أسياد اقتصاد المضاربة ومطلقاتهم “الإيمانية المقدسة”!
ماجد الشّيخ
وسط تمنّع وتردّد دول العالم الرأسمالي، من أن تكون التدخلات السياسية هي الحاسمة، في منع تدهور الاقتصاد العالمي، والحد من الأزمة المالية التي تهيمن بظلالها المرّة على معظم دول العالم، على قاعدة “النظرية الإيمانية” القائلة بضرورة أن يوازن الاقتصاد العالمي نفسه بنفسه؛ وسط هذا التمنّع والتردد، تواصل الأزمة اشتغالها واختراقها سيادات الدول واقتصاداتها الواقعية، بعد أن انحازت شرائح النخب الحاكمة إلى نهج في المحاولات الإنقاذية للاقتصادات الافتراضية بسماتها المضاربة، واستفحال نمط من أنماط المقامرة بأموال المدّخرين، ودافعي الضرائب لصالح المتهرّبين من دفع ما يستحق وما يتوجب عليهم دفعه من ضرائب لمصلحة شعوبهم، ولو مؤقتاً بخسارة جزء من مدّخراتهم، بدلاً من هذه السياسات التدخلية لمصلحتهم فقط، وعلى حساب شعوب وأمم بأكملها، أضحت في ظل العولمة الحالية، تعيش على وقع استفحال الأزمة المالية والاقتصادية، وما يترافق معها من سياسات تقشفية، وإجراءات تحاول الحد من تسارع خطوات الإفقار الإجتماعي، كما في بعض دول الأزمة على جانبي الأطلسي.
أظهرت قمة العشرين في سيؤول أخيراً، ما كانت أخفته قمتي واشنطن ولندن من قبل، على صعيد وحدة قوى النظام الرأسمالي، لتظهر الفردية على حقيقتها، في اتجاه كل دولة التفاتاً نحو مصالحها القومية، في معزل عما كانت دعت إليه قمم “الثمانية الكبار” وقمم “مجموعة العشرين” في بدايات الأزمة، حيث باتت دول الفوائض كالصين وألمانيا، تطالب بشيء من التدخّل، تدخّل الدولة في الحد من دهورة الأزمة للاقتصادات المحلية، بدلاً من الاعتماد والطلب من الخارج أن يعمل على ذلك، عبر القروض وضخ طاقة جديدة في شرايين اقتصاد المضاربة، وتمويل ديون دول عاجزة عن النهوض بأعباء اقتصاداتها الواقعية. وفي تقرير اقتصادي دولي صدر حديثاً تحذير من أن عجز اقتصادات الدول المتقدمة، قد يتضاعف من الآن وحتى العام 2014، في ظل قناعات تتزايد يوماً بعد يوم بضرورة التدخل والترشيد من قبل الدولة. فيما الولايات المتحدة وحدها ما برحت تصرّ على سياسات تعرف قبل غيرها، أنها لا يمكن للاقتصادات العالمية وللأسواق في ظلها موازنة نفسها بنفسها، من دون تدخلات سياسية.
ولهذا لم تنته فقاعات الأزمة المالية العالمية، فما فتئت تنفجر هنا وهناك، مخلفة وراءها أزمات اقتصادية حادة في عدد من بلدان القارة الأوروبية، وهي في مبتداها وانطلاقها من محطتها الأميركية ذات أواخر صيف العام 2008، وانتشارها الواسع عبر البوابة الأوروبية، إنما دمغت وتدمغ النظام الرأسمالي بالوحشية، وبعدم إلزام نفسه الالتفات إلى مراعاة شؤون الناس ورعايتها، وإلاّ ما معنى أن تتخلى الدولة وفق أنماط النظام السائدة، عن مجموع الناس، ولتهتم بمعالجة شؤون النخب المالية والمصرفية التي غامرت، بل قامرت بأموالها وأموال الناس في اقتصاد رقمي افتراضي، معمّمة خسائرها على كامل قطاعات المجتمع، بعد أن كانت في السابق تحصد أرباحها الخاصة، من دون مساءلة ومن دون إشراك أي أحد معها، وها هي في أتون الأزمة أصبحت هي الشغل الشاغل للدولة، وما فوق الدولة وما تحتها. فأي اقتصاد يُراد إنقاذه؟ سوى أن يكون اقتصاد المضاربات، لا الاقتصاد الحقيقي. ولماذا تُجبر الدولة دائماً على تلك الملاءات المالية التي تغطي محطات مهمة من حياة اقتصاد افتراضي، لا دخل للناس من دافعي الضرائب به سوى في الملمات والمغارم، بينما تقتصر مغانمه لصالح فئات ونخب السلطة المستفيدة والمتنفذة والمسيطرة. ألم تدفع الدولة الأميركية للمصارف المتعسرة منذ بداية الأزمة، ثم ها هي الأزمة تواصل استفحالها، أقلها في هذا القطاع المصرفي الذي بلغت إفلاساته 149 مصرفاً حتى الآن. فأين هي الحلول التي وُعد الناس بها، بينما لم تستطع الأسواق أن توازن نفسها بنفسها، وتدخلات الدولة لم تكن لصالح تلك الحلول الشاملة، وإنما دافعها الرئيس، كان ويكون إنقاذ بعض المضاربين عبر السياسة الخاطئة أو “لا سياسة تعميم الخسائر وتخصيص الأرباح”.
وعلى خطى اليونان وإسبانيا وفرنسا، تشهد إيرلندا والبرتغال بدورهما، انعكاسات الأزمة داخل بلديهما، وذلك عبر اتجاههما الاضطراري لتبني خطط وسياسات تقشفية، انعكست إضرابات واسعة واضطرابات اجتماعية تهدد الاستقرار الاجتماعي، وربما السياسي كذلك، على ما هو الحال في ايرلندا. في حين تواجه البرتغال عودة التوتر إلى الأسواق المالية، لا سيما وهي تعزز قناعتها بأن هذا البلد، سيكون الدولة المقبلة في منطقة اليورو التي ستلجأ إلى طلب المساعدة الخارجية، بعد اليونان وإيرلندا.
وفي هذا الاتجاه، أعلن يوم (24 نوفمبر) الماضي أن الحكومة الإيرلندية كشفت تفاصيل خطتها التقشفية الرامية إلى توفير 15 مليار يورو حتى نهاية العام 2014، وذلك تمهيداً لمنحها مساعدة من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تبلغ قيمتها 85 مليار يورو، هي بمثابة “افتتاح خط اقتراض” على حد تعبير رئيس الوزراء الإيرلندي براين كوين. وهذا المبلغ لا يشكل كل المبلغ المطلوب، في حين أن نصف هذا المبلغ سيكون مخصصاً لتغطية العجز الإيرلندي المتوقع حتى العام 2013، والنصف الآخر لدعم رأسمال المصارف الإيرلندية، التي تعاني من أزمة سيولة مع عجزها عن الاقتراض من الأسواق، نتيجة نسبة الفائدة المرتفعة التي يطلبها الدائنون. ولهذا تأخذ الخطة في الاعتبار القروض الأوروبية التي ستوفرها “الآلية الأوروبية للاستقرار المالي” التي أنشئت في الربيع الماضي لمساعدة اليونان والدول الأعضاء، ممن يواجهون صعوبات في الحصول على القروض من أسواق المال.
وعلى رغم وجود المساعدات الخارجية لإيرلندا، فإن دعوات محلية إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة، قد يعيق خطة الانقاذ الحكومية المدعومة أوروبياً، ما وضع الحكومة الإيرلندية في موقف حرج، استدعت من رئيس الوزراء براين كوين، توجيه نداء للمعارضة من أجل المساعدة في إقرار موازنة عام 2011، قبل أن يدعو إلى انتخابات مبكرة، ويواجه كوين إضافة إلى الاستياء الشعبي من تعامله مع مسألة الإنقاذ؛ ضغطاً سياسياً شديداً، إذ تطالبه المعارضة بالتنحّي. لكنها كذلك تعهدت إعادة صياغة الخطة بعد إطاحة الحكومة الحالية، في انتخابات مبكرة من المتوقع إجراؤها في آذار (مارس) المقبل.
أما بالنسبة للبرتغال، فقد أظهر استطلاع للرأي، أجرته وكالة رويترز على 50 محللاً اقتصادياً، أن 43 من هؤلاء أكدوا أن البرتغال ستضطر إلى طلب دعم مالي خارجي، في وقت وصلت قيمة المضاربة الإضافية على سندات البرتغال السيادية مقارنة بالسندات الألمانية، وهو قياس لمدى الضغوط التي تمارسها الأسواق على الدول، إلى مستوى قياسي عند 481 نقطة، مقارنة بـ645 لإيرلندا و260 لإسبانيا.
وبذا فإن إجراءات التقشف البرتغالية التي أقرها البرلمان صيف هذا العام، وإقرار موازنة متقشفة للعام القادم في البرلمان أخيراً، لم تضمن بصورة كافية الابتعاد عن صدق تكهنات تتوقع أن تكون البرتغال، الدولة الأوروبية الثالثة التي تطلب مساعدات إنقاذية بعد اليونان وإيرلندا، فبعد مضي نحو نصف العام على إقرار إجراءاتها التقشفية، لا تزال الخشية قائمة من أن تتعثر البرتغال لتجد نفسها مكبلة بديونها، خصوصاً بعد أن انخفض معدل النمو خلال العام الماضي إلى 2،6 في المئة، في ظل انعكاس تداعيات الأزمة الاقتصادية على الحياة الاجتماعية، بعد تفاقم البطالة وزيادة مديونيات العائلات، الأمر الذي ضاعف من عدد الفقراء في البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية، وبحسب ما أعلنته بعض المؤسسات الاجتماعية، فإن كل رابع شخص يطلب المساعدات الاجتماعية في البرتغال يقضي يوماً كاملاً على الأقل بدون طعام.
مرة أخرى، وفي ضوء النتائج الكارثية التي تُنذر بها الأزمة المالية العالمية من عواقب وخيمة على الأداء الاقتصادي العالمي، وما يستتبع ذلك من أزمات اقتصادية أعم وأشمل، لا يبدو أن الأسطوانة المشروخة القائلة بموازنة الاقتصاد العالمي لنفسه، وتحكم الأسواق حتى بمسلكيات الدول، من دون الاستناد إلى تدخل الدولة السياسي والسيادي في الاقتصاد، وتأثيراتها على الأسواق، هذه الاسطوانة ليست كفيلة بمعالجات التعافي الاقتصادي أو المالي، من دون تدخل “السياسة السيادية”، بمعنى تدخل الدولة في كامل المعالجات التي تصب في مصلحة الأغلبية من الناس، الذين تسوقهم المعالجات الرأسمالية العمياء بمطلقاتها “الإيمانية المقدسة” نحو خدمة الصفوة، أو النخبة من أسياد الاقتصاد المضارب، اقتصاد الفقاعات القابلة للانفجار، كل ما آل الرأسمال المتوحش لفرض نزقه في فرض سياسات “تعميم الخسائر وتخصيص الأرباح” القابلة للاختفاء من الأسواق، لا للتدوير، أو دخولها دورة الحياة الاقتصادية للبلد أو البلدان التي تتلقى فوائض التدفقات المالية، في معزل عن إدخالها نسيج الدورة الإنتاجية، التي باتت مرذولة في عالم الاقتصاد والأسواق الافتراضية، وهنا مكمن الداء، لا الدواء الذي بات يقدم كسم زعاف، لن يقوى على إيجاد الحلول والمعالجات، مهما بلغت وتبلغ عملية طباعة العملة الورقية الأميركية من ضخامة بين الحين والآخر.