العالم العربي: احزاب حاكمة ام محكومة؟
ميشيل كيلو
ليس وضع الأحزاب جيدا في العالم كله. وهناك شكوك جدية في جدارة الحزب كمؤسسة وأداة نضالية تعززت بعد انهيار نمط الأحزاب التي سميت طليعية وثورية في المعسكر الاشتراكي السابق، وكانت الثقة في فاعلية لحزب الثوري قد بدأت تختفي قبل ذلك بعقود في مجتمعات غرب أوروبا الرأسمالية المتطورة، التي عجزت أصلا عن التوطن في بلدان رأسمالية عالية التقدم كالولايات المتحدة واليابان وألمانيا الغربية … الخ، كان ماركس قد رشحها لأن تكون أول المتحولين إلى الاشتراكية، نتيجة لتفاقم التناقض الرئيسي، فيها أكثر من غيرها وقبل غيرها، بين طابع الإنتاج الاجتماعي والطابع الفردي لملكية وسائله وأدواته.
بدورها تعاني الأحزاب الإصلاحية في الغرب، التي نشأت في سياق التطور الرأسمالي من مشكلات متنوعة تتصل بطابعها وقدراتها وأدوارها، ولا يماري أحد اليوم في أن الحزبين الديموقراطي والجمهوري في أمريكا هما حزبا نخب السلطتين السياسية والاقتصادية، وأن الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية والمسيحية في أوروبا الغربية تواجه مشكلات تكيف جدية تتصل بتمايزها واختلافها بعضها عن بعض، وبتحولها المحتمل إلى جماعات ضغط يتناقص الفارق بين الجهات التي ترتبط معها، بينما تنفض عنها المجتمعات وكتلها البشرية الكبرى، ويضمر دورها في التأثير على الدولة والمصالح السائدة، ويتعاظم التذمر من وظائفها كتشكيلات تلتحق بأفراد أقوياء تتركز مهمتها أكثر فأكثر في إيصالهم إلى سدة السلطة، حيث يشرعون في التنكر لوعودهم الاجتماعية والاقتصادية، وممارسة سياسات تخدم بالدرجة الأولى من أوصلهم إلى مراكزهم العليا من أصحاب المصالح، الذين كانوا يتوعدونهم خلال حملاتهم الانتخابية ويحملونهم مسؤولية المشكلات التي يعاني منها العاملون، أي أغلبية الشعب، ثم أسفروا عن وجههم بعد فوزهم فإذا هم جماعتهم السياسية المدافعة عنهم.
أما عندنا، نحن العرب، فإن الحزب كمؤسسة سياسية كان في معظم أشكاله وفترات نشاطه منظمة نخبوية، تأسست كي تلبي طموح نخب جديدة أو صاعدة إلى المشاركة في مغانم السلطة، لذلك تكونت من أفراد توافقوا على رؤية برنامجية أو سياسية، انضموا بعضهم إلى بعضهم في حزب، كي يبدؤوا ‘معركتهم’ من أجل السلطة أو في سبيل مغانمها، مدعين أن ما يفعلونه هو مصلحة شعبية هل يفسر هذا لماذا تصرفت جميع أحزابنا كأحزاب ‘ثورية’ / نخبوية، رغم أن بعضها أراد أن يكون ليبراليا وبعضها الآخر ديموقراطيا أو شعبيا ؟.. كانت السلطة محور السياسات الحزبية، فغاب المجتمع عنها ولم يكن هدف جهدها الرئيسي، أو كان مجرد قناة جانبية وحسب تقود إلى، أو تحسن المواقع في المعركة من أجل السلطة. ولا عجب أن كل ما له علاقة بالتنمية السياسية للمجتمعات بقي غائبا عن وعي وعقل معظم الأحزاب، إن لم يكن عنها جميعها، وأن ثقافتها وسياستها وممارستها كانت نخبوية تحت / سلطوية فوق، ولم تكن مجتمعية الخطاب ناهيك عن التوجه إلا في بدايات بعضها، علما بأن المجتمعي ما لبث أن اختفى من منظوراتها أو تلاشى، لتحل محله تراتبية تنظيمية ورؤية أيديولوجية نافية للديموقراطية والحرية، جسدتها حقيقتان:
– ان الأحزاب لم تكن ديموقراطية البنى والوعي، ومع أنها قامت على الانضمام الطوعي للأفراد المنتسبين إليها، إلا أنها لم تعرف فكرة الحزبي كفرد حر ولم تروج لها أو تقبلها، وقالت بضرب من الانضباط يخضع في الأدنى للأعلى خضوعا أعمى، في علاقة إقطاعية الجوهر جعلت الحزبي عند قادته أشبه بالمرابع عند سيده الإقطاعي، فبقي كل ما له علاقة بالحرية والديموقراطية ومسائلهما غريبا وبعيدا عن الأحزاب، وأغلق طريقها إلى الحداثة من جهة، وإلى الأخذ بفكر وواقع المؤسساتية في العمل العام من جهة ثانية، لذلك كانت في عمومها معادية بنيويا وروحيا للمجتمعية والمدنية، ورأت في الشعب مفهوما ضيقا وحزبيا جماعتها غالبا ولم تر فيه كيانا يجب أن يكون مستقلا نسبيا عن تعبيراته الحزبية هو حامل الحرية والتقدم مفهوما وواقعا، وحاضنة لا تكون بدونها سياسة أو أحزاب، ناهيك عن تنمية وعدالة ومساواة وحرية.
– أنها لم تكن أحزابا مجتمعية، وتاليا عامة، عابرة للتكوينات الجزئية، بل كانت هي ذاتها بالأحرى تكوينات جزئية في تنظيمها، وعبرت عن تكوينات دنيا، ما تحت جزئية غالبا، سواء في سياساتها أم في برامجها، لذلك نجدها تسعى إلى أمرين في آن معا: التقرب أولا من السلطة واحتلال رؤوس جسور فيها، وخاصة منها مؤسسات القوة المنظمة والرأي المؤثر أو الحاسم كالجيش، والتعبير ثانيا عن مصالح ووجهات نظر فئات يدعي كل حزب أن مصالحه هي عين مصالحها ومصالحها عين مصالح المجتمع، أو هي ستصير حتما كذلك، بعد استيلائه على السلطة.
مع هذه الحركة المزدوجة على ما فيها من تعارض وتناقض نظري وعملي، والانعدام الفعلي لوجود أي بعد مجتمعي فوق أو طبقي، مدني وتاريخي تحت، لهذه الأحزاب، واقتصار دورها على فكرة ترى أن مشكلة السلطة هي مسألة السياسة الرئيسية، كان من الطبيعي أن تكون أحزابا تتطلع إلى السلطة قبل استيلائها عليها – أو تستأثر بها وتستبعد غيرها عنها بعد أخذها، ثم تابعة لها في آخر المطاف، مع ملاحظة مهمة هي أن من قام بأخذ السلطة في عالم العرب باسم الأحزاب كان العسكر، الذين مثلوا قوة السلطة القديمة وروح الجديدة، واحتكروا الحكم أكثر فأكثر، وابعدوا المدنيين عنه أو كيفوهم معه وحولوهم إلى ما أراد هؤلاء أن يكونوه دوما : أدوات سلطة يشاركون فيها أو يخدمونها، بصورة دائمة أو مؤقتة. عن بداية الانقلاب، كان يقال دوما إن السلطة هي سلطة الحزب، بعد أعوام قليلة صار يقال، بحق : إن الحزب هو حزب السلطة. حدث هذه لأسباب كثيرة أهمها هو أن العسكر تبينوا بسرعة عجز الحزب عن الاستيلاء على السلطة وإدارتها، لأسباب بينها ضعفه وفوات وعيه وغربته عن الواقع والمجتمع وطابعه الجزئي، فقرروا فعل ذلك بأنفسهم باسم الحزب أولا، ثم عبر الاستعانة بالحزبيين كأفراد وليس كشركاء مقررين في طور تال، دون أن يتخلوا عن اسم حزبهم باعتباره واجهة أيديولوجية تمنح شرعية سياسية ومدنية ما للسلطة الجديدة، التي أدركت أن الطبقة الوسطى هي الجهة الوحيدة التي تحمل بعض الخطورة بالنسبة لها، فلا بد إذن من عزلها عن السياسة والشأن العام، وربطها بالسلطة في آن معا، ولا مفر من استخدام الحزب كإطار تنضوي فيه يحيدها ويشلها حتى بالولاء، وكبؤرة يتم بواسطتها اصطياد عناصرها الأكثر حيوية وجلبها إلى حيث تخدم السلطة، التي تسع بذلك دوائر وجودها المجتمعي وفاعليتها الشعبية، علما بأن هذا الدور يمنع الطبقة الوسطى، في الوقت نفسه، من التواصل مع البيئة غير السلطوية والتأثير فيها، خاصة وأن نشاطا كهذا يمكن أن يخل بلعب السلطة وتوازناتها، التي كان الحزب قبل استيلائها على السلطة يقاتل ضد الحرية داخل صفوفه، فأخذت هي تقاتلها في المجتمع كله، بوسائلها وأجهزتها المنظمة، وتحت تغطية ‘حزبية’ دائمة.
باختصار : انقلب الحزب على السلطة التي كانت قائمة، وفي الوقت نفسه انقلب عسكره عليه فالانقلاب انقلابان:
واحد ضد الخصم السياسي، وآخر ضد الحزب الخاص، واحد أطاح بالعدو وآخر أطاح بالحزب وحوله إلى حزب سلطة كيف نفسه مع متطلباتها وبدل وظائفه، فلم يعد ناقل مطالب المجتمع إلى الحكم، بل ناقل أوامر الحكم إلى المجتمع، والمشارك في مراقبته وضبط حركته، فلا عجب أن تضخمت أحزاب السلطة عدديا إلى درجة الانتفاخ، بينما كانت تفقد استقلاليتها وقدرتها على تقرير شؤونها والنهوض بأي دور في الشأن العام، مجتمعيا كان أم سلطويا.
ومن يراقب حال الأحزاب، يجدها بلا أية فاعلية في محيطها، بل وعاجزة عن إقناع أعضائها بالقيام بأي نشاط حر أو مبادرة مستقلة من أجلها، بعد أن غدا من الصعب التمييز بين الحزبي وغيره من موظفي الأجهزة، واكتسح الفساد القيادات، ووقع انفصال طبقي وروحي بينهم وبين القواعد، واحتلت السلطة كامل المساحة التي يفترض بالحزب احتلالها، وحل رجل السلطة وكادرها وموظفها محل الحزبي في حمايتها وتنفيذ سياساتها، وتحول الأخير إلى تابع لأجهزتها أو عامل في صفوفها، وصار يعرف نفسه بدلالتها بدل تعريفها بحزبه، الذي تلاشى على وجه التقريب تأثيره في السلطة، بينما نما بالمقابل تأثيرها عليه، حتى صار واضحا لكل ذي عينين أن الحزب باق بفضلها وببقائها، وأنه لن يقوى على الاستمرار بدونها أو ضدها، ولم يعد وجوده ممكنا بعدها، فليس بوسعه الانفصال عنها، رغم ما يجره ارتباطه بضروراتها وآليات عملها وأخطائها وفسادها من سلبيات مهلكة عليه، ويورطه في مواقف ليست في مصلحته ولا تتفق مع ما تمليه أيديولوجيته عليه.
يعاني الحزب في بلداننا أزمة هيكلية حقيقية، مواليا كان أم معارضا، بسبب قوة النظام السلطوي الشمولي، الذي يعيد إنتاج المجتمع انطلاقا من مصالحه وعلى صورته ومثاله، قدر الإمكان وبما يناسبه، وبالمقابل، نتيجة لضعف المجتمعات العربية وتهافت ما نشأ فيها من تعبيرات حزبية وسياسية، كانت هشة قبل استيلائها على السلطة، وفقدت معظم دورها ووظائفها بعد ذلك، فالأحزاب المسماة حاكمة هي بالأحرى محكومة، تسيرها الآلة التي استولت على السلطة : عنيت الأجهزة السرية، التي نما نفوذها حتى صارت قوى مقررة، وحولت الأحزاب إلى أذرع وأعين لها لا علاقة ذاتية أو خاصة لها بالمجتمع ومشكلاته، ولا حق لها في طرح حتى مشكلاتها الذاتية والخاصة، التي غدت جميعها تفريعات من مشكلات سلطة تلتهم وتحيد يوميا أحزابا لطالما زعم إعلامها أنها قائدة ومسيطرة !.
باندماج الأحزاب في السلطة، وتحولها إلى فروع وامتدادات لأجهزتها، فقدت هذه طابعها الأصلي، وغدت تكوينات ذات عصبيات سلطوية تنفي العصبية الحزبية، وتدرجها في إطار ما قبل مجتمعي فئوي / قبلي / شخصي / طبقي … الخ – وفوق حزبي / شبه دولوي في آن معا، مما يضيع هوية المنتسبين إلى الأحزاب ويجعلهم منتسبين إلى أجهزة سرية، ويضفي على الأحزاب طابعا سريا يفضح أكذوبة أنها حاكمة ومسيطرة وقائدة. ولو تابع المرء ما يمارسه الحزبيون من نشاط في ظل سلطت’هم ‘، لوجد أنهم لا يقومون بأي نشاط مستقل، ويخضعون لما يخضع له غيرهم من غير الحزبيين، وأن سلطتهم لا توفرهم عند الضرورة، إن خرجوا عن الدور المرسوم لهم في خدمتها.
تعيش الأحزاب العربية حالة من الانحطاط السياسي والتنظيمي وتتحمل مسؤولية كبيرة عن تدهور وبؤس الواقع العربي. في مطالع القرن العشرين، لم يكن لدينا أحزاب، وكان لدينا حركة مجتمعية قاومت الاستعمار وحققت إنجازات وطنية حقيقية. بعد نصف قرن نشأت الأحزاب ثم استولت على السلطة، فاختفى المجتمع وبدأ يتهاوى ويتفكك. يرجع هذا إلى نشأتها كتكتلات نخبوية ضعيفة، أو عديمة الجذور، في مجتمعاتها، التي كبح اندماجها الوطني والطبقي الحديث.
ويعود كذلك إلى قوة السلطة التي تستخدمها إن كانت موالية وتلاحقها إن كانت معارضة، وإلى غياب الفرد كمواطن حر ومنتج عن شأن عام صعب التعريف وقليل التبلور بدوره. ولعله من المفيد بالنسبة لأية محاولة حزبية جديدة أن تدرس أنماط الأحزاب القائمة وتجاربها، وأن تفكر لماذا وصلت جميعها إلى حيث هي الآن: في جيب السلطة أو سجونها. ولا بد أن ينشأ ذات يوم في ديار العرب حزب من نمط مغاير، رهانه المجتمع المدني والمواطنة وليس السلطة والنخبة، وحامله المواطن الحر لا الحزبي المطواع، ركيزته الرئيسية الحرية: في صفوفه وداخل المجتمع والدولة، ليست السلطة هدفه الأول بل الأخير، الذي لن يصل إليه بانقلاب عسكري أو مؤامرة، بل بانقلاب إصلاحي مديد، يخلو من العنف ويلمس المجتمع آثاره المباشرة في حياته، فيمنحه ثقته، ويؤيده دون أن يتبع له أو يسير وراءه أو يسمح له بخداعه أو الكذب عليه. عندئذ، سنكون قد وضعنا أقدامنا على طريق الحرية والوحدة والتقدم!.
‘ كاتب وسياسي من سورية