الترتيبات التي يقوم بها موفد فرنسي في دمشق للتحضير للقاء الرئيس ساركوزي بالرئيس الأسد.
كذلك يمكن استطلاع مستقبل العلاقات بين البلدين عبر مؤشرات منها تعيين سفير سوري جديد في باريس حيث شغر المنصب منذ مغادرة السفيرة صبا ناصر العاصمة الفرنسية قبل أكثر من عامين.
وفيما يبدو استئنافا للنشاط الدبلوماسي الاوروبي في اتجاه دمشق، أعرب وزير خارجية اسبانيا ميغل أنخيل
موراتينوس والمنسق الأعلى للسياسة الخارجية الاوروبية في الاتحاد الاوروبي خافيير سولانا عن ارتياحهما لمسعى استئناف المحادثات على المسار السوري- الاسرائيلي، وذلك خلال اتصالهما مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم. ونوها بـ«التوافق الذي تم التوصل اليه بين الأطراف اللبنانيين في الدوحة»، وعبرا عن تقديرهما للدور البناء الذي قامت به سورية في هذا المجال. وهذه الاتصالات توحي ببساطة ووضوح الى انفتاح البوابة الأوروبية امام دمشق مجددا بعد أن أغلقت لسنوات.
…وتنفتح على واشنطن
ومع اقتراب نهاية ولاية الرئيس جورج بوش، يجري الحديث في الكواليس عن سياسة جديدة لواشنطن وحلفائها، تقول بضرورة استدراج سورية وابعادها عن ايران، بواسطة عناصر الضغط الكبيرة التي يمتلكها المجتمع الدولي في وجه دمشق، من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، الى دفع المجتمع الدولي لاصدار عقوبات قاسية على سورية وابعاد اموال المستثمرين، خصوصا الخليجيين منهم عن دمشق. وبدأت واشنطن بتطبيق هذه السياسة بالاتفاق مع الحلفاء العرب، فتمهلت في اندفاعتها نحو معاقبة سورية وعزلها، وتجلى ذلك في تباطؤ دولي هائل في تشكيل المحكمة الدولية وتجاهل واشنطن لما دعي بـ«الملف النووي السوري».
ويبدو ان واشنطن اكثر رضى على سلوك دمشق، اذ تعتبر ان الاشارات الآتية من دمشق تدل على تجاوب سوري اولي خصوصا في الموضوع اللبناني.
ويبدو أن باراك أوباما ،أوفر المرشحين حظا للوصول الى البيت الأبيض، سيتبنى سياسية «الحوار والانفتاح» على كل من طهران ودمشق، كما يؤكد مستشاروه.
…وتفاوض إسرائيل
لا شك ان الاعلان الذي بادرت اليه اسرائيل وأكدته سورية عن استئناف المفاوضات السورية- الاسرائيلية في تركيا وبوساطة منها شكل مفاجأة سياسية من حيث الظرف المحيط بها، كون هذه المفاوضات تنطلق من جديد في وقت التركيز الاميركي جارٍ على المسار الفلسطيني، والمصير السياسي لرئيس الحكومة الاسرائيلية معلق على ملفات الفساد والتحقيقات القضائية، وهو ليس في الوضع الجيد الذي يتيح له موقعا تفاوضيا مريحا. لكن المفاجأة الأكبر كانت الانقلاب الذي أحدثته في المواقف الغربية لا سيما الأميركية تجاه سورية، اذ لم يعد يسمع سبابا ولا هجوما على دمشق وتحديدا من الرئيس جورج بوش شخصيا.
وتقول اوساط سياسية في القدس إن المفاوضين باتوا يعرفون بعضهم البعض جيدا. وأكدت ان المفاوضين الاسرائيليين يعملون بقيادة المستشار السياسي لرئيس الوزراء شالوم تورجمان، ورئيس طاقم الموظفين في رئاسة الحكومة يورام طوربوبتش. أما المفاوضون السوريون فيعملون تحت قيادة المستشار الخاص لوزير الخارجية السوري رياض داوودي.
ومن الواضح ان الجانبين السوري والاسرائيلي اتفقا خلال المحادثات المتنقلة بين الغرف بواسطة الأتراك على تحديد اطار للمفاوضات المستقبلية يتضمن بنود الخلاف الأربعة، وهي الحدود والترتيبات الأمنية والمياه والتطبيع. واذ أفادت القناة بأنه تم تشكيل أربع لجان للبحث في هذه المواضيع، أشارت الى ان المفاوضات ستجري على قاعدة عدم وجود شروط مسبقة.
في الواقع، سواء وصلت المفاوضات السورية – الاسرائيلية الى نتائج سريعة ام لم تصل، فانها ولا شك، كانت بوابة دمشق نحو اعادة تشكيل علاقاتها بالغرب وعرب الاعتدال. وهذه المفاوضات هي ترجمة للخيار السوري بايجاد حل شامل وعادل وفق القرارات الدولية والتي انطلقت في مدريد وتوقفت بعد اغتيال رابين.
و«تحسن الجوار» مع تركيا
لعقود تميزت العلاقات السورية – التركية بالتوتر، اذ كانت تركيا بوابة التهديد الأميركي الاسرائيلي لطموحات الرئيس الراحل حافظ الأسد والعصا التي يهول بها الغرب كلما عصى مخططاته. أما الرئيس بشار الأسد فقد نجح في تحويل حالة التوتر الى صداقة وحسن جوار، وما زالت هذه العلاقات مستمرة تشهد تطورا ملحوظا لا سيما مع تبني تركيا الوساطة بين اسرائيل وسورية. ومن أبرز معالم هذه العلاقة، لجان التنسيق المشتركة على كافة الصعد السياسية والاقتصادية، والمنطقة الحرة على حدود البلدين، والتبادل الاقتصادي المتنامي.
كذلك لا بد من الاشارة الى العلاقات المتينة التي تجمع سورية بكل من الصين وروسيا والتبادل الاقتصادي والعسكري الذي لم ينقطع حتى في اوج العزلة السورية.
…وتتسلح
بالترافق مع المفاوضات والانفتاح على الغرب واسرائيل، تحرص سورية على عدم اهمال الجانب العسكري والاهتمام بالتسلح وتطوير ترسانتها العسكرية، وهو الامر الذي يثير قلق اسرائيل بشكل كبير ويدفعها لمتابعة هذا الملف بدقة.
فقد قالت مصادر أمنية إسرائيلية إن سورية أبرمت بالأحرف الأولى ما يمكن اعتباره « أكبر صفقة سلاح في تاريخ الجيش السوري منذ تأسيسه»، اذ كان وفد عسكري سوري عالي المستوى برئاسة اللواء أحمد راتب زار موسكو لاستلام دفعة أخرى من 36 بطارية صواريخ « بانتسر 1» المضادة للطائرات كانت روسيا وافقت على بيعها إلى سورية العام الماضي، في الوقت نفسه تقريبا الذي بدأ فيه وزير الدفاع السوري حسن توركماني زيارة لطهران، والذي استقبله خلالها الرئيس أحمدي نجاد.
وبحسب المصادر الأمنية الإسرائيلية فإن الصفقة، التي تبلغ قيمتها خمسة مليارات دولار، تتضمن استبدال حوالي ثمانين بالمئة من معدات الجيش السوري في سلاح المدرعات والقوى الجوية والبحرية والمشاة الميكانيكية المحمولة التي بدأ الجيش السوري يعطيها أولوية غير مسبوقة بعد دراسته نتائج حرب تموز / يوليو 2006 ضد لبنان. وقالت هذه المصادر إن الصفقة تتضمن صواريخ أرض ـ أرض من طراز « اسكندر ـ ي» المخصصة لضرب الأهداف والمنشآت الآرضية ، والتي يبلغ مداها حوالي 300 كم ، وتتمتع بقدر كبير من الدقة يصل إلى حدود 20 مترا من الهدف، فضلا عن 50 طائرة من طراز ميغ 29 متعددة المهام ( قاذفة ـ مقاتلة ـ اعتراضية ) التي تستطيع تنفيذ مهام على بعد 3700 كم دون التزود بالوقود، وحوالي 7000 كم بعد تزويدها بالوقود جوا. وفسر خبراء إسرائيليون حرص سورية على اقتناء هذا النوع من الطائرات ليس بسبب تقدمها الكبير فقط، ولكن لإمكانية وضعها في قواعد بعيدة عن خطوط المواجهة ( شمال وشمال شرق سورية مثلا ) . كما وتتضمن الصفقة غواصتين من طراز «آمور1650» في بندها البحري ، و75طائرة من طراز « ياك ـ 130» في بندها الجوي، وهي احدث طائرة روسية للتدريب، فضلا عن إمكانية استخدامها قتاليا في بعض المهام الخاصة، لاسيما ضد الآليات والخنادق والمشاة. وتتضمن الصفقة أيضا معدات وأجهزة بصرية متقدمة جدا للقتال الليلي، وصواريخ مضادة للدروع من أجيال «كورنيت» الأكثر حداثة.
وطبقا لما تقوله المصادر الأمنية الإسرائيلية، فإن زيارة وزير الدفاع السوري حسن توركماني إلى إيران بالتزامن مع زيارة الوفد العسكري إلى موسكو « تهدف إلى وضع اللمسات الأخيرة على عملية التمويل التي ستقوم بها إيران وطريقة تسديدها من الفوائض النفطية التي حصلت عليها إيران بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار النفط». وفسرت المصادر الإسرائيلية تزامن هذه الصفقة مع الإعلان عن المفاوضات مع إسرائيل، بحيث بدا الأمر وكأن سورية ذاهبة إلى الحرب وليس إلى السلام، بأنه تعبير عن «النية بالتفاوض من موقع القوة، وتأكيد على عمق العلاقة بإيران التي قررت تمويل الصفقة رغم هذه المفاوضات». لكن المصادر الإسرائيلية حرصت على التذكير بأن مسألة الحرب تتعلق بالقرار والإرادة السياسية أولا وأخيرا، وهذا غير وارد بالنسبة للنظام السوري في هذه اللحظة السياسية بالذات.
في الواقع، بعد ان أخرجت سورية نفسها من مأزق العزلة والنبذ، باتت تسعى الى تبني خطة ورؤية سياسية بعنوان «التعددية الاستراتيجية» وهي باختصار:
-تحالف استراتيجي مع ايران وقوى الممانعة والمقاومة
-تضامن عربي رغم الصعوبات وأفخاخ المحاور والتجاذبات
-حسن جوار مع تركيا وصداقات دولية مع روسيا والصين
-مفاوضات السلحفاة مع اسرائيل
-بناء القوة العسكرية الذاتية والاهتمام بالتسلح واعداد النفس
هذه الاستراتيجية التي تشبه بناية واحدة بطوابق متعددة، هدفها تحقيق التكامل بين سياساتها المتعددة والاستفادة من كل هذه الجبهات لتحقيق مصالحها. لكن هل يمكن للتطورات الاقليمية و«التفاصيل الشيطانية» ان توقعها في التناقض؟ وهل يمكن ان تغضب الحليف في سبيل المفاوضات؟ وهل تنجح دمشق في التوفيق بين سياساتها المختلفة والمتساندة حتى تحقق مصالحها ومصالح حلفائها، أم تقع في فخ التناقض؟
رهان الدمشقي على الوقت والحنكة، فهو يعرف السر ويعرف متى يكشفه.
كاتب من لبنان