مجنون ليلى هائما في البرية’ منمنمة فارسية للشاعر نظامي كنجوي: المحب عندنا يسمى مجنونا!
عبد يغوث
‘ الحب ألوان كما أن الجنون ألوان’ سقراط
عدّه الجُنيد ولياً من أولياء الله ‘ ستر شأنه بجنونه’، وجعله الغزالي ‘ حُجة على المُحبين’ في رؤيا المنام، وعند أبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب صاحب ‘ عقلاء المجانين’ بأنه الأشهر جنونا: ‘ جنونه غلب على اسمه حتى أنه إن سُمّي أو عُزي إلى أبيه لم يثبت بل يقال قال المجنون كذا وفعل المجنون كذا’، فيما أنكر الأصمعي وجوده ويراه ‘ اسما بلا مسمى’ رغم أنه روى عنه روايات منها أنه ‘ لم يكن مجنونا ولكن كانت فيه لوثة وهو من أشعر الناس على أنهم قد نحلوه شعرا رقيقا يشبه شعره’.
وتبعه طه حسين الذي لم يقل أن شعره منحول فحسب بل ألغى وجوده جملة وتفصيلا:’ إذ لم تتفق الرواة على اسمه ولا على أحداث حياته ولا على وجوده كلية’، فيما عده البعض من الباحثين هو وليلاه تنويعاً عربياً على آلهة حب وخصب قديمة كانت تعبد خارج الجزيرة العربية ( قيس / تيس ـ ليلى / ليليت)، أما الجاحظ فيرى أن كل شعر حُب في ليلى يُنسب إليه، ويقول ابن الكلبي: ‘ حدثت حديث المجنون وشعره وضعه فتى من فتيان بني أمية كان يهوى ابنة عم له وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس ونسبها إليه’، وما إلى ذلك من الروايات والأخبار والمنمنمات عن مجنوننا منها – مثلا ـ منمنمة تعود إلى القرن الخامس عشر من كتاب ‘ الكنوز الخمسة’ للشاعر الفارسي نظامي كنجوي، تصور المجنون يجلس شبه عار بجانب غزالة تحت ظل شجرة وحوله ذئاب وثعالب ونمور ترعى مع الغزلان والطيور ( صورة فردوسية) وهو يتحاور مع رجلين وفتى هرعوا إليه لينظروا حاله الذي أوصله الحب إليه – مما خلّد ذكره في وجدان العامة والخاصة خلود الأسطورة الحية.
إنه العاشق الأكبر والمجنون الأكبر وشاعر الحب الأكبر: مجنون ليلى صاحب ‘ المؤنسة’ الذي تواترت أخباره بما يشبه الإجماع على أنه: ‘ نشأ معها إلى أن كبرت وحجبها أبوها فهام على وجهه ينشد الأشعار ويأنس الوحوش، فيُرى حيناً في الشام وحيناً في نجد وحيناً في الحجاز، إلى أن وُجد مُلقى في واد كثير الحجارة وهو ميت فحُمِل إلى أهله’. ويردف الرواة ‘ أنه لم تبك النساء يومها فتى كما بكت المجنون’، المجنون الذي تنبأ حتى بطريقة موته ( توفي بين 65 أو68هـ) حيث وجد هذين البيتين عند رأسه أو خطهما على حجر:
توسَّـدَ أحجارَ المهامِهِ والقفرِ
ومات جريحَ القلب مندملَ الصدْرِ
فيا ليت هذا العشق يَعشقُ مرة
فيعلم ما يَلقى المُحب من الهجرِ
صعد المُحبون مراتب الحب درجة فدرجة أما المجنون فقفزها قفزة واحدة، قفزة وعل جبل من ‘ النظرة الأولى’ حتى ‘ الجنون’ الذي لا يعقبه جنون ولا عقل، فتى شاحب هزيل، زائغ النظرات، بهي الطلعة، حلو القسمات، غزير الشَّعر طويله، روحه روح طفل ،صورته أقرب إلى آلهة الحب، وفي المخيلة الشعبية المُضحي والمُفدّي بنفسه عن كل العشاق على مذبح الحب، ترددُ الناس شعره كحكم وآهات في المحبة الطاغية حين يأخذ الهوى بتلابيب العشاق كل مأخذ. جُن بليلى أو كما روي عنه عندما لاموه حبها قوله: ‘ من يرى مثل هذه الصورة ولا يجن؟’ وقيل ذهب بصره بـ ‘ فلقة القمر’:
أنيري مكان البدر إن أفلَ البدرُ
وقومي مقام الشمس ما استأخرَ الفجرُ
ففيك من الشمس المنيرة ضوؤها
وليس لها منكِ التبسمُ والثغرُ
بلى لك نورُ الشمسِ والبدر كلهُ
ولا حملت عينيك شمس ولا بدرُ
لك الشرقةُ اللألاء والبدرُ طالع
وليس لها منكِ الترائب والنحرُ
ومن أين للشمس المنيرة بالضحى
بمكحولة العينين في طرفِها فترُ
وأنى لها من دل ليلى إذا انثنت
بعيني مهاة الرمل قد مسها الذعرُ
أكل لحم ذراعيه وكفيه حين قيدوه، ذهبوا به إلى بابل ليفكوا عنه سحر ليلى فصاح بهم: دعوني دعوني. أخذوه إلى الحج لعل الله يخلّصه من حبها وفي اللحظة التي ضج فيها الحجيج يطلبون الجنة، أجهش هو في البكاء يطلب ليلى: ‘ اللهم زدني لليلى حبا وبها كلفا ولا تنسني ذكرها أبدا’:
دعا المحرمون الله يستغفرونه
بمكة شُعثاً كي تُمَحىّ ذنوبها
وناديتُ يا رحمن أول سؤلتي
لنفسِيَ ليلى ثم أنت حسيبها
وإن أُعْطَ ليلى في حياتي لم يتبْ
إلى الله عبد توبة لا أتوبُها
سرى شعره سري النار في الهشيم وسري المحبة في القلوب، عرف الشعر من معرفة الحب، تعدد شخصه وتجسم حضوره ( قيس بن الملوح، قيس بن معاذ ، مهدي بن الملوح ) ، أعلاه العشق إلى ذرى ما لا يُرى والى ما لا تدركه القلوب فلا هو معروف بالتحديد ولا هو مجهول. خُلق على هوى ليلى وخلقت على هواه:
تعلقتُ ليلى وهي غِرّ ٌ صغيرةٌ
ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البَهْمَ يا ليتَ أننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البَهمُ
لم تعرف الثقافة العربية شاعرا مُحباً كمجنون ليلى، سواء في الشعراء ‘ العذريين’ هؤلاء ‘ الذين متى أحبوا ماتوا’ أو في شعراء الحب من ذي الرمة مروراً بالأعشى والعباس بن الأحنف إلى عمر بن أبي ربيعة. شعره قطعة من روحه، به أنفاسه وخرق ثيابه، تطيّره من الناس وقلقه، لا يرتد إليه صوابه ولا يثوب إلى رشده إلا متى ذكرت له ليلى، ولا نادى مناد باسمها إلا وطارت روحه:
وداع دعى إذ نحن بالخيف من منى
فهيّج أطراب الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائراً كان في صدري
جسده العاري هيكل حبه، فؤاد مُدنف صب، به من تباريح الهوى ما لا يخطر على قلب عاشق، روح معذبة هائمة أبداً تحل بين زمن وآخر في روح عاشق جديد، بل قل هو الحب ذاته مجسداً في كائن لا هو إنسي ولا هو جني، كائن أقرب إلى الملاك، الحب مأكله ومشربه، العاشق صديق الظباء الذي أخرج الغزالة من بطن الذئب:
أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني
لك اليوم من بين الوحوش صديقُ
أقول وقد أطلقتها من وثاقها
فأنت لليلى إن شكرت عتيقُ
فعيناك عيناها وجيدك جيدُها
سوى ان عظم الساق منكِ دقيقُ
وكادت بلاد الله يا أم مالكٍ
بما رحبت منكمْ عليّ تضيقُ
يومه هيام وتهيام في البراري والجبال والوديان ، يرحل ويحل ويحل ويرحل فلا يعرف إن أصبح هنا أو أمسى هناك، أما ليله فسهى وتقليب بصر في النجوم:
أحبك حباً لو تحبين مثله
أصابك من وجد عليّ جنونُ
وصرتُ بقلب عاش أما نهاره
فحزنٌ وأما ليلهُ فأنينُ
لم يوجد عاشق ارتقى مرتقى الأسطورة مثل مجنون ليلى لأنه أرقهم فؤاداً وأرهفهم قلباً وأسلسهم شعراً، لذا نحن نحبه حبه لليلاه وحب ليلاه له الذي تمنى لو لم يكونا ما كانا:
ألا ليتنا كنا غزالين نرتعي
رياضِا من الحوزان في بلد قفر
ألا ليتنا كنا حماميْ مفازةٍ
نطير ونأوي بالعشيٍ إلى وكْرِ
ألا ليتنا حوتان في البحر نرتمي
إذا نحن أمسينا نُلجج في البحرِ
ويا ليتنا نحيا جميعا وليتنا
نصير إذا متنا ضجيعين في قبرِ
ضجيعين في قبر عن الناس معزل
ونُقرن يوم البعث والحشر والنشرِ
لم يعبّر مُحب بكل هذا الجمال والألم في شعره ما روي عنه وما نُحل مثل مجنون ليلى، غار منه كثيّر عزة وغيره من الشعراء المحبين الذين عابوا عليه البوح ومدحوا أنفسهم بالكتمان، بل وغارت منه حبيبته ليلى أيضا بنفس الحجة وهو الذي لم يغر إلا من موت عروة بن حزام: ‘ قيل لليلى: حبك للمجنون أكثر من حبه لك؟ فقالت: بل حبي له. قيل وكيف؟ قالت: لأن حبه لي كان مشهورا وحبي له كان مستورا’، أحب شعر قيس بن ذريح وفاضل بينه وبين شعره حتى قبيل موته في الحكاية التي تروى عن فتى يدعى صباح بن عامر أتى المجنون وأنشده شعرا لابن ذريح حين وجده: ‘ فإذا أنا برجل عريان قد شعث شعر رأسه على حاجبيه، وإذا هو قد فعل حظيرة من تراب وهو قاعد في وسطها والى جانبه أحجار وهو يخطط بإصبعه على الأرض…’: وهي الحكاية الأخيرة التي يروى فيها موته حين فر متقافزا وكأنه عُصم أي وعل جبل خلف ظبية حتى اختفى مرددا:
وأدنيتِنـي حتى إذا ما سبيتِنـي
بقولٍ يَحِلُ العُصْمَ سَهْلَ الأباطحِ
تناءيتِ عني حين لا لِيَ حيلة
وخلّفـتِ ما خلّفتِ بين الجوانـح
عاشق على هيئة إنسان وإنسان على هيئة عاشق، ضحى بجسده الخرقة على مذبح الحب فصار مزاراً للقلوب وعلة للعشاق، هز ثقافة بأكملها من خصر الحب فانقادت إليه والى شعره، صار ما لم يصره غيره من العشاق. عاشق صنعته ثقافة في زمن تحولها من ‘ البداوة إلى الحضارة’ بل هو من صنعها، الكائن الأكثر فرادة في الحب، كائن ربما قُدّ من مخيلة العشاق والمجانين والشعراء والأطفال في ثقافة يتطاول عنها الحب يوماً بعد يوم لأنها لم تعد تعي ألم المجنون:
أخافُ هواها تاركي بمظنة
من الأرض لا مالٌ لدي ولا أهلُ
ولا صاحب أشكو إليه بليتي
ولا وارثٌ إلا المطيةُ والرحلُ
محا حبها حب الأُلى كُنّ قبلها
وحلّت مكانا لم يكن حُل من قبلُ
فحبيها حب قد تمكّن في الحشا
فما إن أرى حبا يكون له مثلُ
هو من رأى ليلى بعد طول غياب فرأى الحب:’ إليكِ عني فإن حبكِ شغلني عنكِ’، وهي العاشقة التي شغلت به شُغل يتيمة الحب على يتيم الحب:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرةٌ
متى رحلُ قيس ٍمستقلٌ فراجعُ
بنفسي من لا يستقل برحلة
ومن هو إن لم يحفظ الله ضائعُ
ماذا يسمون المُحب عندكم؟
يسمونه مجنون ليلى!
شاعر من عُمان
معظم الأبيات الشعرية الواردة لمجنون ليلى من ديوان ‘ ديوان قيس بن الملوح – مجنون ليلى’، رواية أبي بكر الوالبي، دراسة وتعليق يسري عبد الغني، منشورات دار الكتب العلية، بيروت ـ لبنان، نسخة إلكترونية، فضلا عن مصادر أخرى متفرقة.