صفحات ثقافية

القارئ المتلصص

null
رشا عمران
في كتابه الجميل (تاريخ القراءة) يتحدث (ألبرتو مانغويل) عن “فعل القراءة” بشغف كبير وبهيام واضح كما لو كان يحكي عن قصة حب عظيمة عاشها في حياته ويفرد في الكتاب فصولا للحديث عن أنواع القراءة “قراءة الظلال” “القراءة بصمت “قراءة الصور” “القراءة الوجدانية” “مجازات القراءة” “القراءة الممنوعة” وفصولا أخرى للحديث عن أنواع القارئ “القارئ الرمزي” الكاتب كقارئ “المترجم كقارئ”!!. يحكي (مانغويل) عن “فعل القراءة” عبر التاريخ وعبر ما اختبره في حياته وفي حياة من عرفهم من الكتّاب والقرّاء المهمين من تأثير القراءة على النفس البشرية وارتباطها بفعل العيش وتداخل النص مع العالم والعالم بالنص من حيث كون الكتابة هي فعل قادر بلحظة ما على تنظيم الكون وبالتالي يصبح فعل القراءة هو “الاقتراب من شيء قيد الصيرورة” حسب (إيتالو كالفينو)!!.
لكن ثمة نوع من القراءة لم يتطرق إليه (مانغويل) في كتابه نوع قد يبدو مرتبطا بطريقة ما بالثقافة العربية التي حملت عبر تاريخها إرثا كبيرا من الازدواجية لدى الشخصية الثقافية العربية يعود بجذوره إلى ارتباط القيم الاخلاقية الاجتماعية بالقيم الدينية التي تحولت عبر الزمن من قيم كبرى وعالية وكونية إلى فتاوى متوالدة تتدخل في تفاصيل الفرد اليومية مما يشكل أرضية خصبة للازدواجية! وبما أن فعل القراءة في بلاد العرب هو فعل نخبوي ومحدود ضمن شريحة صغيرة تضم إلى الكتاب والمثقفين بعض المهتمين وبما أن الوسط الثقافي العربي وسط واحد ومكشوف لدى جميع أفراده فقد تشكل لدينا نوع جديد من القراءة لم يتحدث عنه (مانغويل) هو القراءة المتلصصة التي استلزمت بالضرورة قارئا متلصصا هذا القارئ الذي يبحث فيما وراء السطور ليس بقصد إنتاج نص جديد “على اعتبار ان كل قراءة للنص هي إعادة كتابة له من قبل قارئه” بل بقصد التلصص على حياة الكاتب الشخصية هنا تتحول المتعة التي يحصل عليها القارئ من متعة جمالية وفنية إلى متعة “كشف المستور” والتلذذ بما قد يعتقده هذا القارئ “فضيحة” كأن يحيل شخوص رواية ما إلى أشخاص حقيقيين وواقعين ومعروفين في الوسط الثقافي العربي عموما أو معروفين في المحيط الذي يمارس فيه كاتب النص حياته اليومية!!أو كأن تُقرأ قصيدة ما بمرجعية وحيدة هي المعرفة الشخصية للشاعر/ة وإحالة فهم القصيدة الى الحياة الشخصية لكاتبها!! أو كأن يبدأ القارئ بالغوص في تفاصيل النص الذي بين يديه باحثا فيه عما يمكن أن يدين كاتبه أخلاقيا وسياسيا واجتماعيا مستخدما معلوماته للإساءة لصاحب النص يوما ما!! يتناسى هذا القارئ المتلصص الذي قد يكون كاتبا أيضا في معظم الأحيان دور الخيال في عملية الكتابة ينسى أن الكتابة وإن كانت تستمد شروطها من الواقع إلا أنها تذهب بهذا الواقع إلى مساحات أخرى مضافة ومتخيلة وأن زمن النص ليس زمن كاتبه الحالي بل هو زمن يختص بلحظة الكتابة المنعزلة عما حولها!.
هذا النوع من القراءة أنتج كاتبا حياديا وأنتج نصوصا باردة وشبه معاقة وعاجزة عن الغوص في اللاوعي الشخصي للكاتب وهي المرحلة الأساسية للبدء في الفهم السيكولوجي لسيرورة الحياة! قلة من الكتاب العرب ما زالت ترى في الكتابة إحدى وسائل المعالجة النفسية الذاتية للتخلص من كل تراكمات أمراض المجتمع والتربية والتي أنتجت شخصية ازدواجية فصامية إلى حد ما هذه القلة هي التي تعي أهمية الكتابة والقراءة في عملية تنظيم الكون وفي إعادة إنتاج قيمه الكبرى هذه القلة تتحمل كل ما يوجه إليها من إساءات اجتماعية ثقافية “بمرجعية نصية” دون أن يجعلها ذلك تدخل في النسق الثقافي التلصصي السائد عربيا.
هل كان على (ألبرتو مانغويل) أن يضيف إلى كتابه فصل القراءة المتلصصة أو القارئ المتلصص كي يكون كتابه أكثر شمولية؟؟ أم علينا أن نشكره لعشقه لفعل القراءة العشق الذي منعه من رؤية جانبا سلبيا ما في هذا الفعل وبالتالي الكتابة عنه وتكريسه كنوع من أنواع القراءة باعتبار أن كتاب (تاريخ القراءة) مرجعية أساسية لكل من يريد البحث عن تاريخ عالم الكتاب المذهل.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى