أخيرا، حصل الإعلام السويدي على إنتحاريّه الخاص
سلام عبود
(بحث في سيكولوجية الإعلام)
التسابق بين الإعلام والإرهاب سويديا
الرغبة العارمة في حيازة أدلة تؤكد مبررات الخوف، والتوق الى ترجيح الرهان الأمني هو الانطباع الأول، العميق، الذي يستخلصه المراقب من متابعة الاعتداء الإرهابي الذي وقع في العاصمة السويدية ستوكهولم يوم السبت 12 كانون الاوّل 2010، والذي حلّ مثل خاتمة لعام يمضي، وربما بداية لحقبة سياسية جديدة، شرع الواقع يرسم ملامحها المبكرة بمهارة.
الحدث، أسلوبه، منفذه، غاياته، ليست جديدة عالميا: متطرف إسلامي شاب يفجر نفسه. بيد أن ما هو جديد فيه أنه يحدث في السويد، ويحدث في ستوكهولم تحديدا، ويحدث في شارع أولوف بالمه ذي الدلالات الرمزية، وفي وسط الحي التجاري الذي أضحى فخا للاغتيالات السياسية النوعيّة، المنقاة، القاتلة، ويحدث الساعة الخامسة تقريبا من عصر يوم اكتض فيه وسط ستوكهولم بمتسوقي أعياد الميلاد، ويحدث أخيرا في نهاية عام وبداية حقبة سياسية جديدة، أبرز سماتها وصول اليمين العنصري الى مقاعد البرلمان.
هدفا التنفيذ المعلنان من قبل الشرطة السويدية تقليديان، لا خصوصية جديّة كبيرة فيهما: الاعتراض على مشاركة السويد عسكريا في الحرب الأفغانية، وإدانة الصمت على مروّجي الرسوم المسيئة للنبي محمد. ضعف الخصوصية هنا ناشئ من كون مملكة السويد- خلافا للدانمارك في قضية مماثلة- لم تؤيد رسميا نشر رسوم لاش فيلكس، التي ظهرت قبل ثلاث سنين، وأن الرأي العام السويدي غير محبذ لتوريط المجتمع في مقايضات سياسية غير نافعة اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، حتى لو كانت تتعلق بالحرية الفردية، أمّا أقرب صحيفة الى موقع الانفجارات فهي (داغنسنيهيتر)، التي لا صلة لها بهذه الرسوم من قريب أو بعيد.
ولو عدنا قليلا الى الوراء سنتذكر أن عمليات تدنيس مماثلة جرت في السويد، في أوقات سابقة، تمّ تصعيدها من قبل الإعلام وأجهزة الأمن الى السقف الأعلى المثير للذعر الاجتماعي. منها ما قام به القس السويدي، النرويجي الأصل، رونر سوغارد في مواعظ كنسية علنية، قام ببيعها في أقراص مدمجة، هاجم فيها الإسلام بعنف ووصف الرسول محمد بأنه ” مغتصب جنسي، مضطرب الشخصية”. وقد نشرت صحيفة (أفتون بلادت) السويدية أقواله تلك على صفحتها الأولى في 19 ابريل 2005.
ورغم النفخ الإعلامي مرت تلك القضية بسلام، وطوى النسيان آراء رونر وأزماته العاطفية والرساليّة، بعد أن حصل على حماية الشرطة السويدية، تحسبا لأي عمل عدواني قد يقوم به إرهابيون مسلمون يهدف الى الحد من حريته في التعبير عن معتقداته وتطبيق واجباته التنويرية. وقد رافقت تلك الحادثة موجة تحذيرات تعبوية، تصعيدية، استباقية، أكدت أن ” الخبراء يتخوفون من أعمال ارهابية أصولية ضد السويد” ( اكسبرسن 3 فبراير 2006)، وأن “السويد يشار اليها كهدف ارهابي قادم” (آفتون بلادت 31 ابريل 2005)، وهي تحذيرات سربتها أجهزة الأمن ونشرتها كبريات الصحف على صفحاتها الأولى بالخط العريض، هدفها تعبئة المواطنين من طريق ما يعرف في علم النفس الاجتماعي باستنفار “غريزة الخوف”.
أما إرسال الجنود السويديين فهو مشكلة سويدية أكثر منها مشكلة دولية أو عقائدية حتى الآن، بسبب الميل التقليدي السويدي العام غير المحبذ لإرسال الجنود الى مناطق الحروب، والميل الى الاحتفاظ بالوجه الماكر والمضلل، ولكن الجميل، الذي اسمه الحياد السويدي.
بيد أن الأمر النوعي في هذا الحدث هو أن شخصية بطله، وليست أهدافه فحسب، تحمل إشارات مثالية من إشارات الحرب على الإرهاب عالميا. كما لو أن المصادفات المصيرية الماكرة صممت الأهداف تصميما فنيا لكي تطابق صفات الانتحاري الشخصية، ولكي ترسم ملامحه الدولية النموذجية، المطلوبة عالميا في مشروع “الحرب على الإرهاب”. وهنا يبرز دور القدر الخطير في رسم هذه التراجيديا المعاصرة.
أمام قوة الصدمة كان لزاما على الإعلام أن يكون قائدا حقيقيا للرأي العام الوطني، فالتعبئة الوطنية ضد الخطر مهمة أساسية من مهام الإعلام، ولكن بدلا من ذلك وقع الإعلام ضحية لفوضى الصورة والكلمة والتعبير، التي أمسكت بخناقه إمساكا قاتلا.
إن الثقة بالنفس القائمة على قوة الحقيقة هي المصدر الأساسي للأمن الاجتماعي في نظام ديموقراطي، أما الفوضى الإعلامية واصطياد الإثارة القائمة على تغليب الشحن العاطفي السلبي على حساب الحقيقة، مهما كانت شريفة الدوافع، فإنها في حالات الإرهاب ذي الصبغة العقائدية المتعصبة، تصبح مادة مساندة لمناخ العنف، وربما حاضنة طبيعية لإنبات أجنة الخوف السلبي من الآخر، وتعزيز الميول العدوانية الجماعية، بدلا من الميل الى الحلول الإنسانية.
إن متابعة تفصيلات وتسلسلات الحدث تكشف عن حالة من الهيجان اللفظي والإثارة العاطفية الخيالية، وعن قوة تأثيرالتصورات المسبقة، والأخيلة الجاهزة والمعلبة والمخبأة، التي غرق فيها الإعلام الرسمي والشعبي.
فوضى الصور والكلمات
بدأت تفاصيل الصورة تتكامل بسرعة عجيبة ولافتة بعد صمت مؤقت دام ساعات طويلة، وأخذت كل دفعة من الصور الجديدة تزيح ما قبلها وتبني الصورة المثلى، التي يبحث عنها صانعو الرأي العام والمستفيدون من نتائجه اللاحقة. ففي ثلاثة أيام فحسب انتقل الانتحاري من هاو، قليل الخبرة في السلاح أو عديمها، الى قريب من ابن لادن؛ ومن شخص معزول “مجنون وحيد”، كما اسمته صحيفة (اكسبرسن)، الى عنصر في جماعة أوسع يجري البحث عن مساعدين له، ومن “ميت في انفجارات غامضة” (داغنينيهيتر) وشاب حسن السلوك تمرد على أسرته سرا، الى متمرس، متطرف، متعصب، ينفذ أجندات عالمية.
التسارع المذهل لنمو الشخصية، وبناء هيكلها الدعائي سينمائيا أكثر منه جنائيا، قاد الى تسارع ردود الفعل الاجتماعية، فلم يفت الجالية المسلمة التعجيل في إظهار رد الفعل، فقامت بتزويق بناء الصورة الدعائية المنشودة حينما هبت من نومها، فقامت في اليوم التالي باستعراض وجهها السلمي المعادي للارهاب في وسط ستوكهولم، لكي تدرأ عن الإسلام والمسلمين صفة الإرهاب، ولكي تقدم شهادة مدرسية بحسن السيرة والسلوك والبراءة الجماعية، ثم اختتم وزير الخارجية العراقي المشهد، باعتلائه خشبة الحدث، راسما حدود جبهة الحرب، الممتدة من كابول الى بغداد مرورا بستوكهولم. حدث هذا الاستعراض السياسي في اللحظة التصعيدية المناسبة، لكي يعزز اليقين الذي أحدثه الفعل في نفوس المواطنين السويديين. وهو يقين ظل هشا، منذ أن تم إعداده وشحنه منذ عقدين من الزمن، ولم يكن يحتاج إلا الى واقعة حسية، لكي يغدو يقينا حقيقيا راسخا، وصورة حية، ملموسة لمسا عيانيا، وليس هاجسا أو أمنية، أو رغبة دفينة.
ومن مفارقات الحدث المأسوي أن شخصية المنفذ حملت الخصائص النموذجية، المثالية إعلاميا، التي يحلم بها كل تواق الى قيادة دفة حرب على الإرهاب في صورته الأميركية النمطية المميزة. إن ارتباط الانتحاري، ولادة وولاءً، بقطبي الإرهاب الدولي الرئيسين عالميا: العراق وافغانستان، دولة العراق الإسلامية والقاعدة (ابن لادن)، جعل من الحدث هدفا شيطانيا خالصا، غير قابل للمجادلة أو المناقشة أو إثارة التساؤلات حول الأخطاء الممكنة والمحتملة. لقد بلغ الحماس في تدفق الصور الدعائية حدا دفع أحد الصحافيين الى أن يختتم وصفه للحدث بهذه العبارات الشبقية الشاذة أخلاقيا ونفسيا: ” ظلت الجثة وحدها تـُراقـَبُ بنظرات مغرية من قبل صور فتيات الاعلانات الملصوقة على واجهات المحلات”. ولم يكن هذا الوصف سويّا، كخيال أدبي أو كسرد واقعي. لأن الجثة لم تـُعرف هويتها فورا حتى من قبل الفتيات العفيفات، اللواتي لم توقعهن الجثة في الإغراء، الذي أحسه ذلك الصحافي تجاهها. لذلك اندفع عدد من المارة، تحت تأثير المشاعر الإنسانية النبيلة، المميزة للشخصية السويدية، وراحوا يسعفون الانتحاري، من دون أن يعرفوا سبب مقتله وأهدافه، حتى جاءت الشرطة وأرغمتهم على إخلاء موقع الحدث، وتركت الانتحاري يلفظ أنفاسه الأخيرة على مهل، ووجهه يستقبل ندف الثلج المتساقطة من السماء.
أسئلة هادئة تعقب العاصفة
في حوالي الساعة الثانية عشرة من نهار اليوم التالي دعا رئيس الوزراء السويدي فردريك راينفلت الشعب الى توخي الهدوء وضبط النفس ، معربا عن خشيته من أن “يضع الحدثُ الرياحَ تحت جناحي العنصريين ومعادي الأغراب”. وأظهر رئيس جهاز المخابرات (سَبو) ، اندش دانيالسون، عدم تحمسه الى اتخاذ إجراءات إضافية في القوانين أو القوات، والاكتفاء بزيادة الاتصال بالناس وبمؤسسات المجتمع في مواقع السكن، والتزمت وزيرة العدل الصمت. أما السياسيون والإعلام فقد أكدوا، في الأعم، على عدم كفاية أعمال التحري الاستباقية، وتقصير أجهزة الأمن في كشف بعض خيوط الحدث قبل وقوعه.
ردود الفعل الحكومية الهادئة، والتصعيد الإعلامي ذو السقف العالي، واضطراب سيل المعلومات، تشي بشكل صريح بأن الحدث تحت السيطرة حقا، وانه يسير في الاتجاه المطلوب. ولكن، أية سيطرة وأي اتجاه؟
عدا الجانب الإعلامي التعبوي الواسع، وعدا مقتل الإرهابي من دون حدوث أضرار بشرية أو مادية (انتحار نظيف)، وعدا تحقيق الأمنية المعتـّقة بإثارة الفزع الاجتماعي عمليا، التي حلم بها كثيرون، لم يبق أمام المراقب للحدث الآن سوى الأسئلة المحيرة الغامضة، التي تركها صاحب الجثة من دون إجابة.
أهم هذه الأسئلة يتعلق بتضارب وتناقض وضحالة الحبكة الجرمية، وركاكة التفسيرات التي أحاطت بالحدث. يعزو البعض هذه الفوضى الإعلامية الى ضعف الخبرة. و لكن هذه التهمة مردودة لمن يعود الى الوراء عقدين من الزمن، منذ أن تولى كارل بلد السلطة، حيث كثرت الاستعدادات التعبوية بشكل مثير: حادثة الغواصات الروسية، إعلان الطوارئ عقب تفجير ملجأ العامرية في بغداد إبان حرب الخليج الثانية، إختلاق المهمة الرسالية للقس رونر 2005 وتصعيد التعبئة ضد المسلمين، إعلان النفير الإعلامي العام، المصحوب بإثارة الفزع من الأغراب بعد حادثة يولاند بوستن ونشر الرسوم المسيئة للاسلام في 2005، و في عام 2007عند نشر رسوم لاش فيلكس (من أصول غير سويدية خالصة، حاله كحال القس رونر والمجرم المسمى باللازرمان). كل ذلك يؤكد أن الاستعدادات النفسية والاعلامية والأمنية كانت كافية وقت وقوع الحدث؛ وربما كانت، على العكس، مستنفرة بشكل إثاري، ومتدربة تدريبا ذا شحن عاطفي تصعيدي لاستقبال ما سيحدث.
في ظل هذا المناخ أضحى من العسير أن يفهم المرء سر الاضطراب في الحجج والمعلوات والتفسيرات، بدءً من الادعاء بأن الحادث أثار “الفزع الجماعي” في وسط ستوكهولم، وهو أمر لم يحدث بالصورة التي صنعها الإعلام، كما أثبتت الصور المتحركة والثابتة، وكما أفاد شهود العيان من المتبضعين في الأماكن المزحمة في ميدان سيرغل وقرب أسواق كاللرين وما حولها، عدا لحظة الانفجار الثاني، التي استمر فيها التوتر لأقل من دقيقتين.
أثبتت الواقعة والصور المتحركة والثابتة الملتقطة من الزوايا والمساقط المختلفة، أن الإنسان المعاصر، أصبح يستعيض عن الفضول الفطري القديم والحشرية البدائية الملازمة لثقافة عصري الكتابة والشفاهية بالوسائل الحديثة صوتا وصورة. وقد مدتنا هذه الثقافة الجديدة بصور تكذب تماما الصورة التي أريد إشاعتها لاحقا حول “الفزع الجماعي”. يقول أحد شهود العيان: ” مئات الناس تجمعوا حول السيارة. وقف الناس يتفرجون. كان الوضع هادئا تقريبا، حتى أن بعض المتفرجين تقدموا وشرعوا بالتصوير” (افتون بلادت 12 كانون الأول). أما ما تكرر إشاعته عن انفجار السيارة، الذي أوحى بوجود قنبلة، فقد أكد شهود العيان ما ينفيه تماما: ” سبب الانفجار يعود الى وجود قطع من الألعاب النارية في حقيبة السيارة الخلفية” وأن الانتحاري ” اشعل النار في سيارته وسار باتجاه شارع برغّر”. فهل هي قنبلة أم إشعال نار؟
أما موت الانتحاري الفوري فقد كذبه شهود العيان أيضا. فقد وصفه من شاهدوا الحدث لصحيفة اكسبرسن يوم 14 كانون الأول قائلين: ” بعد دقيقة عاد الناس الى موقع الحدث، ويعتقد أن البعض تحسس نبضه”، و”حينما وصلت الشرطة كان (الانتحاري) يتحرك”،” قامت الشرطة بإبعاد الناس المتجمهرين على الجثة”. ” وصل جهاز كشف المتفجرات حوالي الساعة السابعة، (داغنسنيهيتر 12 كانون الأول) “في الساعة الثامنة تم رفع الحقيبة وظلت الجثة في مكانها”. وضع الجثة المهملة، أو غير المثيرة للاهتمام، ودور رجال الشرطة أثارا غير سؤال: لماذا تأخر وصول جهاز كشف المتفجرات (الروبوت) ساعتين؟ لماذا لم تبادر الشرطة الى تحري وضع الانتحاري لغرض الاستفاده منه حيا؟ لماذا ظلت جثته ملقاة أكثر من ثلاث ساعات، تنظر اليها “عيون فتيات الاعلانات الداعرة”؟ هذه أسئلة فنية أكثر منها إنسانية أو أخلاقية.
لماذا قام الاعلام بتغيير صور المشاهد الأولى لاحتراق السيارة وإبدالها بصور مثيرة تعزز فكرة تفجيرها؟ أين ذهب الاطفائيون الذين أوشكوا أن يخمدوا الحريق في الصور الأولى؟ هل حدث هذا التغيير عفوا أم كان مقصودا؟ وما الغرض منه، ومن يقف وراءه؟
إذا تركنا تفاصيل الحدث وعدنا الى شخصية الانتحاري نجد تضاربا أقوى في بناء صورة الشخصية، فقد أصر الاعلام على تأكيد عراقيّة الانتحاري، وقد تكرر هذا في غير موضع من صحيفة المساء (اكسبرسن) في 14 كانون الأول، بينما قال توماس لندستراند، رئيس الادعاء، في موتمره الصحفي في 14 كانون الأول، نقلا عن صحيفة (داغنس نيهيتر): إنه ” لغز، من الشرق الاوسط غير معروف البلد بشكل كامل!!”. أيهم نصدق؟ ومن سرب خبر عراقيته؟ ولماذا؟
وعن خبرات الانتحاري وطبيعته جاء أنه ” مجنون وحيد” و”تعلم صناعة المتفجرات من طريق قراءة التعليمات بالانترنيت” و” انه غير محترف” – لا يوجد انتحاري مارس تمارين الانتحاركثيرا!- بينما تقول صحيفة (داغغنسنيهيتر) في 17 كانون الأول: “المسؤول عن ملف الحادث في الشرطة السرية يقول من الصعب أن يقوم المرء بنفسه بصناعة قنبلة مثل تلك التي استخدمها الفاعل” وتضيف:” البحث عن مساعدين للفاعل جار، وهناك ارتباط بين الانتحاري وبين الانتحاري المشهور سمير خان”، وبعد يوم واحد فقط أصبح الانتحاري ليس وحيدا و”الشرطة السرية واثقة من أن آخرين كانوا مشتركين في الخطة” و” والشرطة تطارد أعدادا من الإرهابيين” كما تنشر صحيفة (افتون بلادت 18 كانون الأول).
كانت الصور الأولى للسيارة المحترقة، التي بثها التلفزيون السويدي، دليلا قويا على أن “التفجير” لم يكن تفجيرا وإنما كان حريقا، لم يصب هيكل السيارة بالتمزق أو الأذى، و لم يصعد حتى الى سقف السيارة حينما وصل الاطفائيون، مما شجع المارة على التجمهر للفرجة. هذه الحقائق يضاف اليها نتائج حرق السيارة تثير أسئلة كثيرة هامة: لماذا وضعت السيارة في شارع فرعي مهمل، بينما كانت هناك فرصة كبيرة جدا لإيقافها في قلب التجمعات البشرية، بما في ذلك قرب موقعي “أولينز” أو “المحطة المركزية”، اللذين قيل أنهما كانا الهدف المحتمل لوضع الحقيبة الملغومة؟ لماذا وضعت السيارة في نهاية صف السيارات الواقفة وليس في وسطها أو بينها؟ لماذا لم تملأ السيارة بالمتفجرات إذا كان الهدف ” إيقاع أكبر قدر من القتلى: ” بالمئات”، كما قالت الصحف؟ وإذا كان صاعق الحزام الناسف قد أصابه خلل فأفشل التفجير، هل يمكن لسيارة محترقة تملأ بالمتفجرات أن تخطئ هدفها؟
وعن موقع الحدث جاء: “عدد غفير من المتسوقين كانوا في المكان أثناء وقوع الحدث” (داغنسنيهيتر 12 كانون الأول) ، لكننا نقرأ في موضع آخر عكس ذلك:” وقع الحادث في شارع فرعي مهجور”. أما رئيس الادعاء توماس لندستراند ، فقد قال حرفيا في موتمره الصحفي إن الحدث وقع في “شارع فارغ نسبيا”( داغنسنيهيتر 14 كانون الأول). يا لها من فوضى!
في اليوم الأول لتدفق الصور جرى الحديث عن “جريحين”. أين اختفيا، ولماذا؟ لا أحد يعرف!
وحينما نعود الى الصحافة الصادرة صباح اليوم التالي للحدث نجد أن أكبر صحيفة سويدية وأقرب صحيفة الى موقع الحدث (داغنسنيهيتر) تنشر الخبر على صفحتها العاشرة، في صفحة أخبار محلية، تحت عنوان عظيم الدلالة: ” مقتل شخص في انفجارات غامضة في وسط المدينة”. وقد نقلت الصحيفة عن مصدر أمني قوله: ” سَبو (جهاز الأمن) لا يملك معلومات، مما يجعل من المشكوك فيه اعتبار الحدث عملا ارهابيا”.
من هو الشخص الميت؟ ما أهدافه؟ لماذا قتل؟ كيف قتل؟ لا أحد يعرف. كان هذا اليقين هو السائد قبل إشاعة خبر الإرهابي بساعات حسب.
رسالة الانتحاري التهديدية ببنائها المعلوماتي المضطرب والركيك وإشاراتها الدلالية تضيف مزيدا من القلق على الصورة المهزوزة أصلا. أما فشل انفجار الصاعق فقد فسر بطرق مثيرة، جرى تصحيحها لاحقا. فقد قيل أولا أن السبب هو انفجار الصاعق قبل الأوان لخلل في جهاز التوقيت، أو بسبب قلة الخبرة وسوء تركيب العبوات. لكن الحدث أثبت أن الانتحاري كان يحمل حزاما ناسفا، وهذا يعني أنه لا يحتاج الى مؤقت، بل الى صاعق يدوي يتحكم هو به. وفي حال كون المؤقت يخص حقيبة الظهر، فان وجود الحقيبة سليمة الى جوار الجثة ينفي ذلك الاحتمال أيضا؛ أما الاعتقاد بأن حركة ما خاطئة أجرها الانتحاري تسببت في الانفجار، فهي فكرة ممكنة، لكنها فكرة ناقصة إذا لم يتم تفسر نوع الحركة الفعلية، المقبولة عقليا، التي يمكن لها أن تكون سببا في اشتعال صاعق الحزام الناسف. هل هي احتكاك ما بمصدر تفجيري؟ أم أنها قدحة شرر مثلا؟
إن النظام الاجتماعي ومؤسساته الديموقراطية في السويد على درجة عالية من النضج والرسوخ، لا تحتاج الى أخيلة أو مساحيق للتزويق، لكي يتم تثبيت أفضلياتها الإنسانية والحضارية. ومن جانب آخر فإن الإجرام الانتحاري، باسم الدين أو غيره، لا يحتاج الى خيال واسع أيضا أو تلفيقات إعلامية، لكي يتم تثبت أسسه الباطلة والظلامية. لذلك يغدو الدفاع عن الحقيقة وحدها هو الغاية السامية للإعلام في النظام الديموقراطي، وهو صمام أمانه الحقيقي في مواجهة الأهداف الشريرة.
فعلى الهدف العدواني الشرير تلتقي دائما إرادتان وتحالفان، يبدوان متعارضين ظاهريا، لكنهما متحدان هدفا ووسيلة: إرادة العنصريين ومعهم الإعلام التعبوي المضلل وآيدولوجية الحرب والاحتلال والهينمة العسكرية من جهة، وإرادة جماعات الإرهاب الدولي من جهة أخرى. لذلك يحق للمواطن المسالم أن يرى في هذه الصراعات معارك أشرار، تتخذ من حياته البريئة ومن الأمن الاجتماعي المحلي والعالمي ساحة للحرب المفتوحة.
إثارة الفزع بين المتخيل والواقعي
عند تجميع كل تلك المشاهد المضطربة يستطيع المرء أن يرسم بواسطتها صورة تقريبية لشاب أرسل رسالة الى جهاز الأمن “يهدده” بتفجير انتحاري، ثم توجه الى مكان التفجير، وبدلا من أن يفجر نفسه، أشعل سيارته الخالية من المتفجرات علنا في مكان غير مأهول، ثم مشى في شارع فرعي غير مأهول أيضا، وهناك انفجر أو فُجّر حزامه الناسف. هذه الصورة المفككة قد تثير الشكوك بسبب رداءة بنائها السردي، وتضارب خطوطها التفصيلية، التي سربها ظاهر الحدث وتلقفها الإعلام بفرح وسوء دراية أو سوء نيّة. وهي صورة لا تدل على تدني المهارة المهنية وابتذالها فحسب، بل تدل أيضا دلالة قاطعة على سوء استغلال الحدث، وعلى الجاهزية التامة لاستثماره وتصعيده الى سقفه الأعلى، بما يخدم فكرة إثارة الذعر، أكثر من خدمة البحث عن الحقيقة وإشاعة السلام والاطمئنان الاجتماعي.
إن انفلات مقود المعلومات المرسلة الى الرأي العام، واختلاط الخبر بأهداف أخرى نبعت من خارج الحقيقة الخاصة بالحدث نفسه، ربما تثير شكوكا أعمق من هذا. لأن المعلومات الأخيرة المطورة عن الحدث قلبت الصورة الغامضة الأولى، التي تحدثت عن “مجنون وحيد” و”قليل الخبرة” الى حقائق كبيرة مدوّلة حقا، لكنها أكثر غموضا. هذا التحوير في الصورة، المرتب، والمسير من أعلى يؤكد على وجود انتحاري حقا، ووجود هدف انتحاري حقا، وجود حزام للتفجير لدى الانتحاري حقا، ووجود قصد مدعوم بالأدلة المادية والخطية لتنفيذ الفعل الاجرامي حقا. و”لكنّ تفجيرا ما، “غامضا”، كما وصفته (داغنسنيهيتر) قد قاد الى إشعال بعض عبوّات حزام الانتحاري، ففشلت العملية. ولكن: كيف تم الاشعال؟ من قام به؟ لماذا؟ لا جواب.
أسئلة كثيرة محيرة تتطلب إعادة رسم صورة الحدث بشكل واقعي، جنائي، وليس بشكل غائي وقصدي. إن الاكتفاء بالرضا والدعوة الى الهدوء أمر مطلوب وضروري وإجراء حكيم وسليم، كما أن كسب الرأي العام أمر ضروري أيضا، ولكن من دون أن يعاد رسم المشهد رسما واقعيا خاليا من الاضطراب وما نعا للتأويل الضار، سيصبح الحدث منبعا غزيرا لإثارة الشكوك، التي قد توقظ شياطين الشر مجددا.
مجموعة واسعة من العنايات الإلهية تدخلت لمصلحة السويد العلمانية، فأفشلت خطة الانتحاري ذات الصبغة الإيمانية، وجعلت النتيجة بهذه الصورة الإعجازية: تفجير فاشل في شارع فرعي، وقتيل واحد هو الارهابي، قاد الى فوز أصحاب النظرية السياسية القائلة : “نحن نعيش حالة حرب”، أو كما قالت الصحف: ” محاولة السبت كانت جرس ايقاظ للذين أنكروا أن تكون السويد تملك سببا للقلق من الإرهاب”.
من التفاصيل الى الخلفيات وأسرارها
إذا تركنا التفاصيل الجرمية البوليسية، وذهبنا الى المناخ السياسي في السويد، نلاحظ أن في هذا المناخ ما يسهم في إلقاء المزيد من الضوء على الصورة الإعلامية الرديئة المرسومة للحدث، كما رويت. منها بقاء كتلة اليمين في الحكم بأغلبية مريحة، وصعود التنظيم اليميني المتطرف المعادي للأجانب ” ديمقراطيو السويد”، وتجدد مناقشة قضية المشاركة العسكرية في أفغانستان، واستقطاب موضوع و”يكيليكيس” سويديا، وربطه بالعدالة السويدية، وجعله مادة لتصفية الحسابات الدولية على أرض السويد. وربما يكون الصراع حول الرقابة الالكترونية أهم وأخطر المثيرات، التي تحفز التداعي الذهني الحر. فمن المعروف أن الصراع حول ما يعرف بمراقبة الإرسال الصوري (أف أر آ) ، وما أثاره من خلاف قوي حُسم برفض مقترح الحكومة القاضي بمنح “سَبو” صلاحيات أوسع في مراقبة إشارات خطوط المواصلات والطرقات صوريا. وفي جلسة للبرلمان، في مثل هذا الشهر من العام الماضي، تم التصويت ضد القرار بأغلبية. لكن سعي الحكومة لم يتوقف، فقد جرت غير محاولة لإعادة الكرّة ولكن بطرق مختلفة.
كان هاجس البحث عن إرهابي حلما عصيا راود طويلا أخيلة التواقين الى إثارة الفزع الاجتماعي، ولم يكن هذا الهاجس قبل الساعة الخامسة من عصر يوم السبت الماضي سوى خيال قديم هجومي الدوافع، يشبه الأماني الشريرة. بعد تلك الساعة المشؤومة غدا واقعا متحققا. هنا تتحد، ما أسميناه، الإرادات المتناقضة ظاهريا. فمن يصنع الخطوة القادمة؟ وما طبيعتها؟
بهذا العمل الانتحاري المحاط بعشرات الأسئلة الغامضة والصور المضطربة حصلت السويد في نهاية المطاف على بغيتها: انتحاريّها الخاص. نعم، لقد تحقق للبعض ذلك، وبأقل الخسائر أيضا: بدون قتلى. الضحية المباشرة الوحيدة في الحدث هو الانتحاري نفسه، أما الضحايا غير المباشرين فلا علم لأحد بهم. بيد أن القضية في النهاية ستظل معلقة بمن يجيب عن السؤال القاتل: من هو الرابح الأكبر؟
المعجزات السويدية التي رافقت الحدث لم تقتصر على حدوث تفجير انتحاري في غير أوانه، وفي شارع فرعي “مقفر” و”مهجور”، لا يبعد سوى أمتار عن أكبر مراكز التسوق في السويد العامرة بالمتسوقين، ولا على موت المفجر وحده، ولا في انتخاب الموقع النموذجي للحدث، الذي شهد من قبل أكبر جريمتين سياسيتين في السويد: إغتيال أولوف بالمه وأنـّا لند، أهم شخصيات الاشتراكيين السويدين والاشتراكية الدولية؛ المعجزة السياسية الأكبر جاءت في جلسة البرلمان ليوم 15 كانون الأول، بعد الحدث بيومين فقط، التي حملت الجواب عن سؤال الربح والخسارة سريعا جدا، بصورة غير متوقعة، حينما صادق البرلمان السويدي بإجماع كاسح- لم ينج من السقوط في فخه سوى حزب اليسار وأربعة أعضاء من حزب الخضر تمردوا على إرادة حزبهم- على قرار يقضي بأرسال قوات عسكرية مقاتلة الى الخارج قوامها الأعلى 855 شخصا، لأجل غير محدد (مفتوح)، والذي يعني حدوث أول انقلاب علني في ترتيب اصطفاف القوى السياسية بعد صعود العنصريين واتفاق حزب الخضر مع اليمين وتناقض شعبية الاشتراكيين؛ ويؤكد أيضا على أن تصعيد مبادئ العدوانية الدولية هو عنوان المرحلة القادمة، وأن التغيير تجاوز حدود الاتفاقات الى جوهر المبادئ التي لازمت الحياة السياسية تاريخيا: إنهاء خرافة الحياد الشكلي أو الدعائي، والتوجه الى الانحياز العسكري السافر والمفتوح. أي أن التغير لم يعد سياسيا وتحالفيا بل دخل عميقا حتى في قلب التوجه الايديولوجي للقوى السياسية المناهضة للحرب والعسكرة. وهذا هو أول ثمار حصول السويد على ارهابيها الخاص،الذي اسمته الصحافة تجميلا بـ “فقدان عذريتها!”.
فتق آخر جديد أصاب العذرية تمثل في النتائج، فعقب يومين على الحدث أعلنت ممثلة السويد في الاتحاد الأوروبي سيسيليا مالمستروم :” أنها تعد صفا من الاقتراحات القانونية” المتعلقة بزيادة الاستعدادات لمواجهة “التصعيدات” الارهابية، وان أوروبا “تصعد” استعداداتها. وبدخول “هوشيار زيباري” على خط الحدث تم الوصول سريعا الهدف الأقصى: ربط السويد بالعراق ربطا رسميا، وتدويل الحدث، لكي تغدو ستوكهولم خطا أماميا في حرب الإرهاب. أي انتقالها من مرحلة الرسوم الساخرة الى المواجهة العنفية المسلحة. بيد أن دخول زيباري في الحدث، الذي أراده البعض أن يكون أداة لتعميق الإحساس بالخطر، وتحويل الهاجس الأمني الى يقين، كان سيفا ذا حدين. فهو سيف قد يفعل العكس تماما، فقد يرغم الذاكرة على استعادة حادثة مشابهة، تتحدث عن انتحاري عراقي من السويد أيضا، جرت محاصرته في الموصل قبل سنتين، فقام بتفجير حزامه الناسف قبل اصطياده من قبل القوات الأميركية.
وعلى الصعيد الايديولوجي الثقافي فقد فتح الحدث نافدة الصراع المغلقة على مصراعيها حينما هاجم الصحافي المخضرم أولف نلسون المسلمين علنا من على صحيفة (اكسبرسن) قائلا: “إن نمو التأثير الاسلامي أمر حتمي. باختصار شديد. نحن نعيش حالة حرب”، وعلى الرغم من أن الصوت الديموقراطي رد سريعا من على الصحيفة ذاتها، حينما اتهمته آن شارلوت مارتيوس بـ ” العنصرية ومعاداة الإغراب” ، لكن النار فتحت في عدد الأحد من صحيفة (داغسنيهيتر) على دفاع الكاتب اليساري جان جيو ( Jan Guillou ) عن المهاجرين في قضية إرهاب سابقة، متهمينه بأن ” تتفيهه للتهديد الذي يمثله الاسلاميين ليس جديدا” . بهذا النهاية قام الحدث بفتح قمقم الصراع الفكري علنا، وباتحاد هذا الصراع بالاجراءات الأمنية والسياسية والقانونية السريعة اكتملت صياغة عنوان المرحلة القادمة.
خاتمة وخلاصة
لم تقتصر حالة الفوضى على الإعلام وحده، فقد سقط في فخها أبرز ممثلي السلطة أيضا. أول من أذاع خبر التفجيرات، رابطا بينها والإرهاب، هو وزير الخارجية السويدي كارل بـِلد. ولهذا الفعل مغزى خاص جدا، يوضح بعضا من غوامض الصورة واضطرابها. وسبب ذلك يعود الى طبيعة ومكانة بـِلد كشخصية سياسية قادت حزب وحكومة اليمين السويدي فترة غير قصيرة قبل أن يصبح وزيرا للخارجية. خلال تلك الأعوام تكرر ظهور اسم بلد في المواقع الدولية الملتهبة عسكريا وعرقيا: أحداث البلقان والعراق ودار فور، ومن خلال نشاطه الحكومي والشخصي سعى لأن يكون مؤسسا للاتجاه الجديد في السياسة السويدية، القائمة على مبادئ قوامها إتحاد رأس المال بالقوة العسكرية والمصالح السياسية المرتبطة بالأزمات العالمية، وهو اتجاه أميركي يميني متطرف في ثوب يميني أوروبي مًلطـَّف. كان إعلان كارل بـِلد عن الحدث واقعة سياسية ووظيفية وأمنية مثيرة، لأنه سبق رئيس وزرائه بأكثر من عشر ساعات في إفشاء السر وطبيعة الفعل الإرهابية، على الرغم من أن بـِلد أدرى من غيره بالتقاليد الوظيفية والحزبية، لأنه كان رئيسا سابقا للوزراء ولحزب اليمين. ولم يكن تعليله للتسرع مقنعا أيضا، أومبررا لتجاوزه على صلاحيات رفاق حزبه وقيادة البلاد الحكومية والأمنية. بيد أن الأمر الوحيد الأكثر إفصاحا والأكثر إقناعا، الذي طفح من هذه العجالة، هو رد فعل بـِلد اللاشعوري: زفرة الارتياح التام، لأن السويد حصلت أخيرا على انتحاريّها الخاص.