«الصحوة الإسلامية»: جماهيرية عارمة بلا إنجاز فكري أو ثقافي
إبراهيم غرايبة
كان الكتاب الإسلامي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي هو الأكثر انتشاراً، ولكنه يبدو اليوم غائباً في معارض الكتب وحركة النشر. يحدث هذا في الوقت الذي يتزايد فيه الإقبال على التدين، وتكتسب الحركات والجماعات الإسلامية باستمرار أنصاراً ومؤيدين جدداً، وهذا يشجع على القول إن ظاهرة الصحوة الإسلامية تشهد منذ التسعينات نمواً في المؤيدين والأعضاء، ولكن من غير نمو ثقافي وفكري، أي أنها حركات دينية غير مصحوبة بإنتاج فكري وديني.
أحاول أن أتذكر الكتب الإسلامية في السنوات الثمانين الماضية، لمفكرين من قادة الحركات الإسلامية وعلمائها وباحثيها ومفكريها، فلا أجد سوى بضعة كتب، في الوقت الذي كان الدين والإسلام موضوعاً لآلاف الكتب العلمية والفكرية والرسائل الجامعية البالغة الأهمية، يعدّها باحثون وعلماء من غير «الإسلاميين» ومن غير المسلمين…
وأحاول أن أقلّب الفكر في مشروعات وطروحات فكرية إسلامية بعد حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب (مع الاختلاف الكبير معها)، فلا أكاد أجد سوى مكررات وملخصات ومواعظ، ربما كان الإنجاز الأكبر في التسعينات للفكر الإسلامي «الحركي» هو حل إشكالية التعارض «الظاهر» بين الإسلام والديموقراطية والحريات العامة والسياسية، وهذا أمر طيب، ولكنه إنجاز تقادم. وثمة قضايا وأفكار كثيرة جداً يمكن أن تطرح، وأعني تلك القضايا والأفكار التي تكون موضوعاً للتأييد والمعارضة والبحث العلمي والفكري في الجامعات والمجلات العلمية والمنابر الفكرية والعلمية والحراك الثقافي، والتي تساهم في تطوير الخطاب الإسلامي ومواكبته التحولات الحضارية الكبرى.
وفي المقابل، توافر لنا في العقود الأخيرة عدد كبير من الطـــروحات والبحوث المهمة والجدلية في الفكر والشأن الإسلامي لمفكريــــن وعلماء مستقلين، من قبيل علي عبدالرازق، وأحمد أمين (فجــــر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام) ومحمد الغزالي، ونصـــر حامد أبو زيد، وطه عبدالرحمن، وأبو يعرب المرزوقي، وحسن حنفي، وعبدالرحمن بدوي، ورضوان السيد، وعبدالمجيد الشرفـــي، ومحمد أركون، وكمال أبو المجد، ورفيق حبيب، ووائل حلاق، وحمادي ذويب، ومحمد عابد الجابري، وفهمي جدعان، وجــــورج قرم، وعلـــي عزت بيغوفيتش، ومجلات رائدة ومهمة لا يلحظ للصحويين فيها أثر يذكر، مثل الاجتهاد، والتسامح، وقضايا فكرية إسلامية معاصرة، وإسلامية المعرفة، والمسلم المعاصر، وعدد كبير آخر من المفكرين والمؤسسات والأعمال الرائدة والرائعة التي يصعب حصرها، وأضافت إلى الفكر الإسلامي والإنساني الكثير الكثير، أو على أقل تقدير فقد كانت بحثاً منهجياً جاداً وإضافة معرفية وعملاً فكرياً قابلاً للإتباع والجدل والاختلاف والنقاش والبحث في أوعية الفكر والبحث المعتبرة، ولدينا أيضاً مجموعة كبيرة من الأعمال الأجنبية مثل «الله والإنسان في القرآن» للياباني توشيكون إيزوتسو، و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي» لمايكل كوك، و«تاريخ الأدب الإسلامي» لكارل بروكلمان، و«الإسلام» لكلود كاهن، وأعمال برنارد لويس، ولكن باستثناء محمد الغزالي لم يكن لأحد من هؤلاء على أهمية وغزارة إنتاجهم تأثير في المد الإسلامي، وبقيت أعمالهم في الفلك العلمي والثقافي العام.
وقد أجريت على سبيل التأكد والاختبار مسحاً شاملاً للمجلات العلمية التي تصدرها الجامعات الأردنية، ولم أجد سوى عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليدين (وربما اليد الواحدة) من البحوث والدراسات المنشورة في هذه المجلات لأساتذة الجامعات من أتباع وقادة الحركات والصحوات الإسلامية، وما أكثرهم.
لم يكن انحسار الكتاب الإسلامي الظاهرة الوحيدة المرافقة لـ «الصحوة الإسلامية»، ولكن انحسرت أيضاً موجة الفن الإسلامي من المسرح والشعر والرواية والقصة، وبعد ان تحول معرض الكتاب الإسلامي السنوي في الجامعة الأردنية من مشروع ثقافي واستثماري كبير إلى مشروع خاسر ثم اختفى، اختفت أيضاً المسرحيات الإسلامية التي استقطبت جمهوراً كبيراً، مثل «عالم وطاغية» و «نور السلطان» و «مدينة لا تعرف الحدود»، ولم نعد نسمع بالشعراء الإسلاميين الذين شغلوا موسوعة من التراجم لا بأس بها؛ «شعراء الدعوة الإسلامية» لأحمد الجدع وحسني جرار، وظهرت مجموعة لا بأس بها من القصص القصيرة والروايات والمسرحيات لأدباء إسلاميين، مثل يوسف العظم، ونجيب الكيلاني، وعماد الدين خليل، ومحمود المفلح، وعبدالودود يوسف، وإبراهيم عاصي، ومحمد السيد، وعبدالله الطنطاوي، ومحمد الحسناوي، ولكن يصعب اليوم تذكر اسم شاعر أو قاص أو روائي إسلامي في فضاء النشر والثقافة، وإن نجح بعض الإسلاميين في الأدب، فليس لهم حضور أدبي في فضاء الصحوة الإسلامية نفسها، ولكنهم حاضرون في الحياة الثقافية والفكرية بعامة، وربما لا يعلم عنهم شيئاً المشتغلون بالعمل الإسلامي.
وعندما أصبحت الظاهرة الإسلامية موضوعاً للدراما، فإن الأعمال الدرامية التي نشرتها المحطات التلفزيونية لم يشارك الإسلاميون في إنتاجها وإعدادها وكتابتها، ولم نشاهد عملاً درامياً عن الحالة الإسلامية أعدّه إسلاميون لتقديم أنفسهم وعرض فكرتهم من وجهة نظرهم.
ولم تساهم الفضائيات والصحف والمجلات «الإسلامية» على كثرتها في تنمية وعي ثقافي وفني واجتماعي يعبر عن التدين و «الصحوة الإسلامية»، ولكنها وكما يبدو مؤسسات استهلاكية سياسية تقدم خدمات خفيفة أقرب إلى التسلية بعيداً من الفائدة والتأثير الحقيقي في العلم والثقافة والفن!
وفي المقابل، وهذا أمر محير، فإننا نشهد استثماراً اقتصادياً وتجارياً عملاقاً للصحوة الإسلامية، البنوك الإسلامية التي تشغل اقتصاداً بمئات البلايين، وشركات الحج والعمرة، ومحال الأزياء والصالونات «الإسلامية»، ومن اللافت في مجال البنوك «الإسلامية» أن قيادتها وإدارتها تسند الى غير الإسلاميين، وليس لهم دور سوى الرقابة الشرعية والفتوى على نحو فيه قدر كبير من التبعية للبنوك أكثر مما هو مستقل فكرياً وعلمياً.
ونشطت بقدر هائل اعمال التبرعات للأغراض المختلفة من «غير ذات الشوكة» وظواهر متخلفة من قبيل التداوي على يد مشعوذين وأحياناً أطباء أعضاء في نقابات الأطباء، واستُثمرت الصحوة أيضاً للانتخابات النيابية والبلدية والنقابية. لماذا انتجت الصحـــوة نمـــطاً من الاستثمار الاقتصادي والـــسياسي ولم تنشــئ حـــركة ثقـــافية وفنية وتنموية؟ لماذا لم تقدم للمجتمعات رقياً بالحياة، ولكنها قدمت للمجتمعات نواباً ورؤساء بلديات؟
وإذا صدق هذا التحليل، وأرجو أن أكون مخطئاً، فإن النتيجة هي تحول الصحوة الإسلامية إلى ظاهرة اجتماعية هامشية، أو مشكلة وعبء على أصحابها والمجتمعات.
الحياة