صفحات ثقافية

القارىء … شريكا للمؤلف!

null
خيري منصور
لم يكن ذلك القارىء الذي توجهت اليه فرجينيا وولف في كتابها الذي عنوانه ‘القارىء العادي’ عاديا بالمعنى التقليدي لهذه المفردة، فهو حصيف ايضا قدر مشاركته المؤلف والتّصادي معه، لأن القارىء او المتلقي ليس مجرد مُستهلك سلبيّ، او مجرد اسفنجة للامتصاص بدون تمحيص، لهذا فكل نصّ هو متعدد تبعا لاختلاف مستويات التلقي وتباينها معرفيا ونفسيا، وحين قال العقاد وهو قارىء محترف ان قراءة كتاب مهم ثلاث مرات أفضل من قراءة ثلاثة كتب جديدة.
لم يكن يفاضل بين كتاب وآخر، بل بين قراءة واخرى، فالقراءة الأفقية والمحايدة سرعان ما ينتهي مفعولها، لأنها ترتهن للحظات القراءة فقط، ومعظم الذين يقولون بأنهم قرأوا هذه الرواية او تلك، هم على الطرف الآخر ممن استقرأوا هذه الاعمال عميقا، واقتربوا من لحظات كتابتها الحميمة وكأنهم يشاركون المؤلف، حتى الترجمة لا تكون بغير هذا الاقتراب، بل هو شرطها، لهذا حين نقرأ تجربة جان روسلو في ترجمة اعمال ادجار الن بو نتعجب مما قال، وهو انه لعن أباه مع ادجار الن بو، وأخذ عنه الحقيبة والمعول وأصغى معه الى ندف الثلج فرفض ان يترجم عبارة معناها ما مضى لن يعود الى الفرنسية لأنها تحمل في ايقاعها صوت الثلح وهو يتساقط على سقوف الصفيح في مكان آخر …
وهذا ما قاله اثنان من شعرائنا العرب، سعدي يوسف الذي أصغى الى تنفس ريتسوس، وجبرا ابراهيم جبرا الذي تنفس من رئة شكسبير، اما سلمى الخضرا الجيوسي فقد وصفت ترجمتها المبدعة والآسرة لرباعية الاسكندرية لداريل بأنها كانت علاجا نفسيا، او ابداعا بديلا… ويبدو ان مصطلح القراءة بحدّ ذاته يعاني من التباس، خصوصا في ثقافتنا العربية حيث يبدأ القرآن الكريم بل يصدع بفعل امر حاسم هو اقرأ .. لهذا تعددت تأويلات هذا الأمر، فالأميون ايضا يقرأون لكن ليس في الكتب بل في تضاريس الوجوه وما يتلألأ في العيون، واحيانا يقرأون العالم عبر تجلياته في الضوء والعتمة، والصخب والسكون، وقد يكون البحر بالنسبة لأحدهم كتابا ازرق سطوره امواج تتعاقب لكنها لا تصل …
* * * * * * * *
عندما تطورت الطباعة من مرحلة كان قطيع عجول لا تكفي جلوده كتابا حتى الانترنت، كان بالمقابل على القراءة ان تتطور ايضا، وما يسميه بارت الكتابة في درجة الصفر يقابله ما يمكن ان نسميه القراءة في درجة الصفر ايضا، ذلك لأن القراءة البريئة لم تعد ممكنة، فالخبرة كما يقال رغم مكاسبها أفسدت الفطرة وأصبح القارىء يقارن ما يقرأ بما يتذكر او يتخيل فيضيف او يحذف تبعا لمزاجه النفسي في تلك اللحظات، وهذا ما يفسر ظاهرة بها قدر من الطرافة تتعلق بفن السينما، فالاعمال الروائية الكبرى التي تحولت الى افلام جعلت السينارست ينوب عن القراء في تجسيد هذه الشخصية او تلك فبعد ان كان زوربا بعدد قراء الرواية سُجن في شخصية انطوني كوين الذي جسّده، وكذلك العرّاب الذي سجن في مارلون براندو وصابر الرحيمي في الطريق لنجيب محفوظ الذي سجن في جسد رشدي اباظة وثمة عشرات الامثلة في هذا السياق!
اما أغرب ما قبل عن القراءة المعمقة وغير السياحية او الأفقية فهو ما قاله جان جويو وهو ان القارىء في لحظة ما من لحظات المشاركة مع المؤلف يتمنى ان يكون اثنين، ويضرب جويو مثلا بمسرحية اسبانية كان يقرأها وفي احدى مفارقاتها النادرة تمنى ان ينشطر الى اثنين كي يحاور كل منهما الآخر حول الموقف الذي أدهشه او ربما ليعينه على تلك الحمولة …
* * * * * * *
يشبه بعض المشتغلين في مهنة الثقافة وهي من اكثر المهن عرضة للمهانة والاستخفاف في زمننا فهم يعتقدون ان هناك فترة للرضاعة ما ان يبلغوا سن الفطام عنها حتى يبدأوا بالإرضاع! وحكاية الفطام عن القراءة باتت معروفة في اوساط تعتقد ان هذه المهنة هي مقهى شاسع للعاطلين، ليس عن العمل بل عن أنفسهم خصوصا في غياب النقد وتقاليده، والقول بأن هناك من يكتبون اضعاف ما يقرأون ليس مبالغا على الاطلاق، وهناك حديث شريف يختصر الكثير مما يمكن ان يقال في مناسبة كهذه وهو ان الله يحب ان يرى اثر نعمته على عبده والقارىء كما يكتب يحب ان يرى نعمة الثقافة على من يقرأ لهم! وليس معنى ذلك ان تتحول النصوص الابداعية الى واجهات لعرض المقروء، فالثقافة تتحول الى شحنة واحيانا الى رائحة فالجهل له رائحة يحزرها الأنف المدرّب، وهي رائحة لا ينافسها الا تلك الغدّة اللعينة في باطن ذيل الضباع!
* * * * * * * *
ان مثقفا واكاديميا ذا باع طويل في حقوله الراحل هشام شرابي لا يجد حرجا في القول بأنه تعلم من نيتشة فن الاجترار، فالقراءة اجترار من طراز آخر، ويضيف شرابي انه لا يستطيع الكتابة الا بعد قراءة ينفعل بها ويحس بأنه المرسل اليه الذي استهدفه المؤلف، تماما كما ان كاتبا آخر هو الألماني جورج ستاينر يعترف بأن القراءة تضعف الشخصية احيانا، وتقلل من احساسنا بأنفسنا ثم يتساءل : كيف يمكن لمن يقرأ ‘انّا كارنينا’ لتولستوي او ‘البحث عن الزمن الضائع’ لمارسيل بروست ان لا يدرك ضعفا في عمق مشاعره الجنسية، وكيف يستطيع ان يقرأ رواية ‘المسخ’ لكافكا دون ان يجفل اذا نظر الى المرآة ليتأكد من النجاة مما اصاب بطل الرواية سامْسا؟
* * * * * * * * *
ذات ربيع زارتني في منزلي سيدة ايطالية كانت من اقرب الاصدقاء للشهيد وائل زعيتر الذي اغتيل في روما وطَلَبَتْ من زوجتي ان تتيح لها المشاركة في اعداد عشاء فلسطيني تقليدي، وكانت السيدة تجمع مقالات عن وائل لإصدارها في كتاب، وان كنت أروي الحادثة فلأمر آخر غير الاستذكار، لأن السيدة فاجأتني بأن طلبت مني ان تقرأ عناوين عشرين كتابا في مكتبتي، وحين قرأتها بدءا من أول الرّفوف صرخت بانفعال وقالت: لقد صدقت نبوءتي، فإن نصف هذه الكتب في مكتبة وائل وبالتحديد على الرف الأول من مكتبته، وعرفت فيما بعد انها تبحث عن مشترك معرفي ونفسي ووطني وتاريخي بين من تقابلهم وبين وائل زعيتر.. ولم أتردد في ذلك المساء ان اقدّم لها نصّا لسعدي يوسف يرثي به وائل ويسأله بمرارة لماذا مات.. ومن أجل من؟ فالعجلات كما يقول سعدي مشت علينا جميعا وتلك حكاية اخرى!
لكأن السؤال هنا هو قل لي ماذا تقرأ لأعرف من انت وبالتالي استطيع ان احاورك ولو قام صحافي عربي بتحقيق صحفي موسع حول مكتبات المثقفين على غرار ما فعلته تلك السيدة، لوجد ان مكتبات الادباء توشك ان تخلو من كتب ذات قيمة في التاريخ والاقتصاد وعلم الاجتماع لأن تعريف الأدب في ثقافتنا لا يزال بحاجة الى اعتذار واعادة نظر، خصوصا بعد ان عرفنا كيف تحولت روايات كالتي كتبها ديستويفسكي وفلوبير وبروست الى مناجم سحرية لعلماء النفس والاجتماع!
* * * * * * *
ان المشكلة الطارئة التي نواجهها بعد أن اصبح الجهل مزهوا بقامته الجوفاء، هي ان من يقرأ عليه ان لا يجهر بمعارفه خشية من التهمة الجاهزة التي لفّقها الأميون ذوو الأقنعة الملونة وهي تهمة الاستعراض المعرفي، هنا تنعكس المعادلة تماما انسجاما مع زمن مقلوب يمشي فيه الناس على رؤوسهم وتعلو عيونهم على الحواجب، فبدلا من ان يخجل الجاهل ويعتذر عما فاته أصبح على العارف ان يفعل ذلك كي يبدو سويا وغير مصاب بعقدة الاستعراض!
والاحصاءات المحرجة لنا جميعا والتي تنشر في تقارير التنمية عن الانيميا القومية التي تفتك بنا غالبا ما تصرف الناس الى الخمسة آلاف نسخة من أكثر الكتب رواجا والتي يقرأها اكثر من ربع مليار عربي. السؤال الآخر المؤجل والمسكوت عنه هو تلك النسخ المباعة، فهل هي قرئت بالفعل ام تحولت الى اسرّة مريحة للغبار؟
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى