صفحات ثقافية

كلا، لم يحدث هذا!

null
أمجد ناصر
هناك أجناس أدبية وفنية تتقاطع في حدود معينة. يمكن أن نلحظ تقاطع القصيدة والقصة القصيرة، المسرحية والسيناريو، السيرة والرواية، اليوميات والريبورتاج الأدبي.. إلخ.
لا يكفي القصد لتحديد الفرق. القصد مهم، بالطبع، لكنه لا يكفي وحده لإقامة الفارق النوعي. لا بد من وجود فوارق طالعة من الجنس الأدبي والفني نفسه. فلكل جنس أدبي نشأة ومحتد حتى وإن تناسلت الأجناس الأدبية من جذر بعيد واحد هو الكلمات.
ومع كل الاختلاطات التي تحدث في الأجناس الأدبية والفنية، والمحاولات المستمرة لمحو الفارق وإزالة الحد، إلاّ أن الحدّ يبقى ويمانع. وهذه هي قضية الأجناس الأدبية التي تؤطّر وتقيم الحدود التي يستوي عندها كل عمل أدبي على حدة، ولكنها، على ما يبدو، لا تستطيع كبح جماح التداخل والتوسّع في ما تؤل إليه مصائرالأجناس الأدبية والفنية.
***
في ‘انثيال الذاكرة’، يكتب الناشر والمناضل في يسار حركة ‘فتح’ فتحي البس سيرة جيل ومرحلة. يبدأ من نقطة لا التباس في انتمائها إلى جنس أدبي محدد سلفاً: تلك الرسالة التي تصله من رفيق مرحلة يقيم في المغترَب يحاول أن يعرّفه بنفسه، ويشكره على أن أحداً لا يزال يتذكره بالاسم. هذه الرسالة، مسبوقة بشكر الكاتب لبعض مراجعه، تحدد لنا، سلفاً، النوع الأدبي الذي نحن بصدده.
لا مجال، إذن، للاستيهام.
هذه سيرة تحاول أن تلتزم بالموضوعي، أي ما هو خارج الذات ولا يد للذات فيه، ولكن، بالطبع، من زاوية ذاتية، لأن كل كتابة، مهما أوغلت في الموضوعية، تظل تحمل أثراً من ذات كاتبها، لأن الأشياء المتشابهة لا تُكتب على نحو متشابه. لا يحدث ذلك أبداً لأن ذوات كتَّابها مختلفة ومغايرة.
***
في حديث دار بيني وفتحي البس في عمّان حول عمله ‘انثيال الذاكرة’، أكد أنه رغم إغواء نداء الرواية له، بما تعنيه أساساً من إعمال للخيال والاختلاق وبناء واقع موازٍ للواقع، لم ينجرف إلى ذلك. توقف أمام فكرة الحقيقة. أمام ‘الأمانة’ التاريخية. وهاتان لا تحيلان، حسب ظني، إلى الرواية، بل إلى السيرة الذاتية.
يستطيع الروائي أن يصطنع (لا بدَّ من ذلك).. يستطيع أن يأخذ ملمحاً من شخص أو أكثر، في حياته.. يستطيع أن يلعب على الزمان والمكان، لكن كاتب السيرة الذاتية لا يستطيع ذلك بالإريحية نفسها. ليس مسموحاً له بتلك الحرية. كاتب السيرة الذاتية يغريه السرد والحكي والخيال، لكنه لا يستطيع المضي بذلك حتى النهاية، الحقيقة تقف حائلا بينه وبين اصطناع حدث أو اختلاق شخصية. يتبدى ذلك بوضوح في كتب الذين لعبوا أدواراً في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. التاريخ، الحقيقة، الأمانة، تقف أمام هؤلاء بالمرصاد. لا تني تذكرهم بأن صنيعهم معنيٌّ بالحقائق أكثر مما هو معنيٌّ بالخيال وأن أي انزياح عن صراط ‘الحقيقة’ هو انتهاك لتعاقد ضمني متواضع عليه مسبقاً بين طرفي معادلة القراءة.
هذا لا يعني انتفاء الجانب الأدبي من سيرة ذاتية كهذه، لا يعني فقراً بلاغياً أو تصويرياً، وعموماً، لا يعني فقراً أسلوبياً. الأسلوب، اللغة، الجماليات البلاغية لا تتصادم، بالضرورة، بالحقيقة التي هي، تقريباً، هــدف السيرة الذاتية، لكنها، هنا، تكون في خدمة هدف آخر، هدف ذي ‘حقيقة’ يشترك فيها غيره في الزمان والمكان والأحداث.
***
أعجنبي كلام فتحي البس عن رفاقه. قال: ‘لا يمكنني تحويل الشهداء، الرجال المعلومين أو المجهولين في تلك المسيرة، إلى مجرد شخوص في رواية’. رأى في ذلك إغماطاً لدمهم، لأرواحهم التي قدموها على مذبح القضية.
مجرد أن يفكر فتحي البس بذلك يستحيل عليه تلبية نداء الرواية المغوي. إغواء الخيال وتراقص أشباح السرد تكبح الحقيقة جماحهما وتوقفهما عند حد. تطل تلك الوجوه من غيابها أو حضورها لتقول له: كلا، لم يحدث ذلك!
‘كلا، لم يحدث ذلك’ هي، على الأرجح، الجملة الفيصل بين السيرة والرواية. لا يستطيع أحد أن يقول للروائي: ولكن ذلك لم يحدث، أو: أن الأمر حدث على هذا النحو، أو: ولكنك نسبت دوراً كبيراً لشخص مغمور؟!
أبطال السيرة الذاتية حاضرون حتى وهم غائبون. إذ لا بد أن يكون هناك مَنْ أطلَّ على ما حدث ليشهر في وجه الكاتب راية الحقيقة.
وليس هذا ما يواجه الروائي تماماً. الحقيقة، بهذا المعنى، لا تُشهر في وجهه كراية حكمٍ جانبيّ في ملعب لكرة القدم. هناك، بالمقابل، ما نسميه ‘الصدق الفني’. ذلك، على الأغلب، ما قصده الروائي البيروفي (حاصد نوبل أخيراً) ماريو فارغاس يوسا عندما قال ‘تحكي كل رواية جيدة الصدق بينما تكذب كل رواية سيئة’. الصدق والكذب يتصلان، هنا، بقدرة العمل الروائي على الاقناع. سواء تعلق الأمر برواية واقعية أم برواية فنتازية.
هل يعني ما سبق أن الروائي ليس مطالَبا بحقيقة ما؟
كلا.
إنه مطالَب، على الأغلب، بنوع من الحقيقة.
ولكن أي حقيقة؟.
أظن، للمفارقة، أنها الحقيقة نفسها ولكن في زيٍّ آخر، في مسوحٍ مختلف.
فالبحث عن الحقيقة، بما هي غاية المسعى البشري الشاق وخائب الرجاء سلفاً، لا تتجزأ إلا كي تتّحد مرة ثانية!.
لا تنفرد إلا كي تجتمع.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى