“البدون العرب”: متى تحل مشكلتهم؟
فايز سارة
تعدّ مشكلة «البدون» في البلدان العربية من أكثر المشاكل صعوبة ومأسوية، بما لها من أبعاد قانونية واجتماعية وأخلاقية، جعلتها تستمر لسنوات بل لعقود طويلة، وغالباً فقد ولدت مشكلة «البدون» مع الاستقلال او بعد سنواته الاولى بقليل. والمشكلة تعريفاً، هي غياب صفة المواطنة عن أعداد من المقيمين في بلد عربي ما، واعتبارهم بمثابة «اجانب»، مما يجعلهم خارج الحقوق والواجبات التي تربط بين الدولة ومواطنيها.
وقد ظهرت هذه المشكلة في الكثير من البلدان العربية، بينها سورية ولبنان والكويت والإمارات والبحرين والعراق، حيث استبعدت سلطات هذه البلدان بعض سكانها من تعداد السكان وجعلتهم غير مسجلين في سجلات الأحوال المدنية، بمعنى انهم ليسوا في عداد مواطني الدولة، مما يجعلهم محرومين من حقوق أساسية، مثل توثيق عقود الزواج والمواليد، والتملك والعمل، وعدم حصولهم على وثائق سفر أو هوية شخصية، وعدم استفادتهم من خدمات اساسية ومن مخصصات الدعم التي تقدمها الدولة لمواطنيها.
وترتب على عدم تسجيل هؤلاء في التعداد العام للسكان، عدم حصولهم على حنسية البلد المعني، وبالتالي صاروا مصنفين باعتبارهم «اجانب» أو «بدون»، وهو الوصف الذي طبع علاقتهم العامة مع الدولة ومؤسساتها، وبدرجة اقل انعكس ذلك على علاقتهم ببقية مواطنيهم. والحق، فإن اصول هؤلاء متعددة متنوعة، لكنها تعود في النهاية الى الجوار القريب.
ففي مشكلة «البدون» الكويتيين يعود اصل هؤلاء الى عرب قدموا من جوار الكويت وبخاصة من العراق وسورية ومناطق الخليج العربية، وقليل منهم وفد من ايران، وأغلب القادمين قدموا الى الكويت قبل الاستقلال، وارتبطت حياتهم بتطور البلاد الاقتصادي والاجتماعي، غير ان اوضاعهم لم تتم تسويتها، وبقي هؤلاء الذين يقدر عددهم اليوم بأكثر من مئة ألف نسمة بقليل، يحملون تسمية «البدون» في ظل تميز حقوقي وقانوني عن إخوانهم من مواطني الكويت.
ومثل إخوانهم «البدون» في الكويت عانى «اجانب» سورية، أو «المجردون» وهي صفة تطلق على بعض سكان محافظة الحسكة الواقعة في الشمال الشرقي وفي مثلث الحدود مع تركيا والعراق. والاساس في «اجانب» الحسكة او «المجردين» يرتبط بالاحصاء السكاني الاستثنائي الذي أُجري في 1962، وجرى في خلاله استبعاد بعض السكان من الإحصاء او إسقاط اسمائهم منه، حيث لم ترد اسماؤهم في جداول السكان، وغالبية هؤلاء كانوا من الاكراد السوريين. ومع مرور الوقت تضاعفت أعداد هؤلاء وأبنائهم الى درجة صاروا يقدرون حالياً بنحو ربع مليون نسمة من الاجانب، لهم اوضاع حقوقية وقانونية مختلفة عن اوضاع اخوانهم من السوريين.
ان نموذج «البدون» في الكويت و «المجردين» في سورية، يمثل الحالة الاسوأ في هذه المشكلة، التي ما زالت حاضرة في عدد من الدول العربية، أو تمت معالجتها كلياً او جزئياً في بلدان عربية أخرى، كما حدث في البحرين والإمارات ولبنان والعراق، حيث حلت مشكلة «البدون» اللبنانيين ومنهم عرب وادي خالد، وحلت مشكلة «بدون» البحرين والإمارات وبعضهم من اصول ايرانية، وتمت في هذه الحالات استعادة الجنسية، وحصول «البدون» السابقين على حقوقهم كغيرهم من المواطنين، فيما جرى إبعاد عراقيين الى ايران في اواخر السبعينات من القرن الماضي بحجة ان اصولهم ايرانية.
ان الاساس في مشكلة «البدون» في كل واحد من البلدان العربية، استند الى حيثيات تختلف بصورة ما عن الحيثيات المتصلة بالموضوع في بلد آخر… وفي المثال السوري، فإن اساس المشكلة سياسي، دفع ليكون هؤلاء «السوريون» خارج احصاء 1962 نتيجة مخاوف القائمين على السلطة آنذاك من زيادة أعداد ذوي الاصول الكردية من السوريين في تلك المنطقة، والخوف من تحولها الى «منطقة كردية» على غرار ما هو قائم في شمال العراق وفي جنوب شرقي تركيا، فتوجهوا الى استبعادهم من تعداد السكان، وبالتالي تجريدهم من الجنسية السورية. وقد وجد هذا الإجراء رضى وتفهم المسؤولين السوريين الكبار آنذاك، كاشفاً ضيق افق ورؤية القائمين على السلطة، ورسّخ ازمة أخذت تتفاقم مع الوقت، لتصبح ازمة ذات طابع وطني، تتعلق بمئات آلاف السوريين، وصار حلها ومعالجتها من الامور الملحّة والمهمة في سورية.
وقريباً من المثال السوري، تقع مشكلة «البدون» في الكويت، التي يعود اساسها الى اسباب أمنية وسياسية واجتماعية – قبلية تتداخل كلها في تكوين معقد، ساهم في استمرار هذه المشكلة، وتفاقمها مع تقدم الوقت، بخاصة في فترة الاجتياح العراقي للكويت عام 1991 وبعدها، ما أدى الى إبعاد أعداد من «البدون» عن البلاد، وقد مهدت الاوضاع السياسية الجديدة في الكويت الى تعامل مختلف مع المشكلة، اذ تصاعدت الدعوات الكويتية في الاوساط البرلمانية والشعبية لوضع حد نهائي للمشكلة.
لقد فاقمت مشكلة «البدون» من الاوضاع العربية القائمة وبخاصة لجهة تكريس انتهاك حقوق جزء من السكان، وخلق تمايز متنوع المستوى بين أبناء البلد الواحد، ما يتطلب من الحكومات العربية المعنية تدخلاً سريعاً لمعالجة هذه المشكلة بصورة جذرية ونهائية بحيث تعطي «مواطنيها» و «المقيمين فيها» منذ زمن طويل جنسيتها، وتحولهم الى مواطنين حقيقيين لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات.
ان حلولاً جذرية في معالجة مشكلة «البدون» في البلدان العربية، يمكن ان تدفع الواقع العربي خطوات في اتجاه اصلاح العلاقة بين السلطة ومواطنيها وداخل المجتمع، كما ان من شأنها تفعيل المشاركة الشعبية وتوسيعها في الحياة العامة، وكلها خطوات، لم تحققها المعالجات الجزئية للمشكلة، التي قامت بها الحكومات العربية على مدار سنوات طويلة.
الحياة