صفحات ثقافية

السابح عكس التيار

null
صبحي حديدي
أعلن السينمائي الأمريكي المعروف مايكل مور أنه سيتبرّع بمبلغ خمسة آلاف دولار لشبكة الدفاع عن الجندي الأمريكي برادلي ماننغ، الذي تحوم حوله شكوك السلطات الأمريكية في تزويد موقع ‘ويكيليكس’ بمعلومات سرّية بالغة الحساسية. ويُتهم الفتى، 22 سنة، بتسريب شريط فيديو يعود إلى عام 2007، يُظهر حوّامة أمريكية تقصف هدفاً مدنياً في بغداد، أودى بحياة 11 مدنياً، بينهم مصوّر وكالة ‘رويترز’ وسائقه؛ وهو، في حال إدانته، يمكن أن يواجه حكماً بالسجن لمدّة 52 عاماً. وبالطبع، تحوم شكوك أخرى حول الجندي ماننغ، في تسريب 76.900 وثيقة رسمية تخصّ الجيش الأمريكي في فييتنام، وآلاف البرقيات الدبلوماسية التي يواصل موقع ‘ويكيليكس’ بثّها منذ أشهر.
ولقد اعتبر مور أنّ ما كشفه ماننغ ليس أقلّ من أدلة دامغة على ارتكاب جرائم حرب، وهو بالتالي ‘أقدم على أمر شجاع، وقام بفعل وطني’؛ ولا يختلف في شيء عن الشهود الذين ساعدوا القضاء في إدانة الضباط النازيين خلال محاكمات نورمبرغ الشهيرة. وقال مور إنّ الجندي ماننغ ‘اقتدى بمبدأ نورمبرغ، الذي يفيد بأنك حين تبصر أموراً كهذه، وتشهد ارتكاب جرائم حرب، وترى الأكاذيب تُسرد بهدف إدخال بلد ما في حالة حرب، فإنّ عليك أن تخرج على الملأ لكي تشهد’.
هذه، إذاً، مناسبة أخرى جديدة كي يشهد المرء لصالح الثبات العالي الذي تتسم به مواقف مور من القضايا العامة، من الموقع الجسور الذي ظلّ الرجل متمترساً فيه، دفاعاً عن الحقّ والحقيقة، رغم تبدّل الأحوال وانقلاب المعايير، أو انفلاتها كما يتوجب القول. وهذه حزمة مواقف لا تأتي من شخصية سجالية عادية، بل من فنّان كبير لم يرضخ يوماً لإغراء الوثيقة، أو إغواء الفضح والتفضيح، على حساب حقوق الفنّ، وأصول خدمة الرسالة السينمائية بأرفع التقنيات وأعلى المهارات.
وفي سنة 2004 حصل شريطه ‘فهرنهايت 11/9’ على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، ويتوجب القول إنه ‘حصد’ الجائزة الأرفع تلك لأنّ لائحة زملائه في الجائزة ضمّت كباراً من أمثال السويدي إنغمار بيرغمان، والياباني أكيرا كيروساوا، والهندي ساتياجيت راي، والإيطالي فدريكو فيلليني، والفرنسي هنري ـ جورج كلوزو، والسوفييتي ميخائيل كالاتوزوف، والأنغلو ـ أمريكي ألفريد هتشكوك، والجزائري محمد لخضر حامينا، والألماني فولكر شلوندروف، والكردي يلماز غوناي، والصربي أمير كوستوريكا، والبريطاني مايك لي…
قبل سنتين على السعفة الذهبية تلك، كان مور قد نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان كان، عن شريطه التسجيلي الشهير ‘باولنغ كولومباين’؛ ثمّ انتزع الـ’أوسكار’ من شدق الأسد الهوليوودي، لأفضل فيلم تسجيلي؛ وجائزة الـ’سيزار’ الفرنسية الشهيرة، لأفضل فيلم أجنبي؛ فضلاً عن تكريم من نوع خاص نجم عن فضيحة شركة والت ديزني في رفضها توزيع ‘فهرنهايت 11/9’. وقبل مور، كانت السعفة الذهبية الوحيدة التي حصل عليها شريط وثائقي قد ذهبت، سنة 1956، إلى فيلم ‘العالم الصامت’، للفرنسييَن جان ـ إيف كوستو، عالِم البحار الشهير، ولوي مال، السينمائي الرائد.
شتّان، مع ذلك، بين شريط كوستو ـ مال الذي يطلق غوّاصة الأعماق ‘كاليبسو’ في باطن البحار، وشريط مور الذي يطلق العنان للكاميرا كي تغوص عميقاً في ظلمات قلب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش! وشتّان بين المعركة الشرسة التي يلتقطها الفيلم الأوّل بين أسماك القرش وكائنات المحيطات المسالمة، وجرائم الحرب التي ارتكبها بوش ضدّ الأفغان والعراقيين. وهيئة تحكيم دورة 1956 وقعت، أغلب الظنّ، أسيرة الشاعرية المذهلة التي اكتنفت تجوال عدسة فريق كوستو في تلك العوالم الصامتة، طيّ المياه ذات الغور البعيد البهيم، وذلك قبل أن تشدّها أسلوبية لوي مال الآسرة بدورها، ولكن التجريبية المعقدة المتنافية في كثير أو قليل مع روحية التسجيل. وأمّا هيئة تحكيم دورة 2004، فقد أعلنت أنها لم تمنح السعفة الذهبية للسياسة، بل للفنّ السينمائي وحده. وليس كثيراً أنّ نصدّق هذا الزعم، خصوصاً إذا كنّا في عداد مَنْ شاهدوا شريط مور السابق ‘باولينغ كولومباين’.
هذا رجل سينمائي من رأسه حتى أخمص قدميه، الأمر الذي لا يعني البتة أنه ليس ناشطاً سياسياً. ثمة معادلة شائكة هنا، وثمة فنّ يتصدّر شبكات واشتباكات تلك المعادلة. وأن يكون المرء داعية ماهراً (في الكتابة والخطابة والنشاط اليوميّ)؛ وفناناً مشهوداً مكرّماً (في الفنّّ السينمائي، وفي فرع شاقّ منه هو الفيلم التسجيلي تحديداً)؛ أمر لا ينطوي على تناقض منطقي. وليس نجاح الرجل في الفنّ وفي السياسة معاً إلا بعض تجليّات نجاحه الفائق في تفكيك أطراف تلك المعادلة الشائكة، على نحو متوازن متلائم لا يليق إلا بموهبة فريدة.
ومايكل مور بدأ صحافياً في جريدة محلية مغمورة تصدر في بلدة فلنت، ولاية ميشيغان، قبل أن يلفت انتباه مطبوعة كبيرة هي ‘مذر جونز’ فتعيّنه محرّراً، ثمّ تقيله لأنه رفض نشر مقال متحيّز ضدّ ثوّار نيكاراغوا. تاريخه الصحافي يشهد له، في مقالاته الاستقصائية الانتهاكية، مثل تلك النقدية اللاذعة، السابحة أبداً عكس التيار السائد المُسيَّد. وليس غريباً، إذاً، أن ينحاز إلى زملائه في المهنة، فيطري ‘ويكيليكس’، ويتبرّع للدفاع عن مصادرها.
سينمائي داعية، أو داعية سينمائي… أيّ فرق؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى