لبنان: الوضع الراهن يناسب أميركا وسوريا وإيران
هدى الحسيني
كشف التهديد بـ«الحرب الاهلية» في النهار، والتراجع عنه في الليل، والذي جاء بعدما تفاخر البعض بأنه «وطني» واتهم الآخرين بـ«الخيانة والعمالة»، ان عض الاصابع بين المتناحرين السياسيين في لبنان انتهى من مرحلة عض الاطراف، ووصل الى الرؤوس، وان اي طرف لن يقدم تنازلاً للآخر حتى لو مادت ارض الوطن من تحتهم جميعاً وتحولت اشلاء.
ان العاصفة التي تعبر لبنان تكاد ان تلتهم مجدداً الاخضر واليابس لأن الشكوك متبادلة بين الاطراف جميعاً، ولا ثقة مطلقاً بينهم وتنقص كل منهم الصراحة في التعبير الواضح عن مخاوفه وعن اهدافه.
لبنان، بعد حرب اهلية لم تنته حتى الآن، وبعد احتلال سوري سمّاه اللبنانيون وصاية، في حاجة ماسة الى عملية تغيير دم، والى تغيير كامل في العقلية، وفي التربة، وفي النظام.
اعتاد الاهل في لبنان في السابق، على ارسال اولادهم في رحلات الى المناطق اللبنانية، كان هؤلاء يستقلون بوسطة قديمة مهترئة، ودائماً في طريق العودة، يكون السائق سكراناً والطلاب يصفقون ويغنون له: «يا شوفير ادعس بنزين عالماية وتسعة وتسعين»، وكان بعض البوسطات يتدهور.
البوسطة اليوم هي لبنان، واللبنانيون محظوظون اذا لم يموتوا بانفجار، والفضل لا يعود للسائق، فالسائق اليوم سائقون/ سياسيون والجميع سكارى كل على طريقته، وليس بينهم الواعي القادر على طمأنة الآخرين.
عدم الثقة والخوف تدفع بالسياسيين الى التصعيد في تهديداتهم بسبب قناعات قد تكون صحيحة وقد لا تكون. فالزعيم الدرزي وليد جنبلاط، حتى عندما كان على أفضل علاقات مع الشيعة، مقتنع بأنهم يريدون انهاءه، وهو في تصريحاته المفاجئة يُكرس شعور الضعيف (الاقلية الصغيرة) المتاخم لنمو سكاني هائل(شيعي) يحيط ويتمدد نحو منطقته الذي هو اميرها منذ اكثر من 700 سنة، لذلك تراه احياناً يتحدث وينتقد شراء الاراضي من قبل متمولين شيعة بسبب قناعته ان خطتهم تقسيم المنطقة الدرزية وقطع الامتداد من الشوف في الجبل الى حاصبيا في الجنوب.
في المقابل، لدى «حزب الله» قناعة باحتمال ان يتعرض في الربيع لهجوم من اسرائيل او من اميركا. ولوحظ ان تصعيد فريق «14 آذار» جاء في وقت الساحة الدولية فيه ليست حامية، ربما اعتقد هذا الفريق انه هدوء يسبق التسوية، واعتقد فريق «حزب الله» ان الهدوء الدولي هو لفتح المجال امام فريق «14 آذار» للتصرف.
اسئلة كثيرة مطروحة تبحث عن اجوبة مقنعة، فهل ان وليد جنبلاط خاف من تحركات اقليمية قبل القمة العربية، وهل ان «حزب الله» كان قد بلغه شيئا عن التحركات الاقليمية، ففوجئ بتصعيد «14 آذار»؟ الاجوبة غير مهمة، ذلك ان اللاعبين المحليين لا يثقون ببعضهم، وصاروا يتصرفون على اساس ان لبنان لم يعد يتسع لهم جميعاً، وهذا هو الامر الخطير.
هناك مشكلة في لبنان اسمها سلاح «حزب الله»، المقربون من الحزب يتساءلون: «ما الذي يضمن لـ«حزب الله» في حال سلم سلاحه، وهو الموضوع على قائمة الارهاب في اميركا، بأن قسماً من قادته لن يصبح في غوانتانامو؟ ثم انه مقابل سلاحه يريد حصة كبيرة في النظام اللبناني، هو يشعر بأنه يشكل الثلث واقوى من كل الاطراف ولا من طرف يستطيع اعطاءه ما يريده، لأن كل طرف يشعر بأن حصته قليلة، فالصراع الآن على مقدرات الحياة في لبنان.
كاد الدعم الدولي ان يغرق في رمال لبنان المتحركة لأن لبنان مجتمع منقسم، والعالم مضطر الى التعامل مع انقسام داخلي يزداد عمقاً وتجذراً. وليس صحيحاً ان الاطراف في هذا المجتمع هم عملاء للخارج، داخل لبنان صراع على السلطة بين كل الاطراف، ولدى كل طرف قناعة بأن الآخر يتآمر على تدميره وإنهائه، وبسبب ذلك تحول الصراع الى صراع وجود بين شعب واحد.
وكي لا يتحول الصراع الى صراع مذهبي سني ـ شيعي، بدأ بعض المعلقين يوجه الانظار الى ان فريق «14 آذار» يريد ان يحرق لبنان من اجل بكركي. هذا التحريض اقلق البعض من احتمال تنفيس التشنج بدفع المسيحيين في لبنان الى الحسم في ما بينهم بشكل او بآخر ليبرز زعيم واحد، ويلي ذلك مواصلة اضعاف ما هو ضعيف ومهتز، اي الاجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية، فتتم لعبة تفكيك لبنان.
يقول لي جواد عدرا مدير مؤسسة «الدولية للمعلومات»: «هناك عدم ثقة مطلقة يعبّر عنها الاطراف دائماً وفي كل مرحلة. فإذا كان طرح «الثلث المعطل» هو المشكلة فيجب الاعتراف بأن هذا الثلث لا يمكنه ان يعطّل سير المحكمة، اذ صارت لها آليتها الخاصة، ولم يعد باستطاعة احد ايقافها، وإذا توقفت ستكون لأسباب لا علاقة لها بالحكومة اللبنانية». ويضيف: «من ناحية الاكثرية المطلقة للموالاة، فإنها لا تستطيع فرض نزع سلاح «حزب الله»، وحتى لو اجتمع مجلس الوزراء واتخذ قراراً بالأغلبية لنزع سلاح الحزب، فانه لا يستطيع فرض ذلك وتطبيقه. يستطيع الثلث المعطل عرقلة تعيين قائد الجيش او المديرين العامين، ان له علاقة بتقاسم الحصص مباشرة، ومرتبط بالتنازع على ما تبقى من مكتسبات في الدولة».
اذن، يعني الثلث المعطل للاعبين المحليين الصراع على النفوذ وصراع بقاء ومحاصصة، يكشف قوة كل طرف او شكه بالآخر. انه صراع بقاء عند جنبلاط، وصراع نفوذ عند «حزب الله» وعند الجنرال ميشال عون، اما بالنسبة الى اللاعبين الدوليين والإقليميين، فانه حجة لاستمرار لعبتهم في النفوذ الاقليمي.
ربما حققت الكلمة التي القاها جنبلاط يوم الاحد الماضي «توازن الرعب»، لمنع الاطراف من الاتجاه نحو الحرب الاهلية، لكن المشكلة لا تزال قائمة.
في السابق، كانت الازمات تخفت بعد التوصل الى معادلة تصبح جسراً لتهدئة الاوضاع، من «لا شرق ولا غرب»، الى «لا غالب ولا مغلوب»، الى «اتفاق القاهرة» والى «اتفاق الطائف». يقول جواد عدرا: «في السابق كانت المعادلات تأتي نتيجة تفاهم اقليمي ـ دولي، لم يحدث ان كانت بسبب تفاهم السياسيين اللبنانيين، الآن الافرقاء الاقليميون والدوليون متباعدون. سوريا والسعودية ليستا على وفاق، والعلاقات بينهما متوترة، اميركا ليست على علاقة جيدة بايران. جاء «اتفاق الطائف» وكان هناك حديث عن «مؤتمر مدريد». الآن يجب التفكير بـ«مدريد 2» او «مدريد 3». وطالما ان هذا ليس في الأفق، فان الوضع في لبنان سيبقى كما هو الآن وهذا الاقصى ايجابياً، واذا استمر السياسيون هنا في ادارة الأزمة كما الآن وعلى طريقتهم «يكونون ابطالاً»، لكن المشكلة ان اعصابهم بدأت تتعب، وشكهم ببعضهم البعض يزداد، وصرنا نصغي للعبارات المخيفة، اذ لا احد يمكنه ادارة ازمة والبقاء مرتاحاً، لذلك ولفترة من الزمن لن يكون هناك رئيس للجمهورية ولن تجرى انتخابات نيابية، عندها تصبح الدولة اكثر هزالاً، ويتفكك ما تبقى من دولة مركزية وسوف تبرز انماط جديدة لإدارة لبنان عبر زعامات وربما شركات كما يجري في العراق!.
تمر اليوم الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري ولبنان يكاد ان يتحول ورقة في مهب الرياح الاقليمية والدولية الباحثة عن مصالحها، غير الآبهة بمصير اللبنانيين. ان لسوريا وإيران وأميركا مصلحة في بقاء الوضع كما هو عليه، والقلوب وحدها تلتفت الى «ثورة الارز» لأنها بعدت عن العيون. الاطراف الثلاثة لا تريد حلاً سريعاً، هي تريد التوصل الى نوع من الاتفاق في ما بينها. انما كل طرف يريده على طريقته.انها تؤجل الحل والتأجيل مكلف لكن الشعب اللبناني يدفع التكاليف. لو ان الزعماء اللبنانيين يتمتعون بالحكمة لرفضوا هذه اللعبة وما اندفعوا ليكونوا وقوداً لها، بانتظار ان تتفاهم سوريا وإيران وأميركا ومن ثم تقول للبنانيين: تستطيعون الاتفاق الآن. على هؤلاء الزعماء ألا يفخروا لأن الشعب اللبناني على زمنهم صار يعيش على التحويلات الخارجية، وعلى تمويل الاحزاب. لقد صارت اللعبة معروفة، لا يمكن نزع سلاح «حزب الله» من دون حوار مكشوف وواضح وتنازلات، وفي الحرب الأهلية لا يمكن نزعه لأن السلاح سيتعزز ويصير في لبنان سباق تسلح اكثر من الجاري حالياً، ويوجه «حزب الله» سلاحه الى الداخل بدل ان يكون للخارج. كذلك لا يمكن ايقاف المحكمة الدولية لأنها انطلقت، ولا يمكن تحرير القدس، وايضاً ممنوع اسقاط النظام السوري.
على السياسيين اللبنانيين ان يعودوا الى ارض الواقع، فعندما تصل الامور الى حافة الهاوية ترسل أميركا سفنها لترحيل رعاياها ليس اكثر، وشئنا ام أبينا، فان المنتمين الى «حزب الله» وجماعة سوريا في لبنان يشكلون نصف الشعب اللبناني. فلنتجنب المزيد من الانهيار وليطرح الزعماء نظاماً ينقذ لبنان. الحرب الأهلية ليست الحل انما العلمنة قد تكون هي الحل، لم يعد في لبنان طوائف محرومة، صارت هناك فئات اجتماعية محرومة، لنفتح المجال امام تنافس الكفاءات التي لا تتضمن سجلات نفوسها اشارة الى طوائفها، ولتطلب الاطراف المسيحية المتوجسة من علاقة ميشال عون بـ«حزب الله»، ان يأتيها الجنرال بالتزام من الحزب يضمن الموافقة على نظام علماني في لبنان، لأن الحلول الاخرى تعني انفجار حرب اهلية كل عشر سنوات.
2008 الخميس 14 فبراير
الشرق الاوسط اللندنية