ثلاث مدارس شرعية ومجمعان دينيان وثلاثة مقامات وأربع مساجد ضمن 300 متر فقط في مدينة دمشق
فاطمة الحسيني
“لم يكن مشهداً عادياً… ولم نكن لنراه في دمشق منذ 40 سنة ماضية… فخلال أكثر من ربع ساعة.. خرجت موظفات البنك المركزي من عملهن… واللواتي تجاوز عددهن المئة بالتأكيد… ولم تكن واحدة منهن غير محجبة!!!… لم نكن هكذا من قبل…” هكذا توصف السيدة هند ك. حالة التدين التي تعيشها سوريا بالفترة الأخيرة..
وتضيف هند “ليس الأمر متعلق بالحجاب أو بغيره.. لكن هذا الكم من المحجبات بمكان واحد.. يعني أن خللاً يحدث في المجتمع.. أن حالة من التدين يعيشها المجتمع السوري والتي بحاجة لتحركٍ ما برأيي.. فهذا يؤثر على نهج العلمانية الذي تسير عليه سوريا منذ السبعينيات وحتى قبل”..
التدين لم يقف عند حدود موظفات البنك المركزي.. فالمظاهر كثيرة بدأت مع انتشار الحجاب بكثرة.. وظهور القبيسيات للعلن منذ عدة سنوات.. لتنتهي عند مواطن يقلع بلاط منزله.. حتى يعيش حياة التقشف.. كما كان الرسول محمد (ص) يعيش… والتي لا أحد يعلم إلى أين قد تصل…
ولعل اكثر مكان تديناً في دمشق ينحصر على مسافةِ 300 م تقريباً في منطقة ركن الدين بالمنطقة القريبة من جبل قاسيون، في الحي الذي يمتد من مجمع أبو النور حتى مجمع الشيخ راتب النابلسي، وهو حي قديم بني في العام 1170.
تجمع ديني كبير يمتد على 300 م في دمشق
الحي يعتبر من الأحياء الشعبية يسكنه عدد كبير من المسلمين الأكراد والعرب السوريين من المحسوبين على الطبقة الفقيرة وبعضهم يحسب على الطبقة المتوسطة.
يحوي الحي، وهو جزء من منطقة الشيخ محي الدين التي تبلغ مساحتها حوالي 1كم تقريباً، أربعة جوامع علماً أن عدد المساجد في مدينة دمشق المضبوطة وغير المضبوطة 503 مساجد حتى نهاية العام ألفين وثمانية.
كما يحوي على ثلاث مدارس شرعية لتعليم الدين الإسلامي واحدة منها قيد الإنشاء إضافة إلى معهد لتحفيظ القرآن وكلها مرخصة من قبل وزارة الأوقاف السورية، ويعد أكبرها مجمع أبو النور الذي أسسه عام 1971 مفتي الجمهورية السابق الشيخ أحمد كفتارو، ويهدف المجمع كما ورد في التعريف عنه من قبل المشرفين إلى تقديم خدمات تعليمية جامعية وعليا لمن لا يمكنهم مواصلة تعليمهم والحضور للدراسة بانتظام، فيقدم لهم خدمات التعليم المفتوح في مجالات الشريعة والدعوة وأصول الدين واللغة العربية والإعلام والاقتصاد الإسلامي بالإضافة لتقديم منح دراسية ضمن اتفاقات تعليمية مع الدول الإسلامية، وفيه مدارس لتعليم الطلبة في مستويات (المتوسط والثانوي والجامعية والماجستير والدكتوراه) ممن لا يستطيع مواصلة تعليمه أو لا يستطيع الحضور للدراسة بانتظام أيضاً، إضافة إلى ثلاث كليات تعطي شهادات بالتعاون مع جامعة أم درمان السودانية وكلية الدعوة الإسلامية في ليبيا وكلية الأوزاعي الإسلامية في لبنان، كما يتلقى تبرعات للمدارس الثانوية الشرعية من قبل جهات مختلفة منها بعض الجمعيات الكويتية، علماً أن الشهادات التي تصدر عن الكليات التابعة للمجمع غير معترف بها بجميع الفروع سواء من اللغة العربية أو القانون أو الشريعة الإسلامية حتى الدراسات العليا.
ويرى أحد الطلاب المنتسبين للمجمع أن “المجمع يقدم أكبر فائدة يمكن أن يحصل عليها المسلم.. فهو يقدم علوم الدين ويعمل على تنشئة الأجيال ويربيهم تربية صحيحة.. بعيدة عن الفسق”.
يدرس في المجمع قرابة 8000 طالب وطالبة في جميع المستويات، ومن جميع الجنسيات، شرط أن يكونوا مسلمين، ومحجبة بالنسبة للطالبات، كما يضم المجمع سكنا للطلاب بأجور رمزية.
ويبلغ قسط الطالب المسجل في إحدى الكليات 20000 ليرة سورية سنوياً= 445$ تقريباً ، بينما قسط الطالب في إحدى المدارس يبلغ حوالي 5000 ليرة سورية= 112$ تقريباً سنوياً وهي أجور تعد رمزية بالنسبة لكلفة الالتحاق بإحدى الجامعات الخاصة أو التعليم المفتوح أو الجامعة الافتراضية وهي الخيارات المتوفرة للذين لم يحصلوا على المجموع المناسب للالتحاق بالكليات في الجامعات التابعة لوزارة التعليم العالي والتي تتراوح بين 500000 ليرة سورية= 11200 $ سنوياً للجامعات الخاصة و25000 ليرة سورية= 500$ بالنسبة لبعض فروع التعليم المفتوح.
يشرف على المجمع اليوم ابن الشيخ أحمد كفتارو صلاح الدين كفتارو والشيخ محمد رمضان سعيد البوطي وهما من أشهر شيوخ الدين في سوريا وتعتبر خطبة الجمعة التي يلقيها الدكتور البوطي هي الخطبة الرسمية التي يتم عرض نصها على موقع وزارة الأوقاف السورية على الانترنت، إضافة إلى عدد كبير من العلماء والفقهاء، علماً أن الشيخين البوطي وكفتارو الابن كانوا أول من طلب من الرئيس بشار الأسد في رسالة رسمية موقعة باسمهما بالعدول عن قراره بإيقاف القبول في المدارس الشرعية الذي أصدره في العام 2006 وعدل عنه فيما بعد بسبب الاحتجاج الكبير من قبل العلماء والفقهاء والمستفيدين من مسألة التعليم الديني في سوريا.
تنافس على أكبر مجمع ديني
وعلى مقربة من مجمع أبو النور الذي يحوي جامع عام وأكثر من مصلى يقع جامعين أحدهما تابع للمدرسة العمرية التي هي اليوم بقيد الترميم والتي تحوي على جامع ملحق بها ومقابلها يقع جامع الشيخ عبد الغني النابلسي الذي يحوي على مدرسة شرعية أيضاً ويشرف عليه الشيخ راتب النابلسي وهو من أبرز الأسماء الدينية في سوريا بعد الشيخ البوطي والذي برز بكثرة بعد أن تبنت إذاعة القدس التي تبث من دمشق ببث وعظة دينية يومية له يسمعها أغلب السوريين في كافة الأمكنة ووسائل النقل يومياً، وقد لمع نجمه خاصةً بعد تراجع شعبية الشيخ صلاح الدين كفتارو بعد ان تم اعتقاله والافراج عنه وكثرت الشائعات حول سبب اعتقاله بأنه يستغل التعليم الديني كوسيلة ربحية.
الشيخ النابلسي اليوم يقوم بإنشاء مجمع ديني لا يبعد عن مجمع أبو النور أكثر من 200 م باسم الجامع الذي يحوي ضريح للشيخ عبد الغني النابلسي إضافة إلى ثلاث مقامات أخرى للشيخ عبد القادر الأرناؤوط وهو من علماء الدين إضافة إلى مقام ديني آخر.
غياب المظاهر الحياتية العادية
خلال ساعتين من التنقل في أماكن مختلفة من الحي لم يتم مصادفة فتاة غير محجبة في الشارع وهو الأمر المستبعد في مثل هذا المكان الذي يحوي كل هذه التجمعات الدينية والذي تأذن فيه أربعة مساجد طول اليوم، كما أن رؤية النساء المنقبات و المخمرات هو شيء شائع بين سكان ذلك الحي.
يحوي الحي مدرستين غير شرعيتين للتعليم الابتدائي أحدهما مدرسة مختلطة، كما هناك نادٍ رياضي وحيد للياقة وهو للرجال فقط، بين عدد متواضع من المحلات التي تعود ملكيتها لسكان الحي والتي تؤمن لهم ما يحتاجونه دون الخروج من الحي من بقالة وغيرها….
ولا يحوي الحي مركزا طبيا أو مستوصف أو مركز ثقافي أو حتى مكتبة والمكتبة الوحيدة هي مكتبة مجمع أبو النور والتي لا يمكن دخولها سوى للمنتسبين للمجمع والتي يتم تقسيم التواجد فيها إلى ثلاثة أيام للرجال وثلاثة أيام للنساء، والتي تحوي على حوالي 15000 كتاب مقسمة إلى 19 قسم تتعلق بأمور الدين والحديث والفقه وتفاسير القرآن والفلسفة والتاريخ واللغة العربية والشروح والسيرة والتراجم فيما يحتل قسم الثقافة العامة أصغر قسم من المكتبة والتي تقتصر على بعض الكتب السياسية “ذات توجه معين” وكتب الصحة النفسية والمرأة… وألحقت بها مكتبة رقمية تحوي أقراص للشيخ راتب النابلسي والشيخ كفتارو وبعض الوثائقيات عن الحيوانات وأقراص ليزرية عن الشعر واللغة.
كما غابت جميع مظاهر التسلية والترفيه عن المكان كالمقاهي والمطاعم أو الأسواق التجارية، مكتفي بمحل يبيع الأغاني والأناشيد الدينية…
عدد كبير من رواد المساجد والمجمع والمدارس الشرعية هم من سكان المنطقة وهناك من مناطق أخرى حيث يتجمع بمجمع أبو النور يوم الخميس موعد الدرس الديني للشيخ البوطي حوالي 5000 شخص من رجال ونساء، وفي يوم خطبة الجمعة، علماً أن سوريا لم تسمح لأي وسيلة إعلامية بنقل خطبة الجمعة مباشرة من أي مسجد كان.
وترى إحدى المنتسبات لمجمع ابو النور أن المجمع حقق لها حلم حياتها لأن والدها لن يكن ليرضى بدخولها الجامعة أما في المجمع فهي تاتي كونه مطمأن من أن التعليم ديني وان لا فرصة للاختلاط مع الشبان.
وبالرغم من “تطرف” المكان ليس تطرفاً دينياً بل تطرفاً في توزيع “التدين” في داخله وسط العاصمة دمشق.. إلا أنه لا يعتبر حالة استثنائية.. ضمن حالات التدين التي بدأت تنتشر في جميع الاحياء السورية، بغض النظر عن انتماءاتها الطبقية.. او الاجتماعية.
كلنا شركاء