سقوط الأطراف بعد سقوط القلب
ميشيل كيلو
أصبح من يكـتب عن الوضـع العـربي يخجل من القراء، لشدة ما يجد في وضع العرب الراهن من نواقص وعيوب، جلها قاتل، يخاف إن هو تحدث عنها أن يدخل اليأس إلى قلب من يتلقاها ويقرؤها، فتسودّ الدنيا في وجهه أكثر مما هي سوداء، ويشعر أن وجوده كعدمه، لا لزوم له ولا وظيفة.
يبدو الناظــر إلى الواقــع العــربي اليوم، كالبوم الذي يحب بالخــراب، ويعيش في الخراب، مع أن الخراب العربي القائم ليس من صنع القراء أو الكتاب، بل هو من صنع من لم يصنعوا شيئاً إيجابياً على الإطــلاق، رغــم ما كانوا قد وعدوا بتحقيقه مـن تقدم وازدهــار، وعدل وإنصاف، وتنمية وقـوة. وها نــحن ذا نبحث في حياتنا عن إيجابية واحدة تقابل الســلبيات الكثيرة فلا نراها، إلا إذا كان الانقسام العربي، أو التأخر العربي، أو العجز العربي عن اللحاق بالدنيا وحماية النفس، هو هـذه الإيجابية!
عندما يستيقظ الواحد منا في الصباح، يسبّح خالقه ويتمنى أن يكون يومه عاديا. لكنه ما أن يجلس أمام التلفاز أو يفتح الجــريدة، حتى يشعر أن بؤس الليل الذي نام مبكراً هرباً منه، يمسك بتلابيبه، فليس في كل ما يسمعه عن بلاده وبقية البلدان العربية خبراً واحــداً ساراً، ومع أنه يغير محطات التلفـاز، إلا أن فلســطين تمثل له في كل شاشة، فإن انتقل منها إلى غيــرها من ديار العرب أو العربان، نفرت في وجهه فجائع اليمن والسودان والصـومال والعـراق ولبنان ومصر والكويت والبحـرين وشمـال أفريقيا العربي، عندئذ يمكنه أن يفر من السياسة إلى الاقتصاد، ومن العلم إلى التربية، ومن الصحة إلى النقل، ومن البيت إلى العمل، فلا نجاة له من البؤس العام السائد في كل مجال من هذه المجالات، المتغلغل إلى كل تفصيل عام وخاص من تفاصيل وجوده، والذي يلفه داخل شرنقة خـانقة من أزمات تحيق به من جميع الجوانب، فتقيد يديه وتكبل عقله، مـع أنها تــزيحه جــانباً إلى ما بعد هامش الوجود الثانوي، حيث يجد نفسه كائناً لا لزوم ولا دور له، ليــس من حـقه أن يكون له مطالب حتى إن كانت تتصل بحياته وحياة أحبائه، كأن يكون سكنــه لائــقاً أو عمله مجزياً أو احترامـه وافــراً أو شخصه مصاناً أو بيته آمناً… والمصيبة أن هذه الحال الفردية والشخصية التي يعيشها المواطن، وتجعله يجتر حياة مهلكة ينعــدم فيــها الأمل، ويسيــطر عليها الاقتناع بأن مسالك الدنيـا والــحياة مغلقة، وأن ليـس للإنـسان أي دور أو رأي حتى في حياته الخاصــة، الخــاضعة دوماً لرقابة «أخ كبير» ما يقوم بمــهامه نيابة عنه: من التفكير إلى التــقرير إلى الأكــل على أوســع نطاق وبالشــدقين معاً، فالأخ الأكــبر يأكل الأخــضر والــيابس، ولا يــترك له شيـئاً، وقد بدأ يضم حتى الفتات إلى وجبــاته، بعــد أن كان يترك شيئاً منــه للزاحفين على بطونهم أمامه.
بنظـرة سريعــة إلى الواقــع العربي، يجد المرء حقائق ثلاث لا سبـيل إلى إنكـارها أو تجميلها:
1 ـ خصومات الحكومات، التي تزداد تعمقاً وتتغذى ذاتياً، وخاصة منها حكومات البلدان المتجاورة، التي تتعادى حتى الموت وتختلف على كل كبيرة وصغيرة، فتتحالف ضد جيرانها مع الدول التي تليهم، حتى إن كانت أجنبية أو حتى عدوة كإسرائيل.
2 ـ خصومات الحكومات مع شـعوبها وبالعكس، حتى أن الناظر إلى حال العرب الداخلي يعتقد أنهم في حالــة حرب كامــنة يمكن أن تنفجر وتصير معــلنة في أي حــين، وأن لا هم لحكوماتهم غير تخــويف وترويـع وقمع وكبت شعوب»ها»، التي لا تتوقف عن التغــني بحبها لها في إعلامها البائس، بـينما تــضمر هذه بالمقابل من الحقد على حكوماتها ما يفــوق حقدها على أي شيء آخر، بما في ذلك أعداؤها الخارجيون. هناك حــالة حرب أهــلية حقيقية في معظم بلداننا العربية، لا يدري أحــد متى يمكن أن تنفجر، لكن الجميع يثق ثقة مـطلقة بأنها ستنفجر ذات يوم، يظن عــرب كثيرون أنه ليس، ولا يمكن أن يكون، بعــيداً، بل إن بعــضهم يتمناه من أعماق فــؤاده، والدليــل: قبول أقســام متعاظــمة من المواطنين أفــكاراً وخطــطاً وبرامــج، ما كانوا ليقبلــوها قطـعاً قبل بــروز النـظم السلــطوية الراهــنة، أي قبل عقــود قلــيلة. هل نذكر هنا بالحــروب الناشبة على أكــثر من أرض عربيـة، ونلفت النــظر إلى طابعها العـنيف والمســلح، الذي حلّ محل النضال الجماهيري السلمي بالأمس القــريب، الذي لم يعــرف العـنف والسـلاح، رغم أن الحكومات كثيراً ما كانت تعنف ضده وتقمعه بالقوة.
3- وهنا الطامة الكبرى: خصومات مكونات المجتمعات العربية بعضها ضد بعض، التي امتدت وانتشرت وطاولت حتى المكون الديني أو الإتني الواحد، فكيف بالمكونات المتــباينة. بافتقارها إلى الشرعية الشعــبية، وخــلو برامجها من التحديث بمعناه الحقيقي، أي المجتمعي، اعتمدت معظم النظم على تكوينات ما قبل مجتمعية، طائفية وقبلية وجهــوية جعلت منها سندها الداخلي، وسعت، بالمـقابل، إلى تفكيك مجتمعاتها وشحنها بعوامل الفرقة والتفجر، فتظـهر هي بمـظهر من «يـضمن» سلامها وبقاءها موحدة، ويمـارس الدور الذي لطالما قيل إن الدولة تمارسه: الوقوف فوق الصراعات الاجتماعية، ولكن الذي لا يريد عندنا حلها أو إيجاد تسويات بينها كما في الدول الحديثة، بل التحكم بالمجتمع من خلال التحكم فيها وإدارتها.
هنا توجد مشكلة مرعبة تتخطى السياسة والسلطة والنظم السـياسية إلى وجـود المجتمعات العربية نفسها، التي حاولت القوى الاستعمارية نسفها، وتحــريض مكـوّناتها بعضها ضد بعض، لكنها فشــلت أيمــا فشل، وها هي الحكومات العــربية الكــريمة تحقق لها ما أرادت في شروط مختلفة، أشد سوءاً من الشروط التي سادت في حقبة الاستعمار، حيث توحّد الشعب ضد الأجانب وصـهره نضــاله ودمج مكوناته، حتى بدا وكأن المجتمع العربي بدأ فعلا يدخل عالم الحداثة والتقدم، فإذا بالنظم العربية تنجز بعد الاستقلال العكس: تهشمه وتشقه وتتلاعب بتناقضاته لغرض وحيد: دوام سلطتها.
هذا التطور، الذي يكاد يدمّر العالم العربي بالمعنى الحرفي للكلمة، مر بمراحل اعتقد أنها، باختصار، التالية: مع سقوط مصر الناصرية كمركز للتحرر والنهوض الوطني والقومي في الوطن العربي، ما لبثت أن سقــطت الفكرة العربية كفكرة جامعة، ومثـلما حــلت مـحل مصر مراكز دنيا هي التي بدأت التجارب السلطوية المدمرة، كذلك حلت فكرة السلطوية الدنيا بإفرازاتها البين عربية والداخلية المدمرة، التي ذكرت أهمها، محل فكرة وحدة العرب، بينما كان العدو الإسرائيلي يدوس الجميع ويحتل الأرض ويهزم الجيوش ويضع سقوفاً شديدة الانخفاض لتطورها، ويدفعها دفعاً نحو السلطوية، لعلمه أن صراعاتها العربية (القومية) الداخلية (الوطنية والاجتماعية) ستشلها، وستخرجها من الصراع معه، وستدفعها إلى طور جديد من سياسات تكون إسرائيل فيه مجرد عدو لفظي / كلامي، وليست عدواً يتركز أي جهد رسمي / شعبي موحّد وطويل على عمل ميداني وفاعل ضده.
لا عجب أن العــالم العــربي يشبه اليوم بيتاً من كرتون هبت عليه عواصف السلــطوية فحطمت ركائزه وجدرانه وأطاحـت بسـقفه، وها هو يتهشم أمام أعيننا، حيث يتنازع سكانه ويحاول كل واحد منهم الفوز بأكبر نصيب من حطامه، ليبني لنفسه بواسطــته بيتاً جديداً يكون له وحده، سيكون على الأرجــح مجرد متراس أو موقع لإطلاق النار في حرب أو حروب قادمة، ستنقل العلاقة بين مكونات المجتمع السابقة إلى طور جديد وغير مسبوق من العداء والعنف، هو بالقطـع والتأكيد مرحلة نوعية جديدة في تفكك العالم العـربي ومجتمعاته ودوله.
كلما قدّم كاتب صورة حقيــقية عن الــواقع، شعر أنه يحبط قراءه الذين قد يتهــمونه بالتشاؤم. هكذا صـارت الواقعــية رديف التشاؤم، وصار وصف الواقــع يعــني زرع التشاؤم في نفوس العرب. أليست هذه المعادلة خير دليل على الخراب العام؟ ماذا يعني أن يكون الحديث عن الواقع مثيراً للتشاؤم والحزن وليس للتفاؤل والأمل؟ إن واقعنا محبط ويبعث على اليأس، وهو لن يزول بغير نقض أسسه الثلاثة وتقويضها كمدخل إلى تقويض السلطوية السائدة، وإلا لا أمل ولا فرصة في نجاة للأمة أو للوطن والمواطن.
يغرق وطنــنا أكثر فأكثر في مشكلات تجعل مأزقه شاملاً وغير قابل للحــل بالوســائل المتاحة الآن وعن طريق حكوماته. بعد سقوط المركز، ها هي الأطراف تسقط تباعاً أو توشك أن تسقط. ترى، ماذا سيبقى من وطن لا مركز له ولا أطراف؟
السفير