المرض بالإسلام… تأثيماً وخطاباً من أبلسة وكراهية
ياسين الحاج صالح
لجورج طرابيشي، المفكر السوري المعروف، كتابٌ بعنوان «المرض بالغرب»، يُجري فيه ما يفترض أنه «تحليل نفسي لعصاب جماعي عربي». لا يُعرِّف الكاتب عُصابنا الجماعي، لكن يبدو أننا معصوبون بالغرب، «مُعقّدون» منه، ننكص إلى الماضي هرباً من حاضر جارح يهيمن الغرب عليه. والحال، أياً يكن القول في تحليلات طرابيشي النفسية، فلا شك في تمركز مفرط حول الغرب من قبلنا، ثقافياً وسياسياً، ومع كثافة كبيرة في الشحنة الانفعالية دوماً. الغرب إما منبع كل خير وإبداع وتقدم، وإما مصدر الشر والعنف والبغي والعدوان. وحيال هذا الغرب الفاتن (الساحر والمدمر) طورنا استجابتين نفسيتين: الكراهية العمياء والعداوة التحريمية لكل ما هو غربي، أو المحاكاة السلبية، العمياء أيضاً، لأوجه الحياة الغربية، غثُّها أكثر من ثمينها.
وذو دلالة أن طرابيشي لا يجد ما يقوله عن الاستجابة الثانية. انشغاله الإيديولوجي بإبطال نزعة العداء للغرب، وانفعاله الشخصي ونزعته النضالية، تجعل هذا الوجه من المرض الذي يدرسه غير مرئي.
لكن ليس هذا ما تهتم به هذه المقالة. نريد الاستفادة من عنوان كتاب المثقف السوري للكلام على ما نسميه «المرض بالإسلام». يتعلق الأمر بانشغال مفرط بـ «الإسلام»، يجعل منه السر الأوحد لتدهور أوضاعنا المعاصرة، أو الترياق الوحيد الشافي منها، مع التعبير عن ذلك دوماً بلغة مشحونة بالانفعال، ومع التقليل العنيد من شأن أية عوامل أخرى، ومع تكرار قول ذلك في كل مقام.
ويتظاهر «المرض بالإسلام» عبر مجموعتين متمايزتين من الممارسات والأفعال التكرارية. ممارســـات تقديســـية، ترفعه فوق كل ما هو إنساني، وتنكر اندراجه في أية مقولات عامة تشمله مع غيره، بما في ذلك مقولة الدين. «الإسلام هو الإسلام»، يقول الشيخ القرضاوي معترضاً على شرعية التمييز بين صيغ متنوعة لدين المســلمين بتنوع الأمكنة والأزمنة، الأمر الذي يمثل مقاومة متطرفة لتعقِّل الإسلام وتحليله، وتقريراً لخصوصية متأصلة له أيضاً. على أن صِيغاً وسواسية من التدين، تُركِّز كثيراً على «الهدْي الظاهر» (اللحية والنقاب واللباس، والقيافة بعامة) أجدر بأن تعتبر أعراضاً تقديسية. ومن هذه أيضاً فتاوى هاذية شاعت في السنوات الأخيرة، وتؤشر بمجموعها إلى انفصال مرضي جسيم عن الواقع.
لكن عبارة «المرض بالإسلام» تنطبق أكثر على ممارسات تأثيمية، تتمثل بخاصة في خطاب أبلسة وتشرير وكراهية، يجعل الإسلام منبعاً أولياً وأصلياً ودائماً لكل ما هو متدهور وجامد في عالمنا، مرضنا الدائم أو عاهتنا الخَلْقية المتوارثة. يتعلق الأمر هنا بضرب من التثبُّت النفسي المفرط حول مدرك «الإسلام»، والمثابرة على تسفيهه صراحة أو مداورة، مع الحرص أيضاً على إفراده عن غيره وعدم إدراجه في مقولة عامة، منطقية أو تاريخية. وبينما قد تعترض خطابات التشريريين على الخصوصية التي ينسبها الإسلاميون الى الإسلام، يفضِّلون هم أيضاً أن ينسبوا اليه خصائص لا تتغير، كأن يكون عنيفاً وعدوانياً ومتعصباً واستبدادياً، وأن تكون هذه الخصائص ماهوية تنبثق من صميمه، وليست تاريخية تظهر في شروط بعينها وتتبدل بتبدلها. أي أنهم خصوصانيون وجوهرانيون مثل الإسلاميين تماماً، لكن جهة أحكامهم على «الإسلام» وحدها تختلف عن تلك الخاصة بالإسلاميين.
وظاهر أن للنظرتين التشريرية والتقديسية أساساً إبستمولوجياً واحداً، هو الخصوصية.
واللافت في الصيغة التشريرية أو التأثيمية من المرض بالإسلام أنها دخلت السوق بقوة في هذه العشرية المنقضية من القرن، وأنها شملت عدداً غير قليل من مثقفين معروفين، وصارت تعود بالشعبية والشهرة المضمونة على بعض المشتغلين بها. الواقع أنها دعوة شعبوية هي ذاتها: منفعلة وخطابية ومتيقنة من عقيدتها مثل كل الدعوات الشعبوية، ومثلها أيضاً تشتغل بالتلميحات والرموز والعلامات والإشارات الخفية وكلمات السر ولا تسمّي الأشياء بأسمائها أبداً، وعلى غرارها كذلك تفعل فعلها عبر التماهي والتماهي المضاد. وليس القناع المفضل لهذا الضرب الرائج من الشعبوية إلا نقد الشعبوية، لكن مع تعريف الشعب ثقافياً (وفي الواقع دينياً).
بيد أنه يتعين هنا التمييز بين النقد الضروري للإسلام والشأن الإسلامي من جهة، وبين عُصاب الإسلام والعداء الموتور له من جهة ثانية. يتسم هذا الشكل المرضي بحدة الانفعال والنضالية والغضب من جهة، وبالتكرار اللامتناهي للأشياء والمواقف نفسها من جهة ثانية، وبالحصرية أو الانشغال الواحدي الثابت بالموضوع أخيراً. وكل هذه السمات مؤشرات على انشداد نفسي قوي، يحول دون الانفصال عن الظاهرة والنظر المُتجرِّد إليها، وعقلنتها بالتالي.
من المهم قول ذلك بغرض قطع الطريق على من قد ينتحل نقد الدين للتغطية على ممارسة عصابية موتورة، وكذلك على من قد يعتبر نقد الشأن الإسلامي مسلكاً عصابياً لمجرد أن هناك بالفعل أشكالاً موتورة وقهرية من عصاب الإسلام.
ومثلما أن أبلسة الغرب لم تثمر نقداً ثقافياً وفكرياً ذا قيمة للغرب، فإن مشكلة العداء الموتور للإسلام أنه يفشل في أن يطور نقداً جدياً بدوره. بالعكس، يمكن تَبيّن تناسب طردي بين شدة التثبّت النفسي السلبي وبين تدني المستوى الفكري والأخلاقي للنصوص المنجزة. إن فرص نقد مثمر للمجمل الإسلامي (أو للغرب) تمر عبر نقد هذه الصيغ العصابية، وإظهار دورها في إفساد التفكير والنقاش العام، وفي إفساد السياسة والعلاقات الاجتماعية أيضاً. إذ ليس المرض بالإسلام منفصلاً عن ممارسات وخطابات طائفية تزداد اليوم شيوعاً. والطائفية على كل حال نزعة شعبوية، بل هي الشكل المهيمن للشعبوية حين يجرى تعريف الشعب تعريفاً ثقافياً (فنحصل على «شعوب» متعددة، وشعبويات بعددها).
من وجهة نظر تاريخية، يلقى «المرض بالإسلام» تحفيزاً مما سمّاه عبدالوهاب بوحديبة «مرض الإسلام»، يعني «الأصولية» (في كتاب له هذا العنوان بالفرنسية، وقد ترجم إلى العربية بعنوان حميد أكثر: «أوهام الإسلام السياسي»). فما تحمله الجماعات الأصولية من تطلع الى السلطة والسيادة، ومن نموذج اجتماعي وأخلاقي صارم، وعزمها غير الخفي على فرض شرائعها الخاصة قانوناً عاماً، يثير تخوفاً ظاهراً في مجتمعاتنا المعاصرة، ويستثير اعتراضات ومقاومات، قد تأخذ الشكل المرضي المنتشر اليوم. للأمر علاقة بكيمياء تفاعل المكبوتات الثقافية التاريخية المتنوعة.
لكـــن من وجهة نظر تاريخية أيضاً، يمثل «مرض الإسلام» الأصولي استجابة مُعتلّة لتحول تاريخي كبير، «الحداثة»، فقد الإسلام بموجبه موقع السيادة السياسية والعقلية في مجتمعاتنا من دون أن تتطور نظمه الفكرية والقيمية والرمزية لاستيعاب هذا التحول، والتشكل في صورة جديدة.
وإذ لا يبدو في الأفق المنظور أننا سائرون نحو التعافي من «مرض الإسلام» ومن «المرض بالإسلام»، فلا أقل من أن نتعرف إليهما ونصفهما وصفاً شافياً. إذ كيف يشفى مريض يتكتم على مرضه؟