دمشق وبيروت بين تاريخين
محمد سيد رصاص
هناك تواريخ تقود إلى تواريخ: لايمكن فصل مرسوم المفوض السامي الفرنسي الجنرال غورو بإنشاء (دولة لبنان الكبير) في يوم 30 آب 1920عما حصل في يوم 24 تموز1920 لما أدى انتصار غورو في معركة ميسلون على وزير الدفاع السوري يوسف العظمة إلى سقوط دمشق بأيدي الفرنسيين، وفعلاً فإنه في الاحتفال المقام باليوم التالي للمرسوم، أشار الجنرال الفرنسي، مخاطباً الحاضرين اللبنانيين، إلى حكومة الملك فيصل في دمشق بوصفها «القوة الغاشمة التي كانت تطمح إلى استعبادكم».
كانت تلك الولادة لـ(دولة لبنان الكبير) تمثل جرحاً للسوريين، ليس فقط بسبب (الأقضية الأربعة) وإنما أيضاً لأنها انضافت وتزامنت مع عمليات جراحية فرنسية في الجسد السوري، الذي مثله الكيان السياسي في عهد الملك فيصل (تشرين أول 1918- تموز 1920)، قطعَت أوصاله إرباً إرباً شمالاً وجنوباً وغرباً، وصولاً إلى البيع الفرنسي للواء اسكندرون لتركيا عام 1937 من أجل ضمان عدم تكرار انضمامها إلى الألمان في الحرب العالمية الثانية المقبلة كما فعلت في الأولى عام 1914.
لم يكن هذا الأمر محصوراً بسوريين وإنما شمل لبنانيين كثيرين: في تشرين أول 1927 كانت بذور ولادة (الكتلة الوطنية) التي قادت العملية السياسية السورية من أجل الجلاء الفرنسي قد زرعت ليس في دمشق وإنما في بيروت، ولم يكن الخمسة عشر شخصاً، الذين شكَلوا قوام الاجتماع الذي حصلت فيه عملية الإبذار، فقط من السوريين وإنما كان هناك لبنانيون من أمثال عبد الحميد كرامي وعبد الله اليافي، كما أن رياض الصلح «كان من مؤسسي الكتلة، ومن الذين جمعوا أموالاً لها… واتفق أيضاً أنه كان ابن عم السياسي الكتلوي عفيف الصلح، ونسيباً لسعد الله الجابري بالمصاهرة» (فيليب خوري: «سوريا والانتداب الفرنسي»، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1997، ص 678. بشأن اجتماع 1927 فالأسماء مذكورة في الصفحتين 296-297 من المرجع المذكور)، ويذكر خوري بأنه في مؤتمر (الكتلة الوطنية) عام 1934، كان رياض الصلح من الجناح الراديكالي، بزعامة الجابري وابراهيم هنانو، الذي طالب بأن يكون مطلب الوحدة السورية شاملاً للأقضية الأربعة التي ألحقها الفرنسيون بـ«دولة لبنان الكبير» عام 1920.
إذا تم الانتقال للمستوى العسكري، فإن الدفاع عن دمشق لا يمكن أن يتم من دون حساب الجنوب اللبناني وسهل البقاع، وعملياً فإن الهجوم البريطاني على سوريا ولبنان لنزع سلطة حكومة فيشي الموالية للألمان عنهما (8 حزيران 1941-14 تموز 1941) قد انطلق نحو ثلاثة محاور: الناقورة، مرجعيون، القنيطرة، لتسقط دمشق بيد جنود وينستون تشرشل الآتين من فلسطين بعد اثني عشر يوماً، إضافة لانطلاق القوات البريطانية نحو محور طريق العراق – تدمر- حمص، وذلك بعد هزيمة البريطانيين لقوات الحكومة العراقية الموالية للألمان برئاسة رشيد عالي الكيلاني (2 أيار 1941-29 أيار 1941).
رغم هذا وذاك، فإن سعد الله الجابري، وهو أهم سياسي سوري أفرزته حقبة 1918- 1958، قد أدرك عام 1943 «ضرورة طرح موقف تفاوضي موحد مع الفرنسيين يقوم على مبدأ الاستقلال التام للبنان وسوريا معاً.. .. فلا يعود لبنان أبداً حجر شطرنج يستخدمه الفرنسيون ضد السوريين» («المرجع السابق»، ص 678)، وهو ما يمكن من خلاله فهم موقف رياض الصلح، وخاصة بعد أن انتقلت (الكتلة الوطنية) بالنصف الثاني من عقد الثلاثينيات نحو الصمت عن المطالبة بعودة الأراضي التي فصلت عن سوريا مع انشاء دولة لبنان الكبير.
كان هناك احتكاكات وصدامات كبرى بين دمشق وبيروت: في اتفاقية المصالح المشتركة بين الحكومتين السورية واللبنانية (3 شباط 1944) لم يكن هناك فيها انعكاس للوقائع المالية – الاقتصادية على الأرض، وخاصة بعد نمو تراكم نقدي كبير في أوساط التجار والصناعيين وكبار ملاَك الأراضي السوريين، نتيجة الخدمات التي قدموها لقوات الحلفاء المقيمة في سوريا خلال الحرب العالمية الثانية، قدَره بعض الباحثين بما يتراوح بين 500 – 600 مليون ليرة سورية، كان معظمها في شكل جنيهات استرلينية (فيكتوروف: «اقتصاد سوريا الحديث»، دار البعث، دمشق 1970، ص 24). كان القمح فاعلاً اقتصادياً كبيراً في ذلك التراكم النقدي، ثم أتى القطن السوري مع الارتفاعات الفلكية في أسعاره العالمية أثناء الحرب الكورية (1950-1953) لكي يجعل التوازن المالي- الاقتصادي، مائلاً بشكل كبير، لصالح دمشق على حساب بيروت.
بدون هذا التراكم النقدي، الطامح للاستثمار، لا يمكن تفسير إقدام رئيس الوزراء السوري خالد العظم على إلغاء الوحدة الجمركية بين سوريا ولبنان (14 آذار 1950) والاستغناء عن الوسطاء اللبنانيين للبضاعة المصدرة من سوريا والمستوردة إليها، مع إلغاء حصرية مرفأ بيروت، لصالح إنشاء مرفأ اللاذقية الذي هو أقرب لأمكنة المحاصيل الاستراتيجية السورية في الشمال والشمال الشرقي، ثم إلغاء الوكالات الحصرية التي كانت للبنانيين في سوريا ولبنان وحصرها بالسوريين.، وهو ما عبر عنه خالد العظم في («المذكرات»، م 2، ص 107، الدار المتحدة للنشر، بيروت 2003. الطبعة الأولى في الثمانينيات صادرة عن دار النهار) بالعبارة التالية: «كنت أشبِهُ حالتنا مع لبنان بحالة الشخص الذي كسرت يده فجبَر عظمها على غير استواء، فلا بد إذن من كسرها وجبرها من جديد على وجه صحيح».
قبل هذا بسنوات قليلة، حاولت البرجوازية السورية، النامية بسرعة، استباق محاولة 1950 الناجحة تجاه اللبنانيين بمحاولة ثانية مماثلة لما دفعت الحكومة السورية في الشهر الأخير من عام 1946، أثناء المفاوضات مع شركة (أرامكو) لإنشاء خط نفط التابلاين، للضغط من أجل جعل المصب لهذا الخط في الساحل السوري بدلاً من اللبناني، ما أدى إلى فشل المفاوضات، وهو ما كان بالتأكيد أحد أسباب دعم واشنطن لانقلاب حسني الزعيم (30 آذار 1949) الذي صادق بعد شهر ونصف شهر (16أيار) على اتفاقية التابلاين.
كان الضعف والاضطراب السوريان بين عامي 1953 و1958 مترافقين (وربما لهذا السبب) مع الصراع المصري – العراقي (وخلف بغداد كانت لندن) على سوريا. في تلك الفترة من الضعف السوري وقف الرئيس اللبناني كميل شمعون ضد الرئيس جمال عبد الناصر الذي بدأت الموازين السورية تميل لصالحه منذ صيف 1955، حتى جاءت الوحدة السورية – المصرية في 22 شباط 1958. بعد ثلاثة أشهر من حصول تلك الوحدة اشتعل لبنان نتيجة اصطدام صفين لبنانيين كان أحدهما يدور في فلك القاهرة والآخر في فلك واشنطن التي بدأت منذ مشروع أيزنهاور لـ«ملء الفراغ» (5 كانون الثاني1957) بمحاولة وراثة لندن وباريس في الشرق الأوسط. كانت التسوية المصرية – الأميركية حول لبنان في ذلك الصيف، وخاصة بعد ابتعاد عبد الناصر عن موسكو إثر صدامه مع عبد الكريم قاسم وداعميه الشيوعيين العراقيين منذ يوم 14 تموز 1958 البغدادي، مؤدية إلى استقرار لبنان طوال حكم الرئيس فؤاد شهاب. في فترة فؤاد شهاب وبعده الرئيس شارل الحلو، انتعشت الصحافة اللبنانية بتأثير موت الصحافة السورية الحرة بين عامي 1958و1963، ثم استفادت المصارف اللبنانية إلى حد بعيد من هروب رأس المال السوري الكبير إثر تأميمات تموز 1961 وتأميمات كانون الثاني 1965.
حرب 1967 قلبت هذا المسار اللبناني، وخاصة مع بداية انقسام مجتمعي لبناني، شبيه بما حصل في أيار 1958، ظهرت ملامحه في نيسان 1969 تجاه الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وهو ما جعل لبنان يدخل في مسار متقطع ولكن مستقيم، نحو الحرب الأهلية التي نشبت بعد ست سنوات من ذلك الشهر. بالتوازي مع هذا المسار اللبناني، كانت سوريا تدخل بين عامي 1970 و1976 في عهد من امتلاك غير مسبوق سورياً للقوة الإقليمية في ظل بداية انكفاء مصري، عن شؤون آسيا العربية، توضحت معالمه بعد حرب 1973 مع اتفاقيتي 1974 و1975بين القاهرة وتل أبيب وصولاً لزيارة السادات للقدس في 19 تشرين الثاني 1977، واضطراب عراقي بفعل التمرد الكردي المدعوم من حكم ايراني قوي بقيادة الشاه، منع بغداد من التطلع غرباً، كما في أيام نوري السعيد، وعدم قدرة السعودية على ترجمة قوتها المالية بعد ارتفاع أسعار النفط (إثر الحظر المترافق مع حرب 1973) إلى قوة سياسية موازية لذلك المال على الصعيد الإقليمي العربي.
ربما، كان أبلغ تعبير عن هذه الصورة الإقليمية هو ما حصل في مؤتمر قمة الرياض السداسية (16-18 تشرين الأول 1976) لما أعطت مصر والسعودية الموافقة، والشرعية السياسية العربية، للإدارة السورية للشؤون اللبنانية بعد أربعة أشهر ونصف شهر من الدخول العسكري السوري إلى لبنان الملتهب بنيران الحرب الأهلية، وهو ما تجسد بعد أيام قليلة في القمة العربية بالقاهرة عبر قرار جماعي وقفت بغداد وحيدة ضده.
السفير