“الصمت في كل شيء” رواية سوداء زرقاء للغاليسي مانويل ريباس
رلى راشد
حيث الفساد والجريمة مغمّسان في سكّر الغواية
مانويل ريباس هو الأدب بعدما مرّ بمصفاة التاريخ فصار تأملاً. انه مرادف للدم الذي يسيل من الكلمة الجماعية التي لمسته قبل قرون في أرضه، في غاليسيا مسقطه لترفع رؤياه للعالم الى مرتبة المرثيّات. ربما لأنه آمن كما الفرنسي رولان بارت بأن الكتابة لا تسمح بالسير وانما بالتنفس فقط.
تتحدث روايات الاسباني الناطق بالغاليسية مانويل ريباس، كما قصصه القصيرة وقصائده ومقالاته، عن المهاجرين والمرميين بالرصاص والمضطهدين والمسافرين العجائز والطيور المزقزقة عند الفجر وتلك الهالكة في سكون على الصخور حيث يحطم البحر اليابسة. يبزغ نشيده الأدبي من مكان قريب ليعلن ان مغادرة المنزل الأول المحكوم بالأسطورة والحكمة، تصير فعل دفاع كونياً يخصّ الجميع. في غاليسيا يتبدى ريباس المولود في لا كورونيا في 1957، صوتا متحررا من حقبات الماضي اللاذعة ومن التهكم “الثرفانتيسي”. ذلك انه كان له ان يرى النور في قرية أوكلت منذ قرون بإيجاد “ماهيتها” او “قدرها” عبر منفذ البحر الوحيد، أَحَدَث ذلك من طريق الهجرة أم من خلال الانصراف الى جمع القشريات او الصيد او سواها من مهام بسطاء الناس.
تعاون مانويل ريباس مع صحف عدة من مثل “ايل باييس” و”دياريو دي غاليسيا”، ليساهم في تحقيق تبديل جذري في الأدب المكتوب بالغاليسية وينشئ مجلات عدة لم تعمّر طويلا. نال عن “مليون بقرة” (1990) “جائزة النقد الاسبانية” في حين منحته “في صحبة همجية” (1994) “جائزة النقد بالغاليسية”، ليكرّر الفوز بـ”جائزة النقد الاسبانية” بفضل “قلم النجار” على خلفية قصة حبّ استُقبلت كصاعقة كتابية تقدّمت في صيف العام 1936 على خلفية الحرب الأهلية الاسبانية.
يكتب ريباس بالغاليسية والقشتالية فيظهر كمن يسلب من كل لسان ايقاعا خاصا وخلاصة للأفكار وجمالا واستعدادا للشاعرية وميلا فطريا الى الاقتصاد الكلامي والفورة البلاغية. والحال ان الفيلسوف الإسباني ميغال دي اونامونو يشير الى ان مواطنه الكاتب رامون بايي اينكلان اختار القشتالية صدى كتابيا، غير ان التواءاته النصية ظلّت غاليسية. يمكن ادعاء الامر عينه بالنسبة الى ريباس. يهتم الكاتب بالعناق بين اللغتين والترقيع والعلاقات المريبة التي تجمعهما، او لنقل لعلاقات الحبّ الحرة التي يفترضها التماس الملتهب بينهما. تلك الصلة المحتدمة والمتكاتفة على السواء، هي النزوة التي تحثّه على الكتابة والاقدام على اصدار روايته “اندثار الثلج” قبل سنوات عدة بلغات اربع في المجلد عينه، كفسحة للتنوع البيولوجي.
في الشهرين المنصرمين، فإن صدور رواية ريباس الأحدث “الصمت في كل شيء” (دار الفاغوارا الاسبانية) وضع الكاتب في مقدمة العائدين. والحال انه قدم لينخرط في شبكات مروّجي المخدرات وفي التبعات الاجتماعية التي يولّدها نشاط مماثل. الرواية رصد لنجاح اجتماعي يعرفه المهرّب ماريثكال الذي يستحيل مروجا للمخدرات، فيما يوّسع سطوته الى حدّ الإطباق على القسط الاوفر من قرية بريتيما المتخيّلة المطلة على الشاطئ الاطلسي. تصل اصابع تدخله الى حذافير المؤسسات القائمة، فضلا عن معيش الآخرين ايضا، فتبين سلطته على نسق يجهل الحدود والقوننة. تأثير ماريثكال، عام وفسيح وقابض، لا يعفي احدهم، ومن بينهم الاطفال ايضا.
يجوب الاطفال فينس وليدا وبرينكو الساحل بحثاً عما تبصقه الأمواج، ذلك ان الأزرق الكبير في منظورهم مساحة للاكتشاف المستمر. من المسلّم به ان مخلّفات عمليات الغرق غنيمة لاولئك الذين يجدونها. يعلم الأولاد بهذه القوانين كذلك. ليدا الطفلة التي تغدو امرأة قبالتنا، تدرك المسألة هذه، فيما تسعى الى المحافظة على وفائها وصداقاتها. يعلم فينس بهذا ايضا ذاك الطفل الساذج الذي يسلب البحر منه الماضي ويقدم اليه مستقبلا، في حين لا يغفل برينكو بدوره عن هذه الحقائق، وهو من ثلة اشخاص يخيّل الينا ان مستقبلهم مدموغ منذ البداية بتفاصيل شتى. يقتات هؤلاء الأطفال من هبات المياه المالحة التي تلامس اطراف قريتهم حيث تتمحور الحكاية، غير ان قدر الثلاثة ينعطف تماما عندما يتقاطع ودرب ماريثكال، غورو الأيام المقبلة. سيتشكلون عندئذ وينمون في وسط عالم يغزر فيه الفساد والجريمة المغمسان في سكّر الغواية. لن يتأخروا في بلوغ سن المعرفة فينزعون عنهم البراءة التي لم يعد لها مكان في جوار المروج. بينما يواصل ماريثكال إطباقه على القرية كأمبراطورية يقيم في ظلالها، حتى لا يسع احدهم من سكان بريتيما ترك ماضيه يتعفّن. انه إله كآلهة آخرين يصرف ايامه يخطط على نحو مثمر مشيعا عمى جماعيا.
تلاقي الرواية ماهية اعمال البيروفي ماريو فارغاس يوسا. انها على شاكلتها خريطة لبنى السلطة وصور المقاومة الأكيدة، ناهيك بكونها شريطاً من الصور تقول التمرّد وفشل الفرد اللذين تحدّثت عنهما الأكاديمية الأسوجية عند منحها نوبل الآداب ليوسا. نجد في جوار “الصمت في كل شيء”، قوة الكاتب خوان رولفو الاستدعائية كذلك، وانما بأسلوب مانويل ريباس الشخصي والابتكاري. والحال، ان الرواية مقسمة جزءين. يظهر الكاتب في الأول تفاضلا روائيا في وسط شخوصه، ليبدو كمن يقشّر خيطا رفيعا يفصل بين براءة اللامبالاة والإذعان، في قرية مصابة بضآلة الموارد في عهد الجنرال فرنكو. في حين يقود ريباس جزء الرواية الثاني صوب النمط الجرمي الأسود، من دون ان نتغاضى عن ان الأهم يسكن في صراع داخلي يطرق مسار كل مقيم في بريتيما. ليس من باب الاعتباط تالياً ان تعني كلمة “بريتيما” في اللغة الغاليسية الضباب.
“الصمت في كل شيء”، كتاب معدّ لذوّاقة الأدب، ينبغي تاليا ان يتلقى القارئ الكلمات ببطء وتأنٍّ ويتنشق شذاها في الصفحات المئتين والخمس والأربعين، ليصير استيعابها على هذا النحو مجديا. يتبيّن النثر القاطع واللاذع في آن واحد في لحظة مبكرة، فيطوف مثل وحول مستنقع هامد تم تحريكها ليتبلور عالم على شفا المفاهيم حيث تشكّل فسحات الصمت كل فرد يجلس في الصفوف الأمامية.
يستهلّ ريباس الكتاب بالقول: “لا يخدم الفم للكلام وإنما لفرض الصمت”، لتلحق بهذه المقاربة أخرى تجبرك على السؤال ما اذا كنت كشخص داخل التاريخ او خارجه. يكتب ريباس مثلاً: “تؤمن على نحو ساذج بعالم حيث يطالع الجميع ويخيّل اليك انهم من طراز المثقفين، بل تذهب أبعد فتتصوّر أماكن حيث تجد مكتبة في كل منزل وحيث أطلق ناد للقراءة في كل حانة. وإذا وقعت جريمة لسبب معيّن فبأسلوب نبيل فحسب. يراودك عالم حيث يملك المجرمون بلاغة ماكبث او مورسو”. نفهم تاليا اننا في عين التاريخ بلا ريب.
إذاً، هل يمكن القبض على تفاصيل ريباس القادر على الافصاح عن هذا كله؟ تعدّ الرواية كتاب الشخوص المركّبة وانما التامة التي تمنح حياة لحكاية قاسية غير انها قابلة للتصديق، تخفف من حدتها لغة فاتنة وجريئة تسوّق للتقليد الغاليسي الباطني. انها قدرة البحر مصدرا للحياة، بحر يعطي كثيرا غير انه يأخذ أكثر. لا يمكن ايجاد افضل من الغاليسيين للبوح بالمشاعر التي يكنّها. “الصمت في كل شيء” رواية سوداء، وربما تكون رواية زرقاء على منوال البحر ينجح ريباس من خلالها ببعث مناخ عنف مناطقي صميم الى درجة يستحيل خلطه مع سواه، يحوم في جوار مجموعات مافيوية اكثر فتكا قطنت الأدب.
كان ثمة زمن شكّل فيه تهريب التبغ والكحول ضرورة تم التعامل معها وقبولها في تجربة الاقتصاد الغاليسي الهزيل، لتظهر امثلة كثيرة على نسق ماريثكال. هؤلاء اشخاص غامضون ومريبون استنفدوا قدرات الاخرين على الاحتمال فاشتغلوا في الاتجار بالمخدرات والأسلحة. بيد ان ذاك الصمت الدقيق السائد بمثابة صكّ للنجاة بالحياة راح يحترق رويدا. رأت غاليسيا وتكلّمت. ليبدو المدّ والجزر في هذا الشريط البحري، في هذا المدّ الفسيح من الكيلومترات حيث تمرّ تيارات مختلفة القوة، آلية مناسبة لسحب الذكريات من السبات.
على الرغم من تضمن الرواية اربعة تفاصيل مؤشرة الى الزمن حيث تتبلور الحكاية، يمكن الحديث عن قصة تتراءى خارجة على الوقت، بعبارات مبهمة على نسق: “كان يا مكان في قديم الزمان”. غير ان ريباس يعي كيف ينبّهنا الى ان ما يريد الافصاح عنه لا يمتّ الى القصص الخرافية، بلا ريب. ليس المكان بعيدا جغرافيا الى هذا الحد ولم تجرِ الحوادث منذ زمن طويل ايضا. انها غاليسيا، أما ما يحدث فقد حدث البارحة فحسب.
يهيم ريباس بين الشعر والسرد. يمكن تشبيه مساراته المتشعبة تلك برسم تخطيطي حيث دوائر عدة بعجوة واحدة، فيما يظلّ الشعر دوما وفي كل الحالات الدائرة الأولى، مكانا لانبثاق طاقة الأدب. ذلك انه ينبغي للأدب ان يكون شعرا او لا يكون، فالشعر ليس تخمّرا شكليّا فحسب وإنما هو تعريف أساسي للإنسانية جمعاء. يقلّد الأدب عند ريباس شطحات الانسان في ما يخصّ الوحشية والضياع في عرض الأمواج، على أمل ان يجلب المدّ وثائق الأمل ممهورةً بإذن التطبيق في المحصلة. نتخيّل إرادة المرء مزعزعةً أحيانا، غير انه ليس هناك امكان سوى ان يتفتح باب الذهن ما إن ينفتح غلاف أحد عناوين هذا الكاتب الاسباني. يقع الكتاب بين يدينا، فيما ينبغي لنا ايضا ان نقع في يديه. لا يمكن في هذا السياق ان نأتيه من دون استعادة ثلّة قصصه القصيرة التي نقلت الى السينما، من بينها حكاية “لغة الفراشات” المؤثرة المأخوذة من مجموعة “ماذا تريدين مني، يا حبي؟”. تلك حكاية عرّفتنا الى أستاذ مدرسي في منطقة ريفية في الزمن السابق للحرب الأهلية الاسبانية، استبقت المأساة بيد انها لم تستغلها وتم منح نسختها البصرية بمقاربة خوسيه لويس كويردا جائزة “غويا” السينمائية لأفضل اقتباس.
“الصمت في كل شيء”، رواية تقتفي دوران الجريمة وإفساد روح الإنسان حولها، وإن اعترض المشروع النهائي عثرات احيانا. في اسبانيا التي لازمها بعدٌ مضيء وقاتم في آن واحد، ذلك ما نراه يحتلّ لوحات غويا الغامرة بواقعيتها، يقطف ريباس الشيء الإضافي الذي يستر الذاكرة بينما يحملها في داخله، يهدهدها كطفل يوشك ان يغفو.
مقتطف: الــصــمــت فــي كـــل شـــيء
“لا يخدم الفم للكلام وإنما لفرض الصمت”.
انه احد أقوال ماريثكال ردّده والده كأنه لازمة. والحال ان فيكتور رومبو او برينكو فحسب، تذكّره، عندما تنبّه الشاب الآخر مذعورا الى موجودات الحزمة النادرة التي أخرجها من سلّة الصياد ذات الغطاء وطرح السؤال الذي كان عليه ان يطرحه.
– ما هذا؟ ماذا ستفعل؟
أجاب باختزال: يملكون أفواها ولا ينطقون.
كان التيار على انخفاض او في صدد الإرتفاع، غير انه بدا غريبا في سكونه الساحر. وقف الاثنان، اي برينكو وفينس، في المكان، في اعلى سلسلة الصخور القريبة القائمة فوق سطح البحر، عند قدم المنارة، وتحديدا عند رأس كونس، في مطرح لا يبعد كثيرا عن الصلبان الحجرية التي كانت تذكّر بالغرق المتكرر والصيادين الموتى.
في السماء، بدت نوارس البحر كأنها تعتني بمصباح المنارة، فيما كانت تلتقط الصمت بمناقيرها. كان ثمة ما يشبه المعرفة المسلّية في يقظة طيور البحر تلك. في حين ساد شعور يذكّر بهمس المنفيين. ابتعدت لتعود لاحقا وتتراءى اكثر قربا، منتظمة في حلقات جلية ولتظهر اكثر وقاحة في كل مرة. كانت تسكر بهذه الثقة، وتتقاسم بتأبّه واضح سراً يفضّل الآخرون ان يتغاضوا عنه.
نظر برينكو على نحو موارب، بعدما ألهته فضيحة طيور البحر. ادرك انه سبب الصخب الدائر. انها تترقّب وتنتظر الاشارة الحاسمة.
قال فينس: يعلم والدي أسماء جميع هذه الصخور، يدرك اسماء تلك التي يمكن رؤيتك والأخرى التي لا تظهر للعيان.
ليقول برينكو الذي تعلّم اتخاذ مواقف تنمّ عن المقت وكان يروق له مذاق نمط الجمل اللاذعة: ليست الحجارة اكثر من حجارة.
ليضيف وهو يقبض بشدة على خرطوشة الديناميت بعدما شحنها بأسلوب الخبراء:
– سيصير والدك ذئب بحر في المحصلة، لا يسعك ان تنكر ذلك. غير انك سترى الآن وبأمّ العين كيف يتمّ الصيد بالأسلوب الصحيح.
أشعل فتيلة الخرطوش وأبقاها لبرهة عالياً. حملها بدم بارد بينما نظر فينس صوبه مصعوقاً. رماها لاحقاً بقوة بل بحرفة لافتة فوق الصلبان الحجرية. لم يلبث ان وصله دوي الانفجار في البحر. انتظرا. تسارعت حركة نوارس البحر، راحت تطير جماعات وتزعق بإيقاع متضامن لترافق كل وثبة لبرينكو على الصخور. بعدذاك سمّر فينس نظرته صوب البحر قبل ان يقول:
– ستغدو علامة على الخوف من الآن وصاعدا.
– عن اي خوف تتحدّث تحديدا؟
– لن يعود السمك. لن يعود السمك الى حيث انفجرت أصابع الديناميت.
– لماذا؟ لماذا يقول أبوك هذا؟
– انه لأمر معروف. هذا هو المكسب.
– طبعا يا رجل، طبعا ردّ برينكو هازئا.
سبق ان دارت أحاديث مماثلة في عرض البحر وصار فينس يعلم كيف يجيء بالجواب المناسب لإسكات اي اعتراض: ستقول من الان وصاعدا ان للسمك ذاكرة!
ابتسم فجأةً. يمكن قوة ان تقضي على أخرى في دواخل المرء، وهي تلك التي تمهد للضحك تحديدا. تذكّر احدى جمل ماريثكال، احدى تلك التي تسمح بالفوز، في حين تسلل الى فينس مالبيكا احساس بالذعر تعاظم في كل مرة اكثر بسبب الانتظار. بان صامتا وشاحبا مثل التائبين.
انه ابن قرية بالو في سانتا كروث.
قال برينكو: في حال ظللت فقيرا لوقت طويل، ينتهي بك الأمر تتغوط مثل النوارس تماما.
كان يعلم ان كل جملة نطق بها ماريثكال أفسحت المجال لأمور جمة وانه لا يمكن ان تخيب آماله. في حين من المزعج حقا امتلاك مصدر إلهام مماثل. غير ان برينكو اكتشف امرا غريبا يتعلق بأسلوب ماريثكال. فيما كان يرغب في ان يتفادى تقليده قدر الإمكان، لم يلبث ان شعر بأنه يلتصق بشفتيه، لاحظ انه يسيطر عليه. جلس برينكو وفينس على الصخرة وغطسا أرجلهما الحافية في بركة المياه الصغيرة، إحدى تلك التي يتركها الجزر. بانت في ذاك الحوض حديقة شقائق نعمان تجلّت كعلامة وحيدة على وجود الحياة ها هنا. انصرفا الى لعبة تقضي بمحاولة جعل أصابع أقدامهم تتلامس. تسبّبت هذه الحركة البسيطة بجعل البراعم الزائفة تحرك أذرعها.
قال برينكو: يا لهذه العاهرات. تدعي انها ازهار في حين ليست سوى عليقات.
اما فينس فلفت الى “ان الفم هو القفا في آن واحد في ما يعني شقائق النعمان، ذلك انه الثقب عينه”.
نظر اليه الآخر غير مصدّق. كان على وشك النطق بكلام يحمل تبجّحا مدوّيا غير انه تدارك الأمر في اللحظة الأخيرة وصمت. كان فينس مالبيكا مطّلعا على تفاصيل كثيرة تتعلّق بالسمك والحيوانات، وعلى أمور سواها ايضا، كان يتجاوزه من حيث المعرفة. انحنى برينكو، التقط شيئا من البركة ووضعه في فمه. أقفله ليترك وجهه يتضخّم كالأمعاء. عندما فتحه، سحب لسانه حيث تدلّى سرطان بحريّ حيّ.
– كم من الوقت يمكنك ان تبقى مقطوع الأنفاس؟
– لا أدري. نصف ساعة ربما، أو اكثر.
ظلّ فينس متأمّلا. ابتسم في باطنه. قضت قواعد اللعبة القائمة بينه وبين برينكو بأن يتركه ينتصر قدر ما شاء، فيما يرغم نفسه على ان يبدو كالمغفل.
تقصّد فينس ان يستفهم: نصف ساعة؟ اللعنة!
كانت تلك المرة الأولى يتقاسمان الضحك مذ وصلا الى رأس كونس. نهض برينكو وتفحّص البحر بدقة، بدا ان الضجيج راح يتعزّز في السماء، ذلك انه لم يلبث ان سمع صراخا رهيبا يزعزع الأنحاء. في وسط زبد الأمواج، ظهرت باكورة السمك النافق لكأن البحر سلقها. تحمّس برينكو لالتقاطها.
– ألم تلاحظ ما جرى للتو؟ ألا تعدّ ذلك أعجوبة بكل ما للكلمة من معنى؟
كان فينس ابن السيد المسيح. ابن لوتشو مالبيكا. قيل فيه، انه ابن لوتشو، او انه ابن امبارو. غير انه عرف بإسم والده خصوصا وهو كان يلعب دور السيد المسيح يوم الجمعة العظيمة، وذلك منذ أعوام عدة. عندما كان لا يزال فتيّا، رآه يلعب دور الجندي الروماني. كان يحمل سوطا ليجلد ظهر المسيح السابق ادموندو سيرغال، وكان بحّاراً هو الآخر. غير ان إدموندو غادر مسقطه ليشتغل على سطح المنصات النفطية القائمة في بحر الشمال. لكنه استطاع تدبّر أمره في العام الأول على ابرامه عقد العمل، وهو رجع لكي يتم صلبه في الموعد المحدد. غير ان مشكلة طرأت بعدذاك. يحدث ان يذهب الناس ويؤوبون وتصادفهم ظروف قاهرة أحيانا، فيضيّعون العناوين. على هذا النحو، برزت الحاجة الى مسيح آخر. لحلّ المشكلة، لم يكن عليهم سوى ان يوجهوا نظرهم صوب لوتشو مالبيكا. كان ثمة آخرون في وسعهم ان يلبّوا الطلب غير انهم كانوا ضخاماً. ومثلما يقول الكاهن، يمكن أيّا يكن ان يلعب دور المسيح غير ان ثمة محالاً في ان يكون الشخص بدينا. من المستحيل ان يكون لاعب دور المسيح مكتنزا، ينبغي له على نقيض ذلك ان يكون متخما بالألياف. هكذا اختاروا لوتشو مالبيكا، وكان الرجل قويّ البنية وهزيلا كالمغزل، بل مصنوعا من خشب الصليب عينه.
بيد ان مالبيكا كان شخصا متوترا ذلك انه بيّن عن حيوية يمكن ان تصل الى اقصى حدّ، ناهيك بأنه أبرز شجاعة لافتة.
اما ابنه فيليكس او فينس على ما ناديناه، فكان شبيها بوالدته ونمّ عن جبن واضح. بدا احيانا نابضا بالحياة في حين بان أكثر هدوءا في ايام أخرى. ليظهر في أيام سواها شبيها بالمومياء ساكنا مثلها تماما بل مزنّرا بالصمت.
في الواقع، لم تجمعه علاقة وطيدة مع والده يوما، غير ان ذلك لم يؤثر في ثقته بنفسه. لم يكن يناديه والدي او “بابا”. كان يسأل عن لوتشو مالبيكا فحسب. اعتبر البحّار خارج جدران المنزل رجلا ثالثا، على هامش اي تحديد، لا سيما تحديدا الوالد والإبن. كان على الفتى ان يحمي الرجل. ان يعتني به. كان يلمحه بالمصادفة يصل الى المنزل في حال سكر احيانا، وكان يهرع صوب الباب ليفتحه ويرشد والده الى الطريق عبر السلالم لكي يجنّبه السقوط. كان يخبئه كمهاجر غير شرعي، بغية تجنب اندلاع شجار في المنزل، ذلك ان والدته لم تكن لتتحمل رؤية زوجها يغرق في حالات مماثلة. في احد الأعوام إبان شهر الالام، قالت له والدته: اتمنى عليك ألا تناديه لوتشو وهو يحمل الصليب. والحال، انه كان يحسّ طفلا بالفخر لأن والده هو المصلوب، رآه يضع اكليلا من الشوك ليسيل الدم من جبهته ويلبس رداء بحزام من ذهب، وينتعل صندلاً. لفت الصندل انتباهه كثيرا، ذلك انه لم يكن من طراز الأحذية التي انتعلها الرجال في قرية بريتيما. انتعلتها بعض النساء في فصل الصيف بلا ريب، النساء اللواتي اتين صحبة ازواجهن الى المنطقة الهانئة للاستجمام، وكن يلفتن النظر بسبب أصابع اقدامهن بأظفارهن المطلية.
ترجمة ر. ر.
(عن القشتالية)
النهار