الحرية أولاً
محمد الحدّاد
تمثل فكرة الحرية أحد المبادئ الرئيسة لفلسفة الحداثة، وتقضي بأن يمنح العقل البشري الاختيار في الفكر والسلوك وأن يعتبر في الآن ذاته المسؤول عن وضع الضوابط والحدود لهذا الاختيار. فالأصل أن يمارس الإنسان حريته من دون قيد، والاستثناء أن يفرض بوعي منه ضوابط لهذه الحرية محافظة على استمراريتها وليس تضييقاً منها.
فمن حقه مثلاً أن ينخرط في فلسفة معينة يختارها لنفسه بمقتضى التجربة أو التأمل أو حتى التقليد، لكن ليس من حقه فرض رؤيته على غيره لأن الفرض ينال من استقلالية الغير ويهدد اكتسابه الحرية بدوره. ومن حق الفرد أن يسلك سلوكاً معيناً، على ألا يترتب عليه منع آخر من حقه في اختيار سلوكه، في حدود المحافظة على قواعد العيش المشترك.
وغالباً ما يعبّر عن هذا المبدأ بالعبارة المشهورة: “إن حريتي تقف عندما تبدأ حرية غيري”، وقد أطلقتها فلسفة الأنوار اختزالاً لرؤيتها الجديدة للعلاقة بين البشر ونقداً متضمناً للفكر القديم، إذ اعتبرت الحرية قضية تعايش بين البشر أولاً وآخراً.
بيد أن وضوح العبارة ينبغي ألا يحجب عسر تنزيلها في الواقع، لأن الذات تسعى إلى توسيع حريتها فتضيّق على الآخرين، ويترتب على هذا التنازع أن تكون ضوابط احترام استقلالية الذات ضوابط متغيرة، فلا مناص من تأويل هذه الضوابط وتنزيلها في السياقات المختلفة، بل الإقرار باختلافها اختلافاً واسعاً عند الانتقال من وضعية إلى أخرى.
وعلى سبـــيل المثال، نرى أن البشـــر قـــد توافقـــوا منــــذ أقدم الأزمنة على تحريم القتل، لكنهم وضعوا استثناءات لهذا التحـــريم، فعرفت بعــــض المجتمعات ظاهرة تقديـــم القرابين البشرية لتضمن استمرار رضا الآلهة وتوفيرها معاش الإنسان، ولم تنظر إلى هذه القرابين على أنها نيل من حرية الأفراد، بل اعتبرتها على العكس من ذلك ضرورة لضمان ازدهارهم، ثم فرضت مجتمعات أخرى مبدأ القصاص لضمان استقرار المجتمع والحد من الثأر بين أفراده، ولما اختفى الثأر من بعض المجتمعات تراجعت عن مبدأ الإعدام من الأســــاس، معتبرة أن هذا المبدأ لم يعد ضرورياً لحصول العقد الاجتماعي واستقراره. فالحرية قيمة بشرية قديمة، لكن مضامينها تختلف وفق المجتمعات وتطورها.
كـذلك كانت مجتمعات قديمــــة تمـــنع المرأة مـــن الخــــروج من البيت تفادياً لأن تختطف وتصبح خادمـــة أو أمة لدى مجموعة أخرى، لكن استمرار منع المــــرأة مــــن الخروج والتنقل في مجتمعات متحضرة وآمنة يقلـــب الخـــوف علـــى حريـــة الــــمرأة إلـــى منـــع لهذه الحرية، بمـــا يمثـــل أبشع أنواع الاعتداء على الشخصية البشرية.
ولعل أفضل مثال على نسبية تصور الحرية مع مطلقية مبدأ الحرية ذاته هو العبودية. فقد اعتبرت على مدى قرون جزءاً من طبيعة الأشياء تقاس على الإعاقات الجسدية الثقيلة التي تنزل بالإنسان فتسلبه الحرية من دون أن يتحمل أحد مسؤوليتها، وقد شاركت في هذه الرؤية كل الحضارات القديمة من دون استثناء، وإنما كان الاختلاف بينها في درجة حرصها على تخفيف القضاء على من حلّ به.
ثم اقتنع البشر في مرحلة حضارية أخرى بأن العبودية ظاهرة اجتماعية ابتدعها البشر وعلى عاتقهم تقع مسؤوليتها، فلا بد من إلغائها من الأصل للاعتراف بحرية كـــل كائن بشري، حتى لو استمرت معاناة البشر الأحرار مـــن الفقر والبؤس والاستغلال، لأن قضية البؤس غير قضية الحرية، وقد كان عبيد وإماء كثيرون يعيشون حياة مرفهة في قصور الأمراء والأعيان والأثرياء، ولم يكونوا بائسين.
من الضـــروري حينئـــذ أن يعاد تعريـــف ضوابط الحريـــة وفق تطـــورات التاريخ والمجتمع، ولو كانت الحـــــرية خاضـــعة لشكل أبــــدي ثابت لمـــا قبلنا الآن الكثير من أنمـــاط الفكر والسلوك التي كانت مرفوضة ومدانــــة قبل بضعة قرون، أو على العكس لما أجمع الناس في العــــصر الحديث على إدانة أنماط كانت متداولة وشائعة في العصور القديمة.
ومن دون هـــذا الجدل بـــين مطلقية المبدأ ونسبـــية تصوراته وفق تغيرات الأحوال والأزمنة يحافظ المجتمع في آن على الحرية والعيش المشترك، في ظــــل اعترافه باستقلاليته في تسيير شؤونه، بما يمكّنه من أن يجعل الحرية المبدأ والتضييق منها استثناء لا يلجأ إليه إلا عند الضرورات التي يقتضيها العيش المشترك.