من حلب الى دمشق
رنا سفكوني
بدأت أفكر بضرورة انتقالي السريع إلى دمشق. وبدأت هذه الفكرة تخزني كإبر الأفيون. وشعرت أني بهذا سأتخلص وإلى الأبد من كل ما يزعجني في حلب، وكم كانت الأشياء المزعجة كثيرة في هذه المدينة، قلة الحيلة، والحلم الشعري ثم المسرحي اللذين ماتا، وعدم قدرتي على التعاطي مع سكان المدينة. وأكثر من ذلك سينتهي ذلك الشعور بالغربة بمجرد دخولي إلى أبواب دمشق. وراحت تلاحقني فكرة بأني سأخلع حذائي الحلبي الضيق القاسي وانتعل حذاء المثقفين الخفيف في دمشق حتى في الحلم… والأهم من كل ما سبق أنني سأتخلص وبشكل نهائي كما من (التلطيشات الحلبية) التي كانت تحتاج إلى قاموس أو مترجم لتحويلها من الحلبية إلى العربية، والتي تسقط في آذان النساء كأنها طلقات كلاشينكوف.
ولا أبالغ أيها القارئ حين أحرضك على القيام بجولة سياحية في حلب، فهناك سترى العجب، وصدقني لن يبطل السبب، لأنك ببساطة ستتعرف فيها على جميع أنواع الأسلحة، الفردية منها وأسلحة الدمار الشامل، إلى جانب الدورة التثقيفية في ما يخص الفنون الشعبية التي ستكتسبها مجاناً………
حزمت حقائبي وهرعت إلى الباص الذي نقل كل الذين أصيبوا بمرض الحلم الدمشقي، وقلت في نفسي “أنا لا أول ولا آخر وحدة رح تطلع عالشام لتحقق أحلامها”. ورسمت دمشق بأصابع كل الرسامين الانطباعيين والتجريديين، وحلقت لدرجة تفوق خيالك، من كنت تكون أيها القارئ، وبدأت تعرش أحلامي وتمتد من حلب إلى حمص وحماه لأعصرها كخمر على أبواب دمشق، فخبأت ذاكرتي الحلبية في حقيبة سفري التي كانت تتسع لحذاءين وبعض قطع الملابس وأوراق وزجاجة فارغة، لا أدري لماذا أحتفظ بها.
أربع ساعات اتكأت فيها على حلمي إلى أن أيقظتني لوحة كتب عليها “دمشق أربعين كيلومتراً”، فتعلقت عيناي على جبل ناهض، شبهته بثدي امرأة دمشقية قفزت من العشق إلى الأمومة.. ثم بدأ طعم الهواء يتغير، والسماء تأخذ لوناً آخر، وعجلات الباص تنبض على مشارف دمشق إلى أن عبرتنا لوحة أخرى كتب عليها (دمشق عشرين كيلومتراً)، حينها بدأ قلبي يدق وكأني على موعد عاطفي، أقيس زمن وصولي إليه بالكيلومترات .
في كراج دمشق الذي يقع في منطقة تدعى حرستا، استقبلني صديقي العاشق إ-ق وحبيبته التي هي صديقتي آ-أ-ش، والتي لا تكف عن مبادلته العشق والنق. ركبنا التكسي واتجهنا إلى مكان سكن صديقتي في المزة..
أذهلني مشهد البيوت التي ركبت فوق بعضها بحرفية غير مقصودة، وذكرتني بلوحة لجدار مكسور على وشك أن يسقط من قماش اللوحة، والتي لا أذكر من كان صاحبها.
/مزة جبل 86/ جبل تخطئ بأرقام شوارعه وأبوابه وأزقته. قد يحدث أن تفتح دكان جارك بدل باب منزلك وذلك لتشابه الخراب بينهما، أو قد تضع يدك على جبينك وأنت تنظر إلى الأعلى مرهقاً وقدماك آلمتاك من السير وأنت تقول في نفسك: “رح وصل كلها عشر دقايق مشي، راح القليل وما بقي غير الكتير”. تصعد وتصعد وتصعد ثم.. تصل. وهذا يؤكد عزيزي القارئ كما أسلفت سابقاً على فكرة الصمود. وهنا تظهر سمة جديدة وهي الإرادة القوية، فيكفيك عزاء أنك وصلت منزلك من دون حوادث أليمة أو خسارة فادحة.
المهم أننا حين صعدنا باتجاه البيوت المعلقة، توقفنا لحظات للاستراحة قرب دكان “أبو علي”، فاشترى صديق صديقتي علبة سجائر مالبورو أبيض وأدركت بذكائي الفطري بأن “أبو علي” سيكون ملجأنا مستقبلاً ومنقذنا في الأزمات وأنه سيفتح لنا صفحات لا تعد ولا تحصى في دفتر الدين الذي يشبه دفتر السجل المدني، فأحببت “أبو علي” من النظرة الأولى، وبدأت أدعي اللطافة والفقر والتشحير بطريقة غير مباشرة وصرت أتعمد قلة الأناقة أمامه.
[ملاحظة:
أكثر ما لفت انتباهي وأثار إعجابي “بأبو علي” أنه أب لنصف دزينة من البنات، وأن لقب “أبو علي” قد التصق به من باب الشهامة التي أثبتها من خلال دفتر الدين الكبير.
خرجنا من دكان “أبو علي الشهم” وفي جعبتنا السجائر وعلبتان من السردين وعدد من زجاجات البيرة وعبوة بايكون قاتل الحشرات..
على الرغم من هلعي الشديد من فكرة وجود حشرات، إلا أني تعاملت مع علبة المبيد على أنها قطعة أثاث غير ضرورية سنضعها في المنزل كي نستعملها عند الضرورة القصوى جداً. وتمسكت بفكرة أن علبة البايكون تعتبر من كماليات الأثاث غير الضروري.
سرنا عدة أمتار، ووقفنا أمام باب منزل صديقتي، وبنظرة بريئة سقطت عيناي على كيس القمامة المفتوح أمام المنزل وأول ما شاهدته عبوتان فارغتان من البايكون.. شردت قليلاً محاولة قراءة واستنباط أفكار إيجابية حول وجود العبوتين في الكيس إلا أنني فشلت بعد أقل من لحظة، حين دخلنا المنزل ورأيت عدداً لا يُحصى من الصراصير المختلفة الجنسيات والأشكال والألوان والأحجام، تستجم في أرجاء الغرفة التي لا ينطبق عليها اسم غرفة صالحة للسكن البشري، إنما كانت أشبه بمهجع للحشرات الطائرة والزاحفة.
ابتسم الصديقان وأكدت العاشقة أن الصراصير لا تقترب من غرفة النوم فسكنني الهدوء للحظات، وفجأة أدركت أنهما عاشقان وأنهما ينامان على سرير واحد في غرفة واحدة، فاكتشفت بذكائي الفطري بأن الكنبة في الصالون التي يستلقي عليها صرصور يبدو أنه فرنسي الجنسية، هي سريري الذي سأنعم عليه بنوم هادئ وعميق بعيداً عن الكوابيس.
وقفت وسط الصالون الصغير أتأمل الجدران التي تؤكد أنها ستقع إن عطس أحدهم في الغرفة، بينما وضع الصديقان حقائبي على طاولة في زاوية الغرفة، شعرت بالاختناق من المكان وتراءت لي مشاهد مرعبة وكأني سأصبح وليمة لتلك الصراصير وسأصحو في اليوم الثاني ونصف أحلامي قد تناولتها تلك الحشرات.
أدرك صديقي ارتباكي وبنبرة حازمة وودية قال: “رح نطلع نتعشى بمناسبة انتقالك للشام”.
خرجنا وتوجهنا إلى أحد المطاعم في منطقة تسمى باب شرقي، طلبنا القليل من الطعام، شربنا النبيذ الوطني وسردنا الماضي وحكاياته. وفجأة تذكرت أنني عذول بين عاشقين، فصرخت بهما: “هذا ليس عدلاً”.. وضحكنا.. بعد نصف ساعة جاء صديقنا المجنون الملقب أبو كليم، فبدأت السهرة من جديد، وطالت، لا أعرف عما تحدثنا، كل ما أذكره أصوات ضحكاتنا التي ملأت المكان، وأوشكت أن توقع اللوحات المعلقة بخيوط أقرب إلى الحبال، على الجدران.
المستقبل