ذاكرة الحرب وفوضى الانتماء
ريتا فرج
بعد أن شهدت أوروبا حروباً دينية في القرون الوسطى، ترافقت مع حركة إصلاحية على المستوى الديني والسياسي والاقتصادي، وأنتجت سياقات عقلانية أدت إلى فصل الكنيسة عن الدولة، وإلى قطع الأوروبيين مع ذاكرتهم الدموية، ما زالت تداعيات الحرب الأهلية في لبنان قبل عام 1975 وبعده تمارس أشد أنواع العنف المادي والرمزي، سواء لجهة القطيعة مع الذاكرة المثقلة بالأسئلة وعدم الثقة بالآخر، أو لجهة العطب البنيوي الموجود في النظام السياسي اللبناني، وتشي حال شرائح واسعة من اللبنانيين الذين تناقلوا جيلاً بعد جيل الصدامات الجرحية منذ عام 1860 حتى الوقت الراهن، بالتصاق شديد العمق مع المراحل العنفية التي عاصروها، ولسان حالهم اليوم: ماذا يريد الآخر الديني أو السياسي منا؟ وهل سنعود إلى الاقتتال الداخلي الطائفي/ المذهبي من الجديد؟ الأخطر من هذه الإشكاليات المطروحة، غياب ثقافة وطنية جامعة، توحد التعدد على تناقضه، فالطوائف في لبنان، شيّدت جدراناً فاصلة على قدر الهواجس التي تعيشها، والأهم من كل ذلك أن الدولة غير قادرة على احتواء التنوع، ليس بتمثيله في المؤسسات الرسمية، بل ببناء وتفعيل شعور الانتماء إلى الوطن، والذي يحتاج بالضرورة إلى فترات زمنية طويلة، تفرضها ماهوية الشرخ التاريخي والعمودي، المكبل بدوره للعقد الاجتماعي القائم على الحقوق والواجبات، وليس نقل الانقسام الطائفي الى السلطة وركائزها الهشة. والحال ما الذي يجمع اللبنانيين؟ ولماذا لم يقطعوا حتى اللحظة مع ذاكرتهم أي ذاكرة الحرب ومفاعيلها التدميرية؟ ولماذا نجح اللبنانيون على المستوى الفردي ولم ينجحوا كجماعات؟
لا ريب أن التسرع في الإجابة، لا يسعــفنا في تحــديد مواضــع الضعف في البنية المجتمعية والدستورية أيــضاً، بنى المجتمع اللبنــاني على تنوعها وحراكها، تحتاج إلى التصــالح التاريخي بين مكوناتها، وإلى طرح كل ما أشكل عليها منذ عقود من قلق وجــودي من الذات والآخر، ومن السياسي والديني، وحتى لو اتخذ هذا الحوار صــيغة التنابذ والتلاقي في آن، من المهم تفكيك الذاكرة الجمــعية، والابتعاد عن الماضــي الذي يعرقل كـل تجــديد، والتجـديد يعني إقامة حــوارية مستــدامة بين اللبنانيين، لا تتــخذ مـن الأطر التقليدية معبراً لها، فالاندمـاج الوطني يقــتضي العمل على تذرير الخطاب الاقصائي، ويحـتاج إلى تنشئة الأجيــال القادمة، على معنى الوطن ومحورية الدولة، والمعـركة تبدأ مـن المدرسة مروراً بالجامعات، وصولاً إلى المؤسسات الرسمية والمدنية، وإذا لم يحدث ذلك، فالحرب الأهلية ستعيد إنتاج نفسها، وإن تزيت برداء طائفي حيناً ومذهبي حيناً آخر، وإلا ما معنى دخول لبنان في أتون الحرب بدءاً من عام 1860 إلى الحرب الخفية التي يهجس بها الجميع قبل القرار الظني وربما بعده.
سياسياً، الطبقة الحاكمة في لبنان تنتج فوبيا الحرب، وحتى الدستور يحتوي على عوامل منتجة لدوامة العنف، إن على صعيد المناصـفة، وإن على مستوى الشراكة الملتبسة بين أطراف التعدد، ومقارنة بما حدث في أوروبا إبان الاقتتال الكاثوليكي البروتستانتي، والذي أفضى إلى دخول الأوروبيين عهد الأنوار المتعاقب مع ثورة فكرية وسياسية واقتصادية، أنتج القطيعة مع الذاكرة والماضوية، لم يُقدم اللبنـانيون حتى اللحظة على القطع مع ذاكرتهم، فمتى نقطع؟ ولا نعيد إحياء المشاهد الجرحية ونعزز مفاصل الانتماء إلى الوطني وليس المحلي أو الاقليمي؟ أوروبا التي شهدت حرباً أهلية، استطاعت الخروج منها تراكمياً، عبر الفصل بين الكنيسة والدولة، وتعزيز المبادرة الفردية وتكريس حقوق الإنسان، وجعل التمايز أداة للوحدة. وبصرف النظر عن صحوة الهويات في بعض المجال الأوروبي، والأزمة التي تمر بها الدول الديموقراطية، فإن عودة سؤال الهوية، مرحلة عابرة ومؤقتة، يفرضها الصدام بين العولمة الرأسماليــة والثقــافات المحلية، وليس عجز الأنظمة نفسها، وعليه، فإن لبنان يعــاني خطأً بنيوياً في النظام، ما يرشحه إلى تكرار التجــارب العنفية، والصـراع على السلطة، ونشوة النصر، الذي مرت به كل الطوائف بدرجات متفاوتة، وإن بدت المارونية السياسية، الأكثر حضوراً في البانوراما التاريخية منذ عام 1920.
على المستوى المجتمعي، لا تتوانى الطوائف، في استحضار فشلها وإلغائها المبطن للمختلف، وإذا راقبنا التوزيع الجغرافي/ الديموغرافي للمجتمع اللبناني، نجد فيدراليات جاهزة، تنتظر الاعلان الرسمي عن جهوزيتها لبناء دويلات، وإقامة جدار وهمي عازل يفصلها عن مركزية الدولة من جهة، وجزئها المكمل من جهة ثانية، والجدار الوهمي لن يؤدي إلى حل عجز النظام، بدعوى الخصوصية والهوية، والعيش المشترك، بل سيكرس الانفصام بين الجماعات اللبنانية والدولة، ولعل إرهاصات الانفصال المرشحة للتصاعد في أكثر من بلد عربي، قد تؤسس للوقوع في المحظور، وتوقع لبنان مجدداً في الأدبيات السياسية الكيانية، والتقسيمية، على غرار ما فعله دعاة القومية اللبنانية سابقا، ومجدداً نعيد السؤال الذي طرحناه: ما الذي يجمع بين اللبنانيين؟ القلق من الآخر هو الذي يوحدهم، المشهد اللبناني المأزوم، الذي يعيد تكرار مآزقه البنيوية، السياسية والمجتمعية، جيلاً بعد جيل، يساهم في تفعيل الانفصال، ولا يسمح في التأسيس لقنوات تواصلية/ وطنية، بين شرائح التعدد ورأس السلطة، والفيصل في إشكالية الدولة والمواطن، عدم توفر قاعدة تقوم على ثلاثية: العلمانية، والحقوق والواجبات، وامتلاك ثقافة سياسية حديثة.
يبقى أن الشراكة التي يفتقدها اللبنانيون، تحتاج إلى آليات الدمج، والتعارف، والتثاقف بين أبناء التعدد، والتي تبدأ بتقوية شعور الانتماء الوطني، والخروج من الطائفية الى الدولة الحديثة، والكف عن إحياء ذاكرة الحروب. ونحن مطالبون، ليس بالشعار الذي ترفعه بعض جمعيات المجتمع المدني «كي لا ننسى» بل بالقطع مع ماضينا والبناء لعقل مدبر وليس لطائفية سياسية مدمرة.
السفير